خادم الحرمين والوضع الراهن في الحرم الشريف المقدسي
يتصاعد الكلام في الأوساط الديبلوماسية ووسائل الإعلام، عن مفاوضات جارية بين كل من الرياض وواشنطن وتل أبيب حول انضمام السعودية إلى قافلة التطبيعيين مع الدولة اليهودية، وشروط الأطراف الثلاثة العدّة لإبرام صفقة كهذه. ونقول الدولة اليهودية، لأن هذا هو الوصف الرسمي لإسرائيل، والذي تصرّ عليه السلطات الإسرائيلية ذاتها على اختلاف توجهاتها. معلوم أن الحرم الشريف المقدسي الواقع داخل البلدة القديمة في القدس الشريف، يضم المسجد الأقصى ومسجد القبّة المشرّفة وحائط البراق المبارك، وأن القدس الشريف هو أولى القبلتين ومسرى نبينا ومعراجه وأرض المحشر والمنشر، وأن الحرم الشريف المقدسي هو أحد ثلاثة مساجد تشد إليها الرحال. غير أن الغريب كل الغرابة حقاً، واللافت كل الإلفات فعلاً، أن جميع الأوسـاط والوسائل المذكورة تغفل كل الإغفال، عند كلامها عن صفقة تطبيعية محتملة بين السعودية والدولة اليهودية، أيَّ ذكر للأبعاد الدينية والإسلامية العقائدية الحتمية لأي صفقة تطبيعية بين الطرفين المذكورين، علماً أنّ أي صفقة كهذه لا مناص لها من أن تشمل، في ما تشمل، الوضع الراهن القائم اليوم في الحرم المقدسي الشريف (الستاتوسكو - Status quo)، من حيث كونه خاضعاً كل الخضوع لسيادة (Sovereignty) الدولة اليهودية. ووجه الغرابة في ذلك هو التركيز الحصري في كلام الأوساط الديبلوماسية ووسائل الإعلام المذكورة عن الصفقة، على قضايا التسلح والخبرة النووية والتحالف الإستراتيجي والضمانات الأمنية، من دون أي إشارة أو ذكر للأبعاد الدينية المهولة التي أشرنا إليها، والتي لا مندوحة لها من أن تشملها أي صفقة تطبيعية بين الرياض والدولة اليهودية.
والخلفية التاريخية لـ«الستاتوسكو» (Status quo) السالف الذكر، هو أنه بسقوط الدولة العثمانية عام 1918، وانتصار الدول الغربية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، تقاسمت بريطانيا وفرنسا الولايات العربية المشرقية أنفالاً وراء ورقة تين نظام الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم عام 1919 بإشراف الولايات المتحدة، وتسلّمت بريطانيا بموجبه الانتداب على فلسطين وجعلت «وعد بلفور» عام 1917، وسياسة إقامة «وطن قومي يهودي» (Jewish National Home) في فلسطين، جزءاً لا يتجزأ من انتدابها على البلاد. واعترف صك الانتداب ذاته بخطورة قضية الأماكن الإسلامية المقدسية، وعلى رأسها الحرم الشريف، في ظل حكم غربي مسيحي مستحدث، ولم يكن له مناص من أن يعتمد مبدأ «الستاتوسكو» (status quo)، أي الحفاظ على العُرف القائم قبل الحرب العالمية الأولى تجاه هذه الأماكن الإسلامية المقدسية، أي السيادة الإسلامية (Sovereignty)، بخاصة وأن الإمبراطورية البريطانية كانت تضم الملايين من الرعايا المسلمين الذين كانوا يجلّون أُولى القبلتين كل الإجلال والتوقير.
وفي الوقت ذاته، أحدث الانتداب البريطاني انقلاباً رأساً على عقب في الأوضاع العامة في فلسطين، بحلول حكم غربي مسيحي محل حكم إسلامي دام ما ينوف عن ألف عام منذ الفتح العربي، وبارتقاء الجالية اليهودية المحلية فجأةً من مِلّة أقلّية إلى شريك في الحكم بواسطة الحركة الصهيونية مع دولة عظمى (بريطانيا). أثار هذا الانقلاب الأطماع التلمودية التي ظلت دفينة ومضمرة لقرون في أعماق النفوس اليهودية، فانبعثت من مخابئها، وأخذت القيادات الصهيونية المستأسدة تواً تفصح عنها رغم ادعاءاتها أنها علمانية أو اشتراكية الهوى. واتخذ هذا التطور الخطير شكل المطالبة جهاراً بحقوق يهودية دينية لم تسبق لها سابقة في أماكن إسلامية مقدسة تحت السيادة الإسلامية، انصبّت في عشرينيات القرن الماضي على حائط البراق المبارك تخصيصاً.
وكلما توطّد الوطن القومي اليهودي في فلسطين بالحراب البريطانية، كلما نمت فظاظة المطالب اليهودية في حائط البراق المبارك ووقاحة مظاهرها عنده؛ من طلب استئجاره، إلى طلب شرائه، إلى محاولات متكررة لتغيير «الستاتوسكو» فيه (بالمفهوم الدولي التاريخي أي السيادة الإسلامية) عن طريق جلب أدوات الصلاة إليه أو لفائف (scrolls) للنصوص التلمودية أو الصلاة الجماعية عنده، إلى القيام باستعراضات عسكرية أمامه تُرفع خلالها الأعلام وتنشد الأناشيد الوطنية حتى انفجر الوضع في «ثورة البراق» عام 1929، والتي قتل فيها 133 يهودياً وجرح 339 معظمهم على يد المتظاهرين العرب، واستُشهد فيها على يد القوات البريطانية 116 عربياً وجرح 282، وما أشبه اليوم بالأمس.
ورغم قمع السلطات البريطانية لـ«ثورة البراق»، قررت اللجوء إلى عصبة الأمم في جنيف في سويسرا، والطلب منها إرسال لجنة تحقيق دولية محايدة للنظر في قضية حائط البراق. وقدِمت اللجنة إلى فلسطين، واستمعت إلى ممثلين عن الطرفين العربي واليهودي، وأصدرت تقريرها في كانون الأول 1930، والذي أكّد بإجماع أعضائها أن حائط البراق إنما هو جزء من الحرم الشريف لا يتجزأ، ووقف إسلامي يسري عليه حكم الستاتوسكو، أي السيادة الإسلامية الخاص بالأماكن المقدّسة، والعُرف الذي كان قائماً قبل الحرب العالمية الأولى، وأنه ليست لليهود حقوق فيه سوى إمكان زيارته حسب الشروط التي قيدت هذه الزيارة أثناء الحكم الإسلامي العثماني. وظلّ هذا الوضع قائماً إلى نهاية الانتداب على فلسطين في أيار 1948.
وقعت القدس الشرقية بكاملها، بما فيها البلدة القديمة والحرم الشريف داخلها، طوال السنوات (1948 - 1967) التي تلت النكبة، تحت الحكم الأردني. ذلك أن الجيش العربي الأردني تمكن خلال حرب 1948 من حمايتها من القوات الإسرائيلية، رغم محاولات الأخيرة المستميتة المتكررة للاستيلاء عليها في هذه الحرب. وهكذا، ظل «الستاتوسكو» الخاص بالمقدسات الإسلامية (والمسيحية) المقدسية، والذي كان قائماً طوال العهد الانتدابي البريطاني السابق، على حاله، حيث شُطرت القدس إلى شطرين بين عامَي 1948 و 1967: شطر غربي ضمته إسرائيل إليها وجعلته عاصمتها، وشطر ظل تحت الحكم الأردني كما سلف. أدّى النصر الساحق الماحق الذي حققته إسرائيل عام 1967 على الجيوش العربية مجتمعة، ووقوع التراب الفلسطيني من البحر غرباً إلى النهر شرقاً تحت السيطرة العسكرية اليهودية، وانتشار حدودها دفعة واحدة من الجولان شمالاً إلى وادي النيل جنوباً، أدّى إلى اعتراء الروح اليهودية، وخاصة الأوساط الدينية اليمينية، مشاعر الزهو والاعتداد بالنفس، لقناعتها بأن ما حدث إنما هو من دلائل الرضا الرباني واقتراب الساعة، وقدوم مسيحهم وتحقيق كامل أحلامهم الغائية، بما فيها إعادة بناء هيكلهم العتيد.
وكان من أولى المؤشرات على هذا التحول المهول، وصول كبير حاخامي الجيش الإسرائيلي، الأشكنازي الرابي غورن (Rabbi Goren)، إلى باحة الحرم الشريف، في الساعات الأولى بعيد احتلاله في حزيران 1967، ومطالبته جهاراً القائد الإسرائيلي العسكري في الموقع بنسف كل من المسجد الأقصى ومسجد قبّة الصخرة، غير أن القائد رفض طلب الراباي وحوّله إلى حائط البراق المجاور، حيث انضم إليه في عرض عسكري نفخ فيه ببوق (horn) النصر التلمودي للمرة الأولى في تاريخ الحرم، ناسفاً بذلك «الستاتوسكو» الذي كان قائماً منذ العهدين البريطاني والعثماني قبله. ما لبثت السلطات اليهودية، بعد أيام قلائل من اقتحامها القدس الشرقية تأكيداً على سيادتها الفعلية على المقدسات الإسلامية وتثبيتاً لها، أن طلبت من سكان حيّ المغاربة الملاصق للحائط والمرابطين المجاورين فيه في فيء وقف عتيد أوقفه لأجدادهم أحد أبناء صلاح الدين الأيوبي... ما لبثت أن طلبت منهم أجمعين إخلاء منازلهم وأماكن صلواتهم ومقاماتها في أربع وعشرين ساعة، تحت طائلة نسفها فوق رؤوسهم، فهُجّر نتيجة ذلك المئات منهم، قبل أن تزيل الجرافات آخر أثر لكل منزل أو زاوية أو مقام في الحيّ.
قررت السلطات اليهودية، بعد احتلالها القدس الشرقية في حزيران 1967، السماح للهيئات الأردنية الشرعية التي كانت تدير الأوقاف الإسلامية في القدس الشرقية، بما فيها الحرم الشريف قبل احتلالها لها... قررت السماح لهذه الهيئات بالاستمرار في هذه الإدارة الداخلية، مع احتفاظ إسرائيل بالسيادة (sovereignty) الفعلية (de facto) على الحرم ومقدساته، من دون الإفصاح عن ذلك صراحة وتخصيصاً. اضطرت السلطات الأردنية، عام 1994، تحت ضغوط أميركية هائلة، للتوقيع على معاهدة صلح مع إسرائيل تضمن الوضع الراهن (الستاتوسكو) القسري على الحرم الشريف بمدلولاته المهولة. ولست ممن يلومون الأردن على التوقيع على ما وقّع عليه في حينه، فقد استفردته إسرائيل بمعونة حليفها الجبار الولايات المتحدة. وعلى كل حال تبقى المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية اتفاقاً ثنائياً بين طرفين، هما عمّان وتل أبيب، لا يلزم سواهما.
إن أطماع الصهيونية التلمودية الحريدية في الحرم الشريف لا تقف عند حدود هذا الوضع الراهن التالي لهزيمة عام 1967، والقائم على القسر العسكري. فليس سراً أن مؤسسات دينية يهودية تموّلها الدولة اليهودية تحيط بالحرم الشريف وتضيق الخناق عليه، وأن ديدنها اليومي الإعداد ليوم آت تتحقق فيه أحلام إعادة بناء الهيكل، وأن الحريدية الحاكمة اليوم ونتنياهو وحزبه (الليكود) العلماني اسماً، ضالعان سواء بسواء في هذه المساعي، وأن الوضع داخل باحة الحرم يتبدل تدريجياً وخطوة خطوة نحو الهاوية، على غرار ما حدث للبراق الشريف، وأن من أكبر دلائل الرضا الرباني على ما يصبون إليه بنظرهم، هو انضمام خادم الحرمين بالذات إلى قافلة التطبيعيين باسم إبراهيمية وهمية زائفة لا وجود لها أصلاً، حيث إن إسماعيل هو الذبيح وجدّ نبينا وباني الكعبة مع أبيه إبراهيم عليهما السلام.
* مؤرّخ فلسطيني ومؤسّس مؤسّسة الدراسات الفلسطينية