عمال السعودية: العيش في جحيم «الكفالة»

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 661
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

على هامش «الإصلاحات» التي دأبت السعودية على ترويجها في السنوات الأخيرة لجذب الاستثمارات إليها، ظلّ العمّال الأجانب وصغار المستثمرين الوافدين يعانون انتهاكات جسيمة لحقوقهم البشرية. إذ تسمح المنظومة الأمنية لعشرات الضباط والأفراد الذين ارتكبوا جرائم فظيعة - كالاعتداء الجسدي على الأبرياء وتعذيبهم حتى الموت - بالإفلات من العقاب، والاحتفاظ بوظائفهم وامتيازاتهم وسلطتهم الهائلة على حياة الفئات الضعيفة

لأكثر من ربع قرن، تجشّم المستثمر اليمني، عبد الصمد إسماعيل المحمدي (53 عاماً)، الصعاب كي يقدّم لضيوفه أشهى طبق «مندي» في منطقة جازان جنوبي السعودية. لكن تاريخه الطويل ذاك، لم يتطلّب محوه في 9 أيلول 2021 أكثر من إرسال فرقة أمنية من 25 عنصراً لمداهمة بيته ومطعمه، ونهب مدخراته، ومن ثمّ قتله تحت التعذيب، وفقاً لما أفادت به زوجته. زعمت الفرقة القابضة بقيادة الملازم حسين جعفري، التابع لإدارة مكافحة المخدرات، أن المحمدي يخفي في بيته في مدينة صبيا، مبلغ 17 مليون ريال من تجارة المخدرات. وعلى الرغم من أن العناصر الأمنيين لم يتمكّنوا من العثور على المال المزعوم، إلّا أنهم ضربوا الرجل بوحشية أمام عماله وأسرته، واحتجزوه هو وكل العاملين معه، كما هدّدوا باحتجاز زوجته وبنتَيها وابنها المعاق، ونهبوا كلّ أموالهم البالغة مليوناً و61 ألف ريال، إلى جانب 565 غراماً من الذهب.
 

كان يُعاني من ألم شديد، عندما أخبر زوجته، أسمهان ثابت، بصوت مخنوق، عبر مكالمة قصيرة ووحيدة قبل وفاته بيوم، أن «القابضين عليه واصلوا تعذيبه إثر احتجازه حتى فقد الوعي»، كما تقول ثابت، مضيفةً: «ضربوه أمامنا بوحشية، وأعجز عن تصوّر ما ارتكبوه من فظاعة بعد اقتياده إلى مكان مجهول، لكن صوته يفسّر بشاعة ما حدث». بعد ثلاثة أيام من احتجازه، تلقّت أسمهان مكالمة من «مكافحة المخدرات» بأنه مات بجلطة رئوية، وأُدخل ثلاجة «مستشفى أبو عريش»، حتى تأتي عائلته لاستلام الجثة. ومع مرور ساعات عدّة على وفاته، قفز موظفو شرطة أبو عريش إلى المستشفى، ليس لإثبات الجريمة، وإنّما لدفنها؛ إذ اكتفوا بمعاينة الجثة، والاطّلاع على نسخة من تقرير المستشفى، فيما جرى الضغط على الأسرة للتسليم بأنه مات بـ«جلطة رئوية»، وهو ما رفضته العائلة، مصرّةً على تشريح الجثة. وقد أظهر التشريح، الذي تأخّر شهراً كاملاً، كسوراً في تسعة ضلوع وعلامات وكدمات زرقاء في جميع أنحاء الجسد. وبينما أيّد ثلاثة شهود عيان رواية الزوجة، أشار تقرير البحث والتحري الصادر في 29 تشرين الثاني 2021، إلى تعرّض المحمدي «للضرب أثناء المداهمة، وتمّ التحقيق معه على ضوء المعلومات للقبض عليه، إلّا أن الفصل في ذلك يعود إلى جهة الاختصاص - الطب الشرعي».

وكشف تقرير هذا الأخير عن ارتكاب إدارة مكافحة المخدرات جريمة «قتل عمد موجبة للقصاص»، وفقاً لنصوص المواد 2، 13، 15، 25، 26/1، 113، 126 من نظام الإجراءات الجزائية النافذ، والتي استندت إليها أسرة عبد الصمد لتقديم شكواها إلى نيابة صبيا، في تشرين الأول 2021. والجدير ذكره، هنا، أن أنظمة المملكة تحظّر «إيذاء المقبوض عليه جسدياً أو معنوياً، ويُحْظَر كذلك تعريضه للتعذيب أو المعاملة المهينة للكرامة»، بيد أن «وزارة الداخلية تتجاهل ذلك، وتصرّ على حماية الجناة، وكأن ما حصل إساءة لاستخدام السلطة، وليس جريمة قتل عمد مكتملة الأركان»، كما تقول زوجة المحمدي، الذي خلّف وراءه أسرة مكوّنة من ثمانية من البنين والبنات ووالدته المسنّة وعشرات الأسر الفقيرة التي كفلها لسنوات. وبعد مضيّ عام وثمانية أشهر على الواقعة، تتساءل أسمهان باستغراب: «هل يعقل أن النظام السعودي يحمي ويرعى القتلة؟ أليس ذلك ما تخبرنا به داخليته؟»، مضيفةً أن «عبد الصمد قضى جُلّ عمره في خدمة المملكة وأبنائها وظنَّها وطنه، لكن لماذا كلّ هذا الاستهتار بدماء الأبرياء؟ هل تكافئ المملكة مَن خدمها بعمره بالقتل؟ لم كلّ هذا الظلم... نحن ننشد العدالة لا أكثر».

تكامل الجناة ضدّ الوافدين: الجريمة والنظام
لم يكن المحمدي مهاجراً غير شرعي أو عاملاً خارج نطاق القانون، بل واحداً من 12.2 مليون عامل وافد ينتمون إلى 17 جنسية، دخلوا المملكة الغنية بالنفط، للعمل كجزء من نظام الكفالة الذي يسمح لأرباب العمل السعوديين المعروفين بـ«الكفلاء» باستيراد العمالة الأجنبية، مانحاً إيّاهم سلطة التحكّم بكلّ جانب من جوانب حياة العامل تقريباً. منتصف آذار 2021، أدخلت الحكومة بعض التعديلات على هذا النظام، بهدف تحسين صورتها الدولية وجذب الاستثمار الأجنبي، معلِنةً أن الإصلاحات حرّرت نحو 10 ملايين عامل وافد من تقييد التأشيرات بصاحب عمل واحد، بما يترك لهم حرية التنقّل بين الأعمال من دون الحاجة إلى موافقة كفلائهم. إثر ذلك، تراجعت الانتقادات الدولية المُوجَّهة إلى المملكة، بيد أن الانتهاكات شهدت اتّساعاً، بعدما انتقلت سلطة الاستغلال والإذلال والتعنّت والمعاملة المهينة إلى الأجهزة الرسمية، كجزء من «الإصلاحات».

وليست جريمة تعذيب المحمدي وقتله حادثة منعزلة، بل هي جزء من نمط متوارث بحق العمّال الوافدين حتى اليوم. فعلى مدى عقود، اشتكى العمّال من التحيّزات السلطوية ضدّهم، وتجاهل النظر في الجرائم التي يتعرّضون لها، ولا سيما عندما يكون المتورّطون فيها عناصر أو ضباط شرطة. وفي 9 أيلول 2022، قُتل عامل يمني آخر يدعى علي عاطف العليي بعد أربع سنوات من العمل في المملكة. وبحسب والده، فإن نجله البالغ من العمر 24 عاماً، ظلّ يتلقّى تهديدات عبر رسائل «واتسآب» من رقم تابع لأمن الدولة، آخرها في التاريخ المذكور، لينقطع الاتصال به مذّاك. ووفقاً لشهادة الوالد، فإنه «قبل أسابيع من مقتله، أَبلغنا عن نيّته العودة، وأَخبرنا أنه سيقوم بأداء العمرة وسيعود للزواج، لكن انقطع تواصله معنا فجأة. وبعد أسابيع أُبلغنا عن وجود جثمانه لدى قسم شرطة المنار في الرياض، وهو محترق بالأسيد لإخفاء التعذيب، فيما لم يُفتح أيّ تحقيق في ما تعرّض له».

نقمة على الإصلاحات
لا تقتصر كارثية نظام الكفالة على انتهاكات حقوق الإنسان، بل هو يستتبع تداعيات خطيرة على الاقتصاد السعودي بأكمله، حيث «خلق سوقاً سوداء للتأشيرات، ما نتج منه ما يُعرف باقتصاد الظل...، كما أوجد بيئة خصبة للتستر التجاري الذي أدّى إلى خسائر اقتصادية كبرى، تقدَّر بمليارات الريالات سنوياً»، طبقاً للكاتب والمحلّل الاقتصادي السعودي، علي الحازمي. ويُقصد بـ«التستر التجاري»، والذي يلجأ إليه الوافدون لحرمانهم من ممارسة أيّ نشاط تجاري خاص بهم، لجوء الوافد إلى دفع رسوم لكفيله ليكون المالك القانوني لمشروعه الاستثماري (متجر صغير أو مطعم أو... إلخ)، لكن وبحسب أحد الوافدين الذين مارسوا هذا النوع من التجارة، فإن «المستفيد بالدرجة الأولى من ذلك ليس الوافد بل الكفيل، حيث يفرض مبالغ كبيرة قد تُجاوز 40 في المائة من الأرباح سنوياً».

عالجت «الإصلاحات» المعلَنة جزءاً من الإرث الفاسد الذي خلقه نظام الكفالة، من خلال إعادة بعض من الموارد التي تذهب إلى جيوب مئات الكفلاء عوضاً عن الدولة. ومن خلال حملة مكافحة «التستر التجاري»، تمكّنت وزارة الاستثمار من إصدار أكثر من 13 ألف رخصة جديدة للاستثمارات الأجنبية، في الفترة ما بين آذار 2021 وشباط 2022، علماً أن معظم تلك المشاريع كانت مُستغَلّة ومسجَّلة بأسماء الكفلاء السعوديين. وبحسب الوزارة، فقد شهد الربع الأول من عام 2022، ارتفاعاً غير مسبوق بنسبة 1859% في الترخيص، مقارنة بالفترة ذاتها من 2021. إلّا أن هذا الرقم الهائل لا يمثّل سوى جزء بسيط من المشاريع التي ما زالت بأسماء الكفلاء، الذين شكّل اشتراط الحصول على موافقتهم، عقبة رئيسة أمام تمكّن المستثمر الأجنبي من الحصول على وثيقة الاستثمار.

مع ذلك، أثارت هذه «الإصلاحات» نوعاً من الاستياء والسخط في أوساط الكفلاء، الذين استشعروا توجّهاً للتضييق على امتيازاتهم ومصالحهم المتوارثة المكتسبة بطريقة غير شرعية لعقود، وهو ما حملهم على افتعال مشكلات مع العمّال الساعين لتصحيح تجارتهم، ونمّى لديهم نزعة الانتقام، طبقاً لعدد من العاملين الذين فضّلوا عدم ذكر أسمائهم لحماية مصالحهم. وتكشف شهادات وافدين، تحدّثت معهم «الأخبار»، عن تهديدات وعوائق جمّة اعترضت طريقهم عندما سعوا إلى الإفصاح عن تجارتهم وتسجيلها رسمياً، من بينها تهديدات على حياتهم. وأفاد آخرون بأنهم وُضعوا في القائمة السوداء من قِبَل أرباب العمل، وفقدوا فرصة الحصول على لقمة عيشهم، بل وفقدوا أيّ أمل في نيل اعتراف بأحقّيتهم في المتاجر التي استثمروا فيها وامتلكوها، بشكل غير رسمي وغير قانوني، فيما تعرّض آخرون للترحيل والسجن نتيجة إبلاغ كفلائهم عنهم واتّهامهم إياهم بدعاوى كاذبة.

ازدراء الداخلية للقانون
بالرغم من التحدّيات التي يفرضها نظام الكفالة، إلّا أنها لم تعوّق طموح المحمدي الذي دخل السعودية كعامل، ليتمكّن بعد سنوات من إنشاء مطعمه الخاص، الذي أصبح من أشهر مطاعم «المندي» في مدينة صبيا خصوصاً ومنطقة جازان عموماً. وكأيّ مستثمر ناجح، احتفظ المحمدي بعلاقة جيّدة مع محيطه، وفقاً لتقرير البحث والتحريات، كما مع كفيلته التي استثمر باسمها، بحسب ما تؤكده أسمهان، مستدركةً بأن الكفيلة، من دون سابق إنذار، تحوّلت إلى خصم منذ آذار 2021، عندما صارحها عبد الصمد برغبته في تصحيح تجارته وسعيه إلى الحصول على وثيقة الاستثمار، وحاجته إلى موافقتها لاستكمال ذلك. وإذ «جُنّ جنونها» بعد طلبه هذا، فقد تمكّن من نيل ما أراد عقب مفاوضات استمرّت لأشهر، ليتقدّم بطلبه رسمياً في آب 2021. إلّا أنه لم يكد يمرّ شهر على حصوله على الوثيقة، حتى قُتل بناءً على بلاغ مجهول، كشف كذبه تقرير البحث والتحريات الصادر بعد فوات الأوان، بعد شهرين وعشرين يوماً من تصفيته، مؤكداً سلامة مصادر الأموال التي تمّ الاستيلاء عليها أثناء المداهمة، ونظافة السجل الأمني للمغدور من أيّ شبهات أو قضايا على مدى 25 عاماً.

بُنيت ثروة السعودية واقتصادها الذي يسعى ولي العهد، محمد بن سلمان، إلى تطويره، على ظهور ملايين الوافدين، بيد أن هذه الجريمة، وما تلاها من تواطؤ من قِبَل الأجهزة الرسمية للدولة، والمعنيّة نظرياً بتوفير الحماية للمستثمرين والعمال، تكشف عن ازدراء مطلق لسيادة القانون ومخاطر لا تنتهي تتهدّد حياة هؤلاء، حتى لو احترموا النظام المفروض عليهم. ولم تتمكّن السعودية، حتى اليوم، على رغم الدعاية الهائلة لـ«إصلاحاتها» المزعومة، من إثبات تغيّرها وحسن تعاملها مع جيرانها اليمنيين الذين شكّلوا اللبنة الأولى في بناء اقتصادها، بل ولعبت دوراً في تعميق مأساتهم بشنّها الحرب على بلدهم. وحتى من منظور مصالحها هي، فإن «الحدّ من المخاطر التنظيمية التي يتعرّض لها المستثمرون له آثار كبيرة على تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر، حتى أكبر من آثار الانفتاح التجاري»، وفقاً لبحث أعدّه «البنك الدولي»، بما لا يستثني منطقة جازان وثلاث مناطق اقتصادية أخرى أطلقها ابن سلمان منتصف نيسان 2023، في إطار برنامج رئيس لتشجيع الاستثمار الدولي في المملكة.