السعودية مأوًى للرياضيين «المتقاعدين»: لمِّعونا ولكُم ملياراتنا!
على رغم الضجّة الكبيرة التي رافقت وصول كريستيانو رونالدو إلى السعودية للانضمام إلى الدوري السعودي لاعباً في «نادي النصر»، إلّا أن الكثير من السعوديين قابلوا تلك الصفقة المكلِفة بالتشكيك في جدواها، حتى بالنسبة إلى وليّ العهد، محمد بن سلمان، غير المهتمّ باستغلال فُرصة الطفرة النفطية الحالية لتحقيق تنمية حقيقية، بقدر ما هو معنيّ بتثبيت دعائم نظامه في هذه المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها المملكة. وتَحسم هذه الصفقة، وما سيليها، ومعها مجمل الاستثمار السعودي في الرياضة، كما في الفنّ والمشاريع العمرانية الكبرى، وُجهة السياسة السعودية التي تعتمد الدعاية المكشوفة عن طريق الإبهار، على رغم المخاطر التي قد تفضي إلى إنتاج اقتصاد مشوَّه
انشغلت السعودية، في الأيام القليلة الماضية، بتوقيع «نادي النصر» عقداً مع كريستيانو رونالدو، ثمّ بوصول الأخير إلى الرياض، ليبدأ الموسم الأوّل من عَقده البالغ 500 مليون يورو على مدى عامَين ونصف عام. يحطّ كريستيانو في المملكة في نهاية مسيرته الرياضية التي شهدت في آخرها عثرات تَمثّلت في رفْض أندية كبيرة التعاقد معه، لاعتبارها أنه أصبح «شبه منتهي الصلاحية». لكن المطلوب من رونالدو في السعودية ليس أن يبدع كروياً، ولا أن يستعيد «شبابه»، وإنّما مجرّد الظهور لتلميع صورة نظام الحُكم، وهو ما يدركه اللاعب تماماً. على أن كريستيانو لن يكون الأخير. فمن المتوقّع أن تكرّ سُبحة اللاعبين «المتقاعدين» من الدوريات الكبرى الأوروبية، والذين سيأتون إلى المملكة بعقود خيالية. وفي السياق، بدأ «نادي الهلال»، بحسب ما ذكرت صحيفة «كالتشو ميركاتو»، بمحاولة إقناع ليونيل ميسي بالانضمام إليه، كما يجري الحديث عن عروض لضمّ لاعب «ريال مدريد» لوكا مودريتش، ولاعب «باريس سان جيرمان» سيرجيو راموس، إلى «النصر».
ستعود تلك السياسة، أو هي عادت بالفعل، على نظام ابن سلمان بمكاسب على شكل تأييد شرائح كبيرة من الشباب السعودي، لكنها تحصل على حساب التنمية الحقيقية التي تتيح خلْق فرص عمل وتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، تحسّباً للأيام التي يتدهور فيها سعر تلك السلعة أو تتراجع أهميتها. فالرجل، كما حكّام عدد من الدول الخليجية الأخرى، يَعتبرون الرياضة وسيلة سريعة للترويج السياسي، محلّياً وعالمياً. ولهذا، صارت مَدار تنافس بينهم. ولأن قطر نظّمت بنجاح كأس العالم لكرة القدم من دون أن تأبه للكلفة التي بلغت 220 مليار دولار، تقوم السعودية بمحاولة الاستلحاق من خلال سلسلة صفقات شملت شراء نادي «نيوكاسل» الذي أُغدقت عليه الأموال، فتَقدّم من مواقع متأخّرة في الدوري الإنكليزي إلى المركز الثالث، مطارداً «مانشستر سيتي» المملوك للإمارات، والذي يحتلّ المركز الثاني. كما انتقل المال السعودي إلى الدوري الإسباني من خلال تملُّك تركي آل الشيخ نادي «ألميريا» الصاعد حديثاً إلى «الليغا»، ليتقدّم إلى المركز الـ13 من أصل 20، أي أنه آمن نسبياً من الهبوط إلى الدرجة الثانية، بل إن آل الشيخ يسعى إلى تعزيز النادي؛ إذ عبّر أخيراً عن استعداده لدفع مبلغ مالي مهمّ للحصول على خدمات اللاعب المغربي عز الدين أوناحي لصالح «ألميريا».
لكن الإنفاق الهائل، وكلّه من مال الدولة، باعتبار أن لا الأندية السعودية ولا الأشخاص المعنيّين كآل الشيخ يملكون المال اللازم لذلك، أثار نقاشاً آخر يعبّر فيه الكثير من المعارضين المنفيّين عن مُعارضتهم له جهاراً نهاراً، بينما يتململ منه مَن هم في الداخل مِمَّن طحنتْهم البطالة والضرائب والرسوم وأسعار الوقود المرتفعة، فضلاً عن التضخّم المستورَد الناجم عن ارتفاع أسعار النفط العالمية. ويرى المعارضون أن تبديد الأموال على الدعاية للنظام، يمثّل فرصة ضائعة أخرى لاستغلال الفوائض المالية الناجمة عن الطفرة النفطية في تحقيق تنمية مستدامة، أو على الأقلّ في التخفيف من آثار التضخّم العالمي على المواطنين، عن طريق خفْض نسبة الضريبة على القيمة المضافة التي تبلغ 15 في المئة، وهي عالية بالمقاييس العالمية (إسبانيا غير المنتِجة للنفط ألغت أخيراً ضريبة القيمة المضافة على السلع الأساسية لدعم الفقراء)، فضلاً عن البطالة التي بلغت نسبتها في الربع الثالث من العام الماضي 9.9 في المئة، وفق «الهيئة العامة للإحصاء»، على رغم أن المعارضين يشكّكون في تلك الأرقام الرسمية، ويَعتبرون نسبة البطالة أعلى من ذلك بكثير.
السعودية وغيرها من دول الخليج، عانت في السنوات الماضية، وخصوصاً خلال فترات تراجُع أسعار النفط، من مشكلات كبيرة في اقتصاداتها، أدّت إلى عجوزات كبيرة في ميزانياتها، ودفعت بعضها، ومن ضمنها المملكة، إلى الاستدانة، وهو أمر قد يتكرّر، لأن الطفرات النفطية عادة ما يتبعها ركود عالمي يعيد أسعار النفط إلى التراجع. وتحفل تقارير مؤسّسات التصنيف العالمية وتقديرات خبراء الاقتصاد، بالكثير من الانتقادات للسياسات الاقتصادية لدول الخليج، التي لا تستغلّ الفوائض المالية في التنويع الاقتصادي، وهو ما يصيبها بتخلّف تنموي مزمن. ويَظهر هذا، مثلاً، في السيول التي تشهدها بعض المدن السعودية، وخاصة جدة ومكة بين الفينة والأخرى، إمّا لمحدودية قنوات الصرف أو لعدم توافرها نهائياً، إذ تقول مواقع إخبارية معارضة إن أمانة محافظة جدة تبالغ كثيراً في إعلاناتها المتكرّرة عن تسليم مقاولين، مشاريع صرف مياه أمطار في الأحياء، بدليل تكرار كوارث السيول.
قد يكون انعدام التنمية، في جزء منه، عائداً إلى سياسة مقصودة؛ فعلى سبيل المثال، يمكن السؤال عن سبب عدم وجود شبكات قطارات فاعلة تصل مدن الخليج بعضها ببعض سواءً داخل الدولة الواحدة أو على المستوى الإقليمي، باعتباره متعمَّداً للحدّ من حرية الحركة والتواصل الذي يمكن أن ينشأ منه نمط حياة يفرض تغييرات على المستوى السياسي مع الوقت. وباستثناء قطار الحرمين الذي يصل مكة والمدينة وجدة، ومترو الرياض الذي ما زال قيد التجربة منذ سنوات، لا توجد شبكة قطارات يُعوَّل عليها في السعودية والخليج. وأمّا ما اتُّخذ من قرارات في القِمم الخليجية على صعيد فتْح الأسواق البيْنية وتسهيل حركة السكّان عن طريق اعتماد بطاقة الهوية للتنقّل وإزالة التأشيرات، فيبقى قابلاً للنقض وفقاً لمزاجية حاكم دولة واحدة من تلك الدول، كما حدث عند مقاطعة قطر، حيث لم يكن من الممكن لعصفور أن يطير عبر الحدود.
وفي النهاية، أيضاً ثمّة سؤال كبير يدور في الفضاء العالمي عن أخلاقيّة الصفقات الرياضية الكبيرة على الوجهَين، أي دول الخليج والرياضيين أنفسهم. فالعالم كلّه يعاني موجة ارتفاع أسعار أفْقرت الكثير من سكانه وأرهقت ميزانيات معظم عائلاته، في الوقت الذي يتفنّن فيه حكّام الخليج الذين اغتنوا على حساب هذا العالم، في تبذير الأموال على الدعاية لأنفسهم.