فيلم هندي يُحيي مظلومية العمال الأجانب في بلاد الجزيرة العربية: “السعودية” تتحسس رقبتها
أزمة العمال الأجانب تلاحق “السعودية” كما العديد من الفضائح والثغرات الكثيرة الأخرى التي ما فلحت في ردمها لتبييض صورتها. وإن كانت المطالبات والتحقيقات والوثائق الكثيرة التي عُرضت على أهم وأضخم المحطات والصحف والوكالات العالمية، إلا أن ما أثار غضينة “السعوديين” كان فيلما من إخراج وإنتاج هندي يحكي قصة حقيقية لعامل هندي استُرج إلى البلاد بوعود عمل ليلقى مصيره في السجن وفي ظروف حياة قاسية. فيلم “حياة الماعز -Goat Life”، المُقتبس من محنة حقيقية لرجل يحمل نفس اسم البطل “نجيب”، اختُطف في البلاد في التسعينيات، وتمكن من الفرار بعد عامين، أضحى وثيقة للعالم ترسّخ فظاعة نظام الكفالة في دول شبه الجزيرة العربية، سواء في “السعودية” أم في الإمارات أم قطر. وعليه تحسست الدول الخليجية رقابها ومُنع على إثره عرض الفليم عن منصة “نتفلكس” في دول مجلس التعاون الخليجي. وعلى إثره كذلك كُلِّف الذباب الإلكتروني –السعودي على وجه الخصوص- في مهاجمة الفيلم يمنة ويسرة في تخبّط واضح للمُراد من المهاجمة. ولعلّ مهاجمة المشارك في الفيلم، الممثل العماني طالب البلوشي الذي أدى دور الكفيل العربي الظالم و”المقزز”، كان أحد توجهات هجوم الذباب الاكثر لا منطقية. وقد شُنّت حملة منظمة ضد الممثل العماني البلوشي على خلفية موافقته أداء الدور فقط. وهنا لا بد من التطرق إلى فكرة جرى تداولها مفادها أن الفيلم يمجّد معاناة الوافدين لكنه في الوقت نفسه لا يخرج من سياق النظرة الهوليودية التي ما برحت تطمغ جبين كل عربي بها. من قبيل أن العرب “غير نظيفين” وظالمين ومستعبيدن، وهو ما يُدان به الفيلم. لكن الهجمة الإلكترونية لم تكن على هذا، بل كانت حصرا دفاعا عن نظام الكفالة ونكرانا لآلاف الشهادات والإفادات والدلائل التي تدين بلدان الخليج عموما باستعباد العامل. غضب المسعودين من “حياة الماعز” –إخراج الهندي بليسي إيبي توماس- كان وما زال لهدمه أركان “سعودية ابن سلمان” التي عمل عليها سنين وبمليارات الدولارات. شأنها شأن وقع جريمة قتل جمال خاشقجي على “الهيبة السعودية”، أما اليوم بقضية حياة الماعز فقد وجد هؤلاء من يرمون ثقل غضبهم عليه، وكان من نصيب الفنان العربي، الذي بقدر ما لقي هجوما وتكفيرا من قبل الذباب بقدر ما لقي ترحيبا من قبل الغاضبين من “السعودية” ونظام الكفالة الذي تتبعه. الحساب الذي لم يُتحقق فيما إذا كان تابعا للمثل البلوشي أم لا، في تغريدة له ردا على تغريدة لذباب الكتروني دعا فيه المندفعين لمهاجمته إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية والابادة الجماعية الدائرة في غزة. وكتب في تغريدته “احنا دول الخليج اخوة واحباب نرجوا عدم حشر انفسكم بيننا وهذا مجرد فيلم قصة جرت في ظروف سيئه وتوقيت سيء لشخص وليس لمجتمع”. خاتما تغريدته بالقول “بلاش الفتن حفظ الله وطننا العربي الكبير خلونا في قضية فلسطين الكبرى التي تعاني الحرب والابادة للعرب”. بدوره، شارك صاحب القصة الحقيقية تجربته على منصة “إكس”، قائلا أنه على إثر الفيلم تواصلت السفارة السعودية معه داعية إياه لزيارتها، إلا أنه رفض الدعوة قائلا “لاني لا أعرف ماذا سيجري هناك”. وقد تفاعل الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تصريحاته هذه مشبهين الموقف مع ما حصل لخاشقجي في السفارة السعودية في تركيا. نظام الكفالة المعمول به والذي يعمل كغطاء لجرائم تُرتكب بحق الإنسانية، دونه عواقب كثيرة يقع تحت رحمتها العامل الذي اضطر الفرار من ظلم بلد إلى ظلم أكبر. وأهم ما يشوب نظام الكفالة سيئ السمعة يبدأ بالأصل من عدم إمكانية العامل دخول البلاد إلا بكفيل (صاحب العمل)، وصولا إلى سلطة أصحاب العمل في التأمين، تجديد الإقامة، وقدرتهم على إلغاء تصاريح العمل بأي وقت. إضافة إلى عدم قدرة العامل على ترك عمله أو تغييره دون موافقة صاحب العمل الكفيل. إلى ذلك تبقى ما يُعرف بـ “جريمة الهروب”، العامل الأكثر تعسّفا بحق هؤلاء. هذه “الجريمة” تتيح لأصحاب العمل التبليغ عن اختفاء عامل، ليعرض بعدها لخطر الاعتقال والترحيل، وأخيرا، إلغاء صيغة تصريح الخروج، التي تمنع العامل من مغادرة البلاد دون موافقة صاحب العمل. لم تكن الضحية فقط من العمال الآسيويين –هنود وباكستانيين-، إنما طالبي الرزق من العرب نالوا قسطهم من نظام الكفالة أيضا. مؤخرا أُثيرت قضية شاب مصري بعد نشره مقطع فيديو له يشرح فيه ما يعانيه في “السعودية”، في أحد أخف أوجه المعاناة التي تعانيها العمالة الاجنبية في البلاد. وصف الشاب تشتته في “السعودية” منذ عام ونصف على خلفية شطب الكفيل اسم المؤسسة التي دخل البلاد للعمل بها من السجل التجاري دون إعلامه بالأمر ودون نقل كفالته إلى مؤسسة أخرى. ووفقا للشاب قال أنه قَدِم إلى البلاد بطريقة نظامية في الثالث من الشهر الثاني من عام ٢٠٢٣؛ إلا أن الكفيلة شطبت المؤسسة في الثامن من شهر الثالث نفسه عام ٢٠٢٣. وتبعا لذلك اختفت بيانات الشاب في كل من السجل التجاري ومن كل مكان يثبت بياناته. حتى أنه حين سلّم نفسه للشرطة لكي يقوموا بترحيله وبسبب عدم وجود بياناته يُرفض طلبه، وفي الوقت نفسه لم يتمكن الشاب من التقديم على عمل آخر أو القبول به، وعليه بات كالمعلّق في الهواء غير قادر على العمل أو العيش بطريقة طبيعية في البلد ولا العودة إلى بلده. “الكفالة” تهدد فرص استضافة المونديال أما الحالات الكثيرة التي يستعرضها الإعلام الغربي فتبدو أكثر مرارة بكثير. مؤخرا نشرت وكالة فرانس بريس على سبيل المثال تقريرا طرحت فيه حالتين لعمال آسيويين عادوا إلى بلدانهم بعد أن قايسوا القهر في “السعودية”. تنقل الوكالة حالة العامل البنغلادشي فوسبر ميا الذي انتقل الى “السعودية” معتقداً أنه سيحصل على راتب جيد ككهربائي، لكنه وجد نفسه يحمل قضبان الفولاذ في حرارة الصحراء القاسية مقابل أجر زهيد. وفي تفاصيل حياة العامل تقول الوكالة أنه بعد 13 ساعة عمل في موقع بناء خارج الرياض، يعود العامل البنغلاديشي إلى الغرفة التي كان يشاركها مع 11 عاملاً آخرين، ثم يتنافس على دوره أمام موقد الغاز حتى يتمكن من إعداد العشاء قبل تكرار الروتين في اليوم التالي. ويقول الرجل البالغ من العمر 35 عاما، والذي أفاد أنه لم يتقاض أجره قط لمدة سبعة أشهر من أصل 17 شهرا قضاها في “السعودية”، ويحذر من أن الطفرة المتوقعة في البناء ــ للملاعب التي ستستضيف نهائيات كأس العالم 2034 وغيرها من المشاريع الضخمة ــ قد تعرض آخرين لاستغلال مماثل. يتابع ميا الذي عاد الآن إلى وطنه، أنه شاهد مديري المشاريع يضربون زملاءهم العمال الذين تجرأوا على الشكوى “هناك الكثير من فرص العمل، ولكن هناك أيضا الكثير من فرص المعاناة”. وقد نشطت بالفعل الكثير من المنظمات في إدانة اختيار “السعودية” لاستضافة مونديال 2034، وقال ستيف كوكبيرن، رئيس قسم حقوق العمال والرياضة في منظمة العفو الدولية: “لقد حددت الفيفا معايير واضحة لحقوق الإنسان يجب على أي دولة تتقدم بطلب الاستضافة أن تلبيها، ولكن من الواضح أن عرض المملكة العربية السعودية لاستضافة كأس العالم 2034 لا يزال أقل بكثير من ذلك. إن خطة حقوق الإنسان في العرض تتجاهل ببساطة العديد من المخاطر الهائلة المرتبطة باستضافة حدث رياضي ضخم في بلد له سجل فظيع في مجال حقوق الإنسان”. مؤكدا أنه “في غياب أي إجراءات عاجلة لتحسين حماية حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية، فمن المرجح للغاية أن تشوب كأس العالم 2034 أعمال العمل القسري والقمع والتمييز – بتكلفة بشرية وحشية. يتعين على الفيفا الآن العمل مع السلطات السعودية للحصول على اتفاقيات ملزمة قانونًا لمعالجة مخاطر حقوق الإنسان بالكامل قبل اتخاذ أي قرار نهائي في ديسمبر/كانون الأول، أو الاستعداد للانسحاب. كما يتعين على السلطات السعودية أن تظهر التزامها بحقوق الإنسان من خلال إطلاق سراح النشطاء الذين سُجنوا لمجرد التعبير عن آرائهم”. وكان قد وقّع عدد من الخبراء القانونيين على وثيقة مقدمة إلى الهيئة الإدارية للفيفا تقول فيها يجب أن يكون الفيفا مستعدًا لحرمان “السعودية” من حق استضافة كأس العالم للرجال/ مونديال 2034 إذا فشلت الأخيرة في الامتثال لالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان. الوثيقة كتبها فريق من الخبراء القانونيين يضم المحامي البريطاني الذي يمثل أرملة الصحفي السعودي جمال خاشقجي، والبروفيسور مارك بيث، الذي سبق له تقديم المشورة للفيفا بشأن إصلاحات الحوكمة. هذه الوثيقة هي بمثتبة تحذير بشأن الفجوة بين الالتزامات التي تعهدت بها المنظمة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وواقع الحياة في السعودية.