عندما يستثمر ابن سلمان في «القبَلية» الأميركية
يتيح قرار منظّمة «أوبك +» الأخير، خفْض إنتاج النفط بما يقارب المليونَي برميل يومياً، فرصة لقراءة الأبعاد المختلفة للعلاقات الدولية اليوم، وأبرزها العلاقة بين المملكة السعودية والولايات المتحدة، إذ إن تداعيات هذا القرار ستطاول أكثر من ملفّ، في ظلّ وضع دولي غير مسبوق تسارعت التحوّلات فيه بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. تستدعي قراءةٌ كتلك، التنبّه إلى ثلاثة أوجهٍ مختلفة متشابكة: أوّلها، الاختلال في قوّة الولايات المتحدة وأدوات سيطرتها على السياسة الدولية، وثانيها، حجم هذا الاختلال وكيفية تأثيره في الداخل الأميركي واستقطاباته السياسية والاجتماعية، وثالثها التغيّر في ديناميكية علاقة الدول المرتبطة بأميركا، خصوصاً حين الحديث عن دولة بحجم وأهمية السعودية، التي تمتدّ وتنصهر ارتباطاتها بالولايات المتحدة، بشكل يتداخل مع مجال السياسة الداخلية الأميركية.
من هنا، يمكن النظر إلى قرار «أوبك +» من زاوية كوْنه خطوة سعودية ستؤثّر في الهيمنة الأميركية الدولية. ذلك أن واحداً من تداعياته سيكون دعم الاقتصاد الروسي، المنخرط في مجهود عسكري ضدّ أوكرانيا وحلف «الناتو». أمّا الزاوية الأخرى، فهي تأثير القرار في الداخل الأميركي، في فترة زمنية حسّاسة تسبق الانتخابات النصفية، وهذا بالتحديد هو ما يشغل الأميركيين أكثر من تأثير الخطوة في الطرف الروسي. وفي حين كان الخطاب الرسمي السعودي بالغ الدبلوماسية في التعاطي مع القرار، إلّا أن مُريدي السعودية، وبل حتى سواهم، قاربوه كدليل على استقلالية قرار المملكة وتقديمها مصلحتها الوطنية أولاً، وإنْ كان في وجه أميركا نفسها، وهو ما دفع خصوم السعودية، القائم خطابهم على تبعيّتها لـ«بيت الطاعة» الأميركي والغربي، إلى اتّخاذ موقع دفاع، في تنابُز إعلامي وسياسي مديد في المجال السياسي العربي.
إلّا أن ما يجب اعتباره من القرار، بعيداً عن هذا التنابز، هو عبر قراءة مركّبة لشكل العلاقة التاريخية بين المملكة وأميركا، بالإمكان توسيعها أيضاً لتشمل كلّ دولة تُحكم من نُخب تتشابك وترتبط مصالحها مع الولايات المتحدة. فالتفسير الهشّ القائم على تبسيط شكل العلاقة إلى حدود «سيّد» يأمر وينهى كيفما وأينما شاء دونما أيّ اعتبارات؛ و«عبد» يطيع، إنّما هو تفسير خاطئ يؤسّس لقراءة خاطئة. الواقع أن علاقة أميركا مع الدول المرتبطة بها، هي علاقة مصلحة متبادلة، وأن ما يقتضيه لفظ «الهيمنة الأميركية» هو أن كفّة القوة ضمن علاقة المصلحة تلك، تميل بشكل قاهر لصالح الأميركيين. تختلف، هنا، أدوات القوة وأشكالها من دولة إلى أخرى، ومنها مثلاً الابتزاز بوقْف المِنح المالية والعسكرية، أو التهديد بالتضييق والعقوبات، أو في الحالة المميّزة في الخليج العربي التهديد برفع الحماية العسكرية، مثلما ينادي به اليوم العديد من أعضاء الكونغرس الأميركي، وصرّح به مسؤولون أميركيون مختلفون ومباشرة على شاشات التلفزة، بقولهم: «هل يظنّ السعوديون أن الروس أو الصينيين قادرون على توفير الحماية لهم؟».
وإذ يأتي هذا التهديد ضمن مسار تاريخي من الشدّ والجذب وفق ما تقتضيه المصلحة، فإن الأمر المختلف اليوم هو أننا أمام واقع دولي وأميركي داخلي مغاير، يظهّر اهتزازاً لفعالية أوراق الابتزاز الأميركية، وهو ما فهمه السعوديون جيداً.
ولعلّ أهمّ وجوه اهتزاز السطوة ذاك، يمكن استشفافه من مراقبة تبدُّل شكل علاقة النُّخب الحاكمة الخليجية بالولايات المتحدة وجرأتها السياسية. فهذه النُّخبة السعودية هي أوّل مَن يستشعر ويهاب تقهقر أميركا التي رهنت ديمومة حُكمها بها. وبالنسبة إلى المملكة، وتحديداً منذ تسلُّم محمد بن سلمان السلطة الفعلية، كانت السنوات السبع الماضية مخاضاً للتكيّف في التعامل مع الأميركيين، والأهمّ الوصول إلى القدرة على استغلال تناقضاتهم الداخلية. ومن هنا، ولكي لا يُفهم قرار «أوبك +» كانحياز كامل إلى الروس، حرص السعوديون على موازنته، بإعلانهم عن هِبة مادّية بقرابة 400 مليون دولار لأوكرانيا، وأيضاً تواصلهم مع المسؤولين الأوكرانيين والطلب منهم التغريد بتصريحات تثمّن مواقف المملكة. هذه الموازنة في حدّ ذاتها تعكس ضعفاً أميركياً وغربياً، حيث تخشى الدول حتى المرتبطة أمنياً واقتصادياً بواشنطن، وعلى الرغم من احتدام الصراع الروسي - الغربي، من التخندق الصارخ إلى جانب أيّ من الطرفَين.
البُعد الآخر الذي تظهّره هذه الموازنة، هو أن قرار «أوبك +» في جوهره ليس اصطفافاً ضدّ الغرب مع روسيا، بل محاولة للتأثير في الداخل الأميركي وفي حكومة الرئيس جو بايدن على وجه التحديد، إذ تُعدّ السياسة الداخلية الأميركية مسرحاً مهمّاً ليس للحُكم السعودي فقط، بل حتى للشخصيات السعودية المعارضة، التي تعمل من داخل التجاذبات الحزبية على التحريض على حُكم آل سلمان، سواء على المستوى القضائي أو الإعلامي. ولذلك، يؤثّر السعوديون في المجال السياسي الأميركي في إطار مصالحهم، وبحجم ونوع غير مسبوقَين، لم يكونا ليتحقّقا لولا حجم الاستقطاب والتناقضات الداخلية الأميركية الحادّة. بتعبير آخر، إن الاهتزاز الذي يصيب الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وحجم الاستقطاب السياسي - الاجتماعي في داخلها، يؤثّر أحدُهما في الآخر بشكل سلبي. ومن هنا، يمسي وصْف البيت الأبيض قرار «أوبك +» بـ«بالعمل العدائي» خاوياً، والأمر ذاته ينسحب على مسألة التدخّل في الانتخابات. ذلك أن حجم الشقاق الجمهوري - الديموقراطي، حال دون إقرار موقف موحّد تجاه خطوة المنظّمة، ليضيع ردّ الفعل في زحمة الاختلافات الحزبية. وحتى وإنْ حرص الجمهوريون على تبيان امتعاضهم من القرار، لكي لا يَظهروا بمظهر غير المبالين بأثره في الناخبين الأميركيين، إلّا أنهم ألقوا باللوم المباشر على بايدن. ويضاف إلى ذلك، قيام أعضاء من الحزبَين بتبنّي سرديات مِن قَبيل أن بايدن أراد من السعوديين مجرّد تأجيل القرار شهراً واحداً حتى تَظهر نتائج الانتخابات، أو سردية أن الجمهوريين هم مَن دفعوا بالسعوديين نحو خطوتهم الأخيرة للإضرار ببايدن ومحاولة كسْب الانتخابات. وهنا، ضاع موضوع تمرّد السعوديين وقيامهم بما وُصف بـ«العمل العدائي».
المثير والمهمّ، هو كيف أمست السياسة الأميركية أشبه بسياسات دول غير متماسكة، أو حتى بسياسات النُّخب الحاكمة العربية القائمة على تعصّب الأطراف بعضها ضدّ بعض. فلو وضعْنا القرار السعودي في حقبة زمنية ماضية، ولْنقل في فترة باراك أوباما الأولى، فما كان له أن يتمّ، إذ إن الهوية الأميركية كانت متماسكة على نحو سيدفع الجميع إلى اعتبار الخطوة «عملاً عدائياً»، إلّا أن القبَلية الحزبية والاستقطاب الأميركي اليوم، وهّنا من الهوية الأميركية لصالح المصالح الحزبية - الهويّاتية الضيّقة. ومن هنا، يَبرز قرار «أوبك +»، ليس كمحاولة للانعتاق من الولايات المتحدة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وبل حتى ثقافياً، بل كمؤشّر إلى ولادة مرحلة دولية، وأميركية داخلية، جديدة على الدول المرتبطة نُخبها بالأميركيين، وقواعد لَعِبها مختلفة عن الماضي، وهذا بالتحديد ما يحاول السعوديون التأقلم معه، وصوغ وجودهم ضمن تناقضاته.