«ستراتفور»: أزمة مياه كامنة.. الشح المائي يهدد خطط التحول الاقتصادي في السعودية
على الرغم من افتقار الصحراء غالبًا للمواد الطبيعية اللازمة لازدهار الحياة، كانت السعودية الحديثة قادرة دائمًا على النمو. وكانت القوّة الدافعة لهذا النمو هي الهيدروكربونات تحت الأرض، الأمر الذي يعني أنّ انخفاض أسعار النفط تضرّ الاقتصاد السعودي، وهو ما أدّى إلى تفاقم قضايا أخرى، مثل ارتفاع عدد السكان وانتشار البطالة بين الشباب. وكانت هذه المخاوف الداخلية مصدر رعب للحكومة التي تشهد تغيّرًا في السياسة الخارجية لها في المنطقة.
وتتطلّع الحكومة من خلال تدابير التقشّف وفرض السعودة، ومحاولة توظيف المزيد من السعوديين بدلًا من المغتربين، إلى معالجة بعض من أكثر القضايا الملحة في التوظيف والإنفاق العام. وقد وضعت الرياض أيضًا أهدافًا عليا لتحقيقها خلال العقد القادم من خلال مبادرة رؤية 2030. لكنّ السؤال المطروح الآن، ما هي الأشياء التي من شأنها أن تعيق هذه الطموحات. وتحت هذه الأشياء كلها واحد من أكثر المصادر الأساسية المحدودة في السعودية، الماء.
تحليل
كون السعودية بلدًا تعاني من ندرة المياه، فذلك لا يشكّل مفاجأة. فالبلد الأكبر في شبه الجزيرة العربية معظمها صحراء قاحلة، مع بعض الأجزاء الأكثر رطوبة في الشرق. وفي الحقيقة لقد اعتادت المملكة أن تتعامل مع هذا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد اعتادت القبائل التي سكنت المنطقة التأقلم على العيش هكذا منذ عدّة قرون. ومع ذلك، فإن الإفراط المتواصل في الاستخدام خلال النصف الثاني من القرن الأخير وتصاعد الضغوط الديموغرافية والاقتصادية خلال العقود القادمة، يدفع إمدادات المياه في السعودية إلى نقطة الانهيار.
لا شيء في الصحراء؟
تجبر المياه السطحية القليلة للغاية في جميع أنحاء البلاد الكتلة السكانية الكبيرة والمتزايدة للاعتماد على المياه الجوفية. وتكفي المياه فقط لتزويد كل شخص سنويًا بمقدار 76 متر مكعب من الماء، وهو قدر أقل بكثير جدًا من حد ندرة المياه المقبول عالميًا بـ 500 متر مكعب مياه للفرد سنويًا. وحتّى مع أكبر قدرة تحلية للمياه في العالم، فإنّ استهلاك السعوديين من المياه يفوق المتاح من الموارد المائية المتجدّدة لديها.
علاوة على ذلك، فإنّ المياه الجوفية التي توفر غالبية إمدادات المياه في المملكة بطيئة في إعادة الشحن. وعندما يتمّ سحب مياه أكثر من المطلوب، تنخفض مستويات المياه الجوفية وجودتها. والمياه الجوفية الموجودة في السعودية معروفة بأنّها «مياه أحفورية» ومعدّلات تجدّدها بطيئة للغاية، ويمكن أن تدمّر تمامًا إذا تمّ الإفراط في استخراجها. وتفيد بعض التقديرات، أنّ موارد المياه في أجزاء من البلاد تتعرض لخطر الاختفاء خلال الـ 20 عامًا القادمة. وتعدّ السياسات الزراعية التي اتّبعتها المملكة خلال الـ 50 عامًا الأخيرة سببًا رئيسيًا إلى حدٍّ كبير فيما آل إليه الوضع، والتي ضغطت على موارد البلاد المتدنية.
وتظهر الإحصائيات بوضوح كيف أنّ الزراعة استحوذت على غالبية استخدام المملكة من المياه. فالسعودية ما بين السبعينات والثمانينات، وعلى عكس المعروف عنها كأرض ممتدة لا نهاية لها من الصحراء والرمال والأرض الجدباء، أصبحت الدولة السادسة عالميًا في تصدير القمح. وكانت الحكومة مسؤولة عن هذه الزيادة الإنتاجية فوق أهداف الاكتفاء الذاتي وما يفيض عن قدرات التخزين في البلاد. وخلال التوسّع الزراعي، ارتفعت المساحة المروية من الأرض بنسبة 400 بالمائة خلال أقل من 20 عامًا.
ومع الوقت، أصبح من الواضح عدم وجود استراتيجية للاستدامة، وخاصةً في الإنتاج المحلي للحبوب. وانخفض إنتاج الحبوب في النهاية، لكنّ الإنتاج في قطاعات زراعية أخرى لا سيما السلع الغذائية عالية القيمة مثل الفاكهة والخضروات واللحوم ومنتجات الألبان، لم تشهد انخفاضات مماثلة. وحتّى مع تقلّص المبادرات الحكومية الرئيسية، لم تتقلّص نسبة الأرض المروية.
ولا تزال الزراعة حتّى الآن هي المستهلك الأكبر للمياه في البلاد، مع أنّ الاستهلاك المحلي والصناعي للمياه في تزايد أيضًا. وارتفع الطلب على المياه الصناعية بمعدل 7.5 بالمائة في السنة خلال السنوات الأخيرة ومن المتوقّع أن يستمر الطلب في التزايد بمعدلات أكبر، ليصل إلى 50 بالمائة خلال 15 عامًا. ومع سعي الرياض لتنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد على النفط والغاز الطبيعي (وهو الأمر الذي من المتوقّع أن يتطلّب مياه أكثر كذلك)، ستستمر هذه الأرقام فقط في النمو، وخاصةً مع كون النمو الصناعي والصناعات التحويلية هي جزء أساسي من رؤية 2030. وسيكون من الضروري تنمية نسب تحلية المياه لتلبية هذه المطالب.
المياه الاصطناعية
للمساعدة في تلبية الاستهلاك المرتفع للمياه، تسعى الرياض لتوسيع عمليات تحليل المياه الموجودة بالفعل، وكذلك إنشاء مشاريع جديدة. ولمواكبة الطلب في المناطق الحضرية، تقدر الاستثمارات المطلوبة من الحكومة بقيمة 30 مليار دولار خلال الـ 15 عامًا القادمة.
وتوجد العديد من المصانع تحت الإنشاء، ويوجد أكثر منها لا يزال قيد التخطيط. وإذا تمّ إنجاز كافة المشاريع المخطّط لها، قد تضيف نحو 3 مليون متر مكعب من المياه يوميًا إلى السعة المائية للبلاد. لكنّ الوقود المطلوب لتشغيل هذه المصانع الجديدة لإنتاج المزيد من المياه الاصطناعية من المحتمل أن يزيد معدلات الطلب المحلي على النفط، الأمر الذي يهدد استدامة صادرات الطاقة في المملكة. ومع ذلك، فإنّ العديد من هذه المصانع تحت الإنشاء، ومن بينها ما سيصبح أكبر مصنع لتحلية المياه بالطاقة الشمسية في العالم، لذا سيسهم الطلب على الطاقة من أجل تحلية المياه في ارتفاع الطلب المحلي على النفط.
وسيكون لهدف السعودية في الخصخصة دور في قطاع تحلية المياه. وانخفضت حصة المياه المحلاة التي تنتجها المؤسسة العامة لتحلية المياه التي تديرها الحكومة، من 84 بالمائة عام 2009 إلى أقل من 60 بالمائة عام 2013. وتأتي شركة الجبيل للمياه والكهرباء وشركة الشعيبة للمياه والكهرباء كأكبر شركتين منتجتين للمياه المحلاة بعد المؤسسة العامة، وهما من صنعا هذا الفارق. ويمثّل القطاع فرصًا محتملة لزيادة توظيف المواطنين السعوديين وكذلك فرصة للتعاون مع المستثمرين. وقد تمّ فتح قطاع تحلية المياه أمام الأجانب أيضًا. فجبيل، على سبيل المثال، والتي كانت شركة مساهمة من السعوديين، استطاعت جذب تمويل كويتي وشراكة مع شركات فرنسية وأمريكية وكورية جنوبية. وكانت هناك بعض المؤشرات أنّ الرياض قد تهتم بالتعاون مع (إسرائيل)، البلد التي طوّرت تقنيات تحلية المياه وإعادة تدوير المياه لضمان أمنها المائي.
ومع ذلك، لن تقترب تحلية المياه من سد الفجوة بين الطلب والموارد المتجددة من المياه. ولحماية إمدادات المياه المتناقصة، يجب على المملكة أن تستثمر في قطاع المياه، والحدّ من نظام الهدر، وتقليل معدلات الاستهلاك الزراعي والصناعي، حيث تعتبر المملكة واحدة من أعلى معدلات استهلاك المياه للفرد الواحد في العالم.
وفي حين تعترف الحكومة بهذه الحقيقة، فإنّ عموم الشعب يرفض أي تغيير في أسعار المياه. وعلى سبيل المثال، فقد أدّى شمول تخفيض دعم المياه داخل تدابير التقشّف التي أقرّتها الحكومة في العام الماضي، إلى غضب شعبي عارم، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إقالة وزير المياه والكهرباء في أبريل/ نيسان عام 2016. وسيكون من الصعب كذلك إجراء أيّة تغييرات جديدة على الأسعار. وحتّى محاولات السعودية للحدّ من الاستهلاك الشخصي للمياه من خلال حملات التوعية العامة، والتي نجحت إلى حدٍّ ما في دول أخرى في مجلس التعاون الخليجي، قد لا يكون لها الكثير من التأثير.
لذلك ستستمر ندرة الموارد المائية المحدودة في المملكة. وبالطبع لم يسقط قطاع المياه من خطّة رؤية 2030، مع عدد من الاستثمارات المخطّط لها. ومع ذلك، حتّى تتعافى أسعار النفط، فإنّ القيود المفروضة على الميزانية ستلقي الضوء فقط على القضية التي سبق وأن كانت مدفونة تحت فائض الأموال. وسيرفع الاستثمار من قدرات المياه المحلّاة، لكنّ هذا لن يكون كافيًا وحده لتعويض العجز الطبيعي، وستستمر المملكة في الترنّح على حافة ما يمكن أن تقدّمه مواردها المائية المحدودة.