إسرائيل لم تيأس من السعودية: من هنا يبدأ «سلام الشعوب»
قد لا يكون ثمة جديد في ما قاله الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، في دافوس، في ما يخص مسار التطبيع ما بين كيانه والسعودية؛ إذ صدرت أخيراً العديد من العلامات التي تُنذر بقرب نضوجه، لكن المنبر المُستخدم للإعلان قد يُكسب الفعل بُعداً جديداً، أو يعطيه طابعاً من نوع آخر. إذ إن «منتدى دافوس»، الذي بلغ سنه الثالثة والخمسين، ليس عادياً، بل يمكن الجزم بأنه ثاني أهم منبر عالمي، بعد «مؤتمر ميونيخ للأمن» الذي تستضيفه ألمانيا كل عام، وهو ضم هذه السنة أكثر من 60 رئيس دولة وحكومة، فضلاً عن 300 شخصية ممثّلة لشركات فاعلة، في الوقت الذي أشارت فيه تقارير سابقة لانعقاد المنتدى إلى أن «خمسة أشخاص فقط في العالم يملكون نحو 890 مليار دولار»، قبل أن تضيف أن «العالم سيكون على موعد مع ولادة أول تريليونير في غضون مدة لا تزيد عن عشر سنوات». وذلك يشكّل بالتأكيد مؤشراً على تنامي التأثير التقليدي للمال في السياسة، ثم يضيف إلى هذا النوع من المؤتمرات بعداً قد يتعدى الذي تُحدثه القمم الرسمية، بما فيها تلك التي تندرج في سياق منظمة الأمم المتحدة، ومؤسساتها، التي جاءت نتاجاً لصيغة استولدها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لإدارة العالم.وبالعودة إلى حديث هرتسوغ، فهو دعا إلى «تشكيل تحالف دولي قوي للغاية لمواجهة إيران ووكلائها في المنطقة»، لكن أهم ما قاله هو أنه يعتقد أن «التطبيع مع السعودية هو المفتاح للخروج من الحرب إلى بيئة جيوسياسية جديدة». والحال أن السعودية كانت قد شهدت محاولات لإحداث تغييرات مجتمعية بنيوية، بل وأيديولوجية، أريد منها أن تشكّل مقدّمات لإحداث تغييرات كبرى في السياسة الخارجية، منذ وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد عام 2015. ثم تعزّز ذلك التوجه زمن الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي شهدت بداية ولايته توتّرات مع العرش السعودي، أقله من حيث «اللغة» المستخدمة في الخطاب الموجّه إليه، ولا سيما عندما قال إنه «عندما تحدثْتُ مع الملك قلت له لديك تريليونات من الدولارات، ومن دوننا لا أحد يعلم ماذا سيحدث، ربما لن تكون قادراً على الاحتفاظ بطائراتك»، ثم أضاف أن «الملك لن يصمد في الحكم لأسبوعين من دوننا». إلا أن الهجوم كان ذا مرام يتعدى «الابتزاز المالي» المفضوح، إلى تحفيز التحوّلات الجارية في الداخل السعودي، والتي كانت واشنطن ترى أنها تسير على إيقاع السلحفاة.
إلا أن التصريحات السعودية التي أعقبت عملية «طوفان الأقصى»، أشارت إلى أن الرياض كانت قد تخلّت عن مسار السلحفاة، أقلّه في غضون الأشهر الستة التي سبقت تلك العملية، واتخذت قرارها بأن يكون مسار الأرنب هو المعتمد منذ أواخر الصيف الماضي، وتحديداً منذ الإعلان عن «الممر الهندي» الذي يفترض أن يربط ما بين المحيطين الهادئ والهندي والشرق الأوسط وأوروبا، وهو الإعلان الذي جرى على هامش اجتماع «قمة العشرين» في أيلول الفائت. لا بل ربما اعتقدت الرياض أن هدف «الطوفان» الأبعد يكمن بالفعل في عرقلة ذلك المسار، الأمر الذي يمكن لمسه عبر التصريحات التي أطلقها ابن سلمان في أعقاب لقائه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قبل 3 أسابيع، والتي قال فيها إن «موضوع التطبيع كان حاضراً على أجندة اللقاء»، قبل أن يضيف أن «هناك اهتماماً واضحاً هنا بمتابعة ذلك». ولذا، جاء تأكيد السفير السعودي في لندن، خالد البندر، بعد 24 ساعة على تصريحات ابن سلمان، أن «الاتفاق كان قريباً، قبل أن توقف المملكة المحادثات التي جرت بوساطة أميركية بعد اندلاع الحرب في غزة»، ما يعني أن الوصول إلى توافقات من النوع الذي يمكن البناء عليه كان قد حصل، وأن الإعلان الرسمي يقتضي أولاً إزالة «العقبة» التي استدعت إيقاف المسار بشكل مؤقت.
وبعيداً من حروب الممرات الجيوسياسية، والتي لا يمكن نفي أثرها في تفكير إسرائيل، فإن هذه الأخيرة كانت تجهد، منذ سقوط بغداد عام 2003، للاستثمار في التناقض السني - الشيعي في المنطقة، ما يمكن الاستدلال عليه عبر سيل الوثائق التي قذفت بها «ويكيليكس» عام 2007. حتى أن الفعل كان يطاول لحظ «الهوة التي لا يمكن جسرها راهناً بين الاثنين لسببين، أولهما موضوعي ينحصر بأن كليهما ساع إلى الهيمنة على الآخر، ناهيك بأن التساكن أمر مستبعد في ظل هذه الظروف، وثانيهما ذاتي يتمثل في خلو الساحة من قامة معرفية قادرة على خلق تلاقيات من شأنها التقريب بينهما، وصولاً إلى نوع من الاتحاد المنهجي الذي يفضي إلى توافقات في السياسة»، وفقاً لما ورد في إحدى الوثائق التي تعود إلى عام 2005، والمرسَلة من مستشار في السفارة الإسرائيلية في القاهرة إلى وزارة الخارجية في تل أبيب.
وبناءً على ما سبق، يمكن القول إن الجهود الإسرائيلية الرامية إلى إنجاز اتفاق مع المملكة، تبرز عبر التعويل الكبير على منحى من هذا النوع، والذي يظهره تصريح الرئيس الإسرائيلي الوارد أعلاه. كما أن ثمة توجهاً عميقاً لدى صانع القرار في تل أبيب، للوصول بالمنطقة إلى حال من «الخندقة» بين معسكرين، أولهما يمتد من المنامة ويصل إلى القاهرة، وهو يمرّ بكل دول الخليج ومعها الأردن، وثانيهما يمتد من طهران ويصل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو يمر بالعراق وسوريا. وعليه، سيكون على الجانب السعودي أن يقوم بدور «اللاصق» الأيديولوجي والمالي للمعسكر الأول، والتهيئة لافتتاح مسار «سلام الشعوب» بدلاً من «سلام الأنظمة» الذي لا يزال ساري المفعول منذ عام 1977 إلى الآن.