خيارات الأردن الصعبة: بين المطرقة السعودية والسندان الإسرائيلي
أحمد فال السباعي
لا يبدو أن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل سيكون آخر مفاجآت الساحة العربية هذه الأيام، فالوضع العربي يعيش في إحدى أكثر مراحل عدم استقراره منذ توقيع اتفاقية سايكس بيكو قبل مئة سنة وإعلان قيام الكيان الصهيوني منذ سبعين سنة. الوضع الأردني يبدو أنه لا يتّجه نحو استقرار قريب في ظلّ تنامي التوتّرات الداخلية وتزايُد الضغوطات الاقتصادية والدبلوماسية الخارجية والتي تظهر فيها بوضوح رغبة أطراف التحالف الجديد في إجبار الهاشميين على التسليم بصفقة القرن: إسرائيل والسعودية.
تحذيرات إسرائيلية
في ورقة جديدة نشرها منذ يومين مركز بيغن-السادات، يحذّر الباحث الإسرائيلي إيب هاك الأردن من ثلاثة أنواع من المخاطر التي قد يؤدّي إليها إعلان الفلسطينيين عن دولتهم من جهة واحدة، في مواجهة مشروع صفقة القرن:
سياسياً: سيؤدّي الإعلان عن الدولة الفلسطينية إلى بروز الصراعات التاريخية التي طبعت العلاقة بين الفصائل الفلسطينية والمملكة الأردنية، والتي ستتّخذ شكلاً مؤسّسياً ثابتاً في العلاقات بين الدولتين، كما سيؤدّي الإعلان في نظر الباحث اليهودي المختّص في الشأن الأردني إلى انقطاع مُفاجئ في مشاريع الطاقة والمياه المشتركة مع إسرائيل.
أمنياً: تُنذر الورقة بالمخاطر القادمة من الحدود الفلسطينية على الأردن، ومن وجود حاضنة سياسية مهمة لحركة حماس داخل التراب الفلسطيني قياساً على انعكاسات العلاقة بين غزّة ومصر، خصوصاً وأن الفوارق بين الأردنيين والفلسطينيين غير واضحة مقارنة مع المصريين.
ينذر الإسرائيليون بأن إعلان السلطة الفلسطينية للدولة من جانب أحادي سيعني السحب المباشر لشرعية سلطة رام الله"الفاسدة" في نظرهم، وهو ما سيشكّل كابوساً أمنياً بعد انهيار هذه الأخيرة المحتوم كما يصفها المحلّل.
وجودياً: سيؤدّي وجود فلسطين كدولة إلى أزمة هوية حادّة في المجتمع السياسي الأردني الذي لا يفرّق فيه الكثيرون بين الانتماء الفلسطيني و الأردني.
جتهد الورقة في تخويف الأردنيين من مخاطر سماحهم بالإعلان عن الدولة الفلسطينية، التي تظلّ أحد أهم خيارات السلطة الفلسطينية في ظل تنكّب العرب الخليجيين عن دعمها، وانتهاء دور الوساطة الأميركية في الصراع. ويبدو أن توقيت كتابة الورقة جاء في إطار الضغوطات الداخلية والخارجية التي تُمارَس ضد المملكة الأردنية هذه الأيام لإجبارها على القبول بصفقة القرن، التي يتّجه أطرافها نحو ممارسة الضغط المباشر بدل لعب دور الوساطات في كافة قضايا المنطقة.
صرّح السفير الأميركي فريدمان من القدس بأنه: "يمكن لإسرائيل أن ترفض الخطة الأميركية للسلام، ونحن نحترم حق إسرائيل كدولة ذات سيادة عما لا ترغب في قبوله،.. لكننا نحذّر من أن الفلسطينيين سيدفعون الثمن، إذا لم يعودوا إلى المفاوضات، ولن يكون هذا مقبولاً بالنسبة للإدارة الأميركية". العبارة تستبطن في الحقيقة ما أشرنا إليه في مقال سابق، فلا الأردنيون الهاشميون ولا الفلسطينيون في غزّة والضفة، هم اليوم أطراف حقيقيون في المشروع الجديد.
إسرائيل ومن ورائها أميركا وحلفاؤها الخليجيون يريدون فرض منطق جديد عبّر عنه أحد الكتّاب الأميركيين المعاصرين بمشروع "إعلان الانتصار الإسرائيلي" و"إعلان الهزيمة الفلسطينية".
ليس للفلسطينيين الحق في رفض الصفقة وكذلك الأمر اليوم بالنسبة للأردن، الذي يتخوّف من تآكل مشروعيّته الدينية كوصيّ إسلامي على القدس وكحَكَم سياسي بين أطراف داخلية تُنذر التوجّهات الجديدة بتغيير عميق في بنيتها الديمغرافية والسياسية. الورقة الإسرائيلية تؤكّد احتمال تزايد الضغوطات على الأردن، الذي أصبحت بدائله في مواجهة الوضع الجديد تتقلّص بسرعة، خصوصاً مع توجّه السياسة السعودية الخارجية نحو الضغط الاقتصادي والسياسي لإجبار الملك عبد الله على الرضوخ لمطالبها المتعلّقة بإدارة المقدّسات الإسلامية في القدس.
ضغوطات سعودية
يتّجه حلف صفقة القرن إلى الضغط المباشر على المملكة الهاشمية التي لم تستطع أن توافق على بنود الاتفاق الأميركي السعودي الإسرائيلي الخفيّ المعلَن. عناوين الاتفاق السعودي الإسرائيلي تجعل من الأردن الحلقة الأضعف في الوضع العربي الجديد، ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل التي تُسهم في إضعاف مكانة المملكة في ساحة الصراع العربي الإسرائيلي:
-العلاقات السعودية الإسرائيلية المباشرة ستفقد مجموعة من الدول العربية، مكانتها كوسيط غير مباشر في العلاقات مع الكيان.
الموقف السعودي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي أعلن عنه الأمير بن سلمان، يُفقِد الأردن دوره الاستراتيجي كدرع تحمي الخليج من أخطار الاحتكاك المباشر مع الكيان.
- رغبة السعودية في الحلول محل الأردن في إدارة الأماكن الإسلامية في فلسطين كتغطية شعبية لتبرير صفقة القرن أمام الشعب السعودي وعموم المسلمين.
- قناعة إسرائيل المتزايدة بأن الأردن القوي اقتصادياً والمستقر سياسياً لن يقبل بخيار كونفيدرالي محفوف بالمخاطر، والذي سيؤدّي إلى تحوّلات ديمغرافية وسياسية غير مسبوقة لا تملك العائلة الملكية الموافقة عليها، خصوصاً وأن الكونفيدرالية قد تمثّل تهديداً حقيقياً للشرعية الدينية والسياسية للنظام في عمان.
- المشروع الإسرائيلي لتهويد غَور الأردن وتأسيس وضع استراتيجي جديد يتجاوز اتفاق وادي عربة ذي الحمولة القانونية الغامضة، والذي من المحتمل أن تطالب إسرائيل بمراجعته مع قيادة أردنية جديدة تجتهد تل أبيب في البحث عنها بموازاة الوضع الجديد. ففي المادة 20 من اتفاق وادي عربة نجد أن النصّ يقول: "يولي الطرفان أهمية كبرى للتنمية المتكاملة لمنطقة أخدود وادي الأردن، ليشمل ذلك مشاريع مشتركة في المجالات الاقتصادية والبيئة، والمشاريع المرتبطة بالطاقة والسياحة، آخذين بعين الاعتبار الإطار المرجعي الذي تم التوصّل إليه في إطار اللجنة الاقتصادية الثلاثية (الأردنية الإسرائيلية الأميركية) بهدف الوصول إلى خطة رئيسة لتنمية أخدود وادي الأردن. لذلك سيبذل الطرفان قُصارى جهدهما لإتمام التخطيط والسير في التطبيق".
هذا النصّ يُسفر عن حقيقةٍ واضحةٍ ظلّت إسرائيل مُتمسّكة بها منذ سبعين سنة، وهي التفافها الدائم على جميع الاتفاقيات الثنائية والقرارات الدولية التي تنحو نحو تحديد خريطة وحدود الكيان الصهيوني. لم تعترف الاتفاقية بشكلٍ واضحٍ بحقوق الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، التي سيصبح غَور الأردن في حال انهيار المملكة الهاشمية أحد أهم البدائل الاستراتيجية الإسرائيلية التي من الممكن أن تحل محل اتفاق وادي عربه نفسه.
أمام الأردنيين خيارات لا زالت غير واضحة تماماً. التوافق مع الفلسطينيين في غزّة والضفة، وتمتين العلاقات مع إيران وتركيا وروسيا، قد تكون أوراق تفاوض مهمّة يُراهن عليها الأردنيون في تلطيف الضغوطات تجاههم، والتي قد تتحوّل في ظل الوضع القائم إلى خيارات استراتيجية فعلية، قد تفتح المنطقة على سيناريوهات مُغايرة تماماً لما تتنبّأ به عقول دارسي "الفوضى" العربية.