السعودية ــ أميركا: ترتيب العلاقة تحت سقف «اللاتكافؤ»

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1204
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

في مرحلتنا الحالية، وأكثر من أي وقت مضى، تُمسي محاولة مقاربة العلاقات الدولية عبر الأدبيات السائدة التي تلت تشكيل النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية قصوراً في الفهم على أقل تقدير. عملية تصوير أنّ عالمنا المعاصر مشكّل من دول/ أمم ذات سيادة تربطها ببعضها البعض علاقات منطلقة من التناظر، مؤطّرة من خلال القوانين الدولية والالتزام بمواثيق الأمم المتحدة، بدأت بالترهّل. في الواقع، لم تتخذ المنظومة الدولية هذه الصورة إلا كشكل من أشكال التغطية على جوهر تقسيم موازين القوى العالمية بين دول الاستعمار الغربي التي أرادت تنظيم علاقاتها البينية تحت إطار قاسمها المشترك. أي إنها منظومة دولية تهيمن عليها دول اعتاشت وتعتاش على عملية نهب موارد مستعمراتها حتى بعد إعلان استقلالها، ورسم حدودها وألوان أعلامها وأناشيدها الوطنية وعضويتها في الأمم المتحدة. وذلك لتصويرها كدول تتمتع بسيادة ووحدة وسلامة الأراضي، تحت مظلة منظومة الهيمنة والنهب الغربية.

من هنا، وفي حالة دول الخليج، يُطلق الباحث البريطاني ديفيد ويرينغ على طبيعة العلاقة التي تربط دول الخليج، بعد منحها استقلالها، بالقوى الغربية، بـ«الاعتماد المتبادل غير المتكافئ» (asymmetric interdependence). حيث لا يمكن، وطوال تاريخ هذه الدول، مقاربة علاقتها مع المملكة المتحدة، ومن ثم الولايات المتحدة، تحت عناوين العلاقات الدولية. على قاعدة أن هذه الدول تمثّل بنية اجتماعية واقتصادية مستقلة وتملك ميزان قوة عسكرية للدفاع وصون هذه البنية، وعليه تربطها علاقة متكافئة مع «نظيراتها». بمعنى أنه وحين سماع خبر على شاكلة اتصال بين الرئيس الأميركي و«نظيره» العاهل السعودي، فالمسألة أبعد ما تكون عن التناظر، إلا أنّ وجوب تغطية علاقة الاعتماد المتبادل غير المتكافئ، بتعبير ويرينغ، تستوجب تبنّي هذه الصيغ. هذه الأدبيات والبروتوكولات الجوفاء هي ما تقوم عليه المنظومة الدولية. بيد أن هذه العلاقة، في الواقع، تحكمها حالة اعتماد سياسية واقتصادية وأمنية تميل الكفة فيها بشكل قاهر للإمبراطورية الأميركية.

لم تصل فجاجة وضوح طبيعة هذه العلاقة بين الرياض وواشنطن إلى المستوى الذي وصلت إليه اليوم. يعود ذلك لعاملين:

الأوّل، أثر التصدّع الذي تتعرّض له الهيمنة الأميركية على العالم، تحديداً الاهتزاز المعنوي للنموذج الأيديولوجي الأميركي.

أمّا الثاني، فهو ناتج عن الجموح في السياسات السعودية في ظل حكم آل سلمان؛ من قتل جمال خاشقجي إلى العدوان على اليمن.

ردة فعل السعوديين المستاءة على لسان تركي الفيصل بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ومناشدته الأميركيّين لطمأنة السعوديّين ومختلف الدول الخليجية وتأكيد التزامهم حمايتهم، تندرج ضمن الخشية العلنية من تخلي الأميركيين عنهم. وهو ما يتقاطع مع غطاء الدفاع الجوي الأميركي فوق سماء المملكة لصد الصواريخ والمسيّرات اليمنية. إذ وصل ارتباك السعوديين إلى درجة حض الأميركيين على التصريح، وبشكل مباشر وصريح دون مواربة، بأنهم ملتزمون أمن المملكة، وهو ما يشكّل قطيعة مع السياسة التاريخية التي تحاول صياغة هكذا تصاريح بديبلوماسية أكثر وبشكل يحفظ، ولو معنوياً، صورة استقلال وكفاءة السعودية للدفاع عن نفسها.

أتت هذه الفجاجة ضمن عملية الشد والجذب بين السعودية وإدارة جو بايدن، الذي أراد ليّ ذراع السعوديين في تسويق انتخابي لعودة أميركا والالتزام بـ«قيمها» وإعادة تثبيت موازين عدم تكافؤ الاعتماد المتبادل في هذه العلاقة. إلّا أنّ بايدن اصطدم بواقع دولي جديد تلا الأزمة الأوكرانية، ليضطر إلى إعادة الحسابات وترتيب الأولويات. وهذا ما فهمه السعوديون؛ لعل أبرز معالم اهتزاز الهيمنة الأميركية على مستوى العالم هو التمرّد النسبي لدول كدول الخليج. كلٌّ من السعودية والإمارات اتخذتا موقفاً على مسافة واحدة من الحرب الأوكرانية، بل إن التغطية الإعلامية للقنوات السعودية للحرب حاولت الميل لصالح الروس كنوع من إبداء الامتعاض من الأميركيين. الأمر بحد ذاته ليس بجديد، فضمن ديناميكية علاقتهم مع الغرب دأب السعوديون على استغلال الميل لاقتصاديات شرق آسيا أو حتى التقرّب من روسيا كرسالة للغرب مفادها أنكم «تخسرون استثماراتنا» بسبب تعنّتهم في سياسات تتعلّق بحقوق الإنسان - كما شهدنا مع جريمة خاشقجي.

المسألة هنا، والتي يعيها الطرفان، أنّ هذه مجرّد مناورة سعودية للشد ضمن ديناميكية علاقتها مع الولايات المتحدة. فك ارتباط دول الخليج بالغرب، بشكل كامل، سواء اقتصادياً أم أمنياً، هو، بشكل مادي، غير قابل للحصول. لكي يكون ذلك، فإن على السعوديين تشييد بنى اقتصادية وعسكرية مستقلة عن الضامن الغربي؛ أي أنها قائمة بذاتها على الرأسمالية المعولمة أو البنية الاستخباراتية والأمنية الغربية. يعبّر أحد الأميركيين في هذا الصدد أن السعوديين يعلمون أنه مهما تقرّبوا من الصين فإنّ الأخيرة لن ترسل مقاتلاتها للقواعد الجوية العسكرية في السعودية للدفاع عن المملكة كما نفعل نحن. ففي نهاية المطاف، ورغم إعادة تموضع الأميركيين في المشرق العربي، تظل مسألة أمن الحكم السعودي مصلحة إمبراطوريّةً أميركية.

ضمن هذه الخلفية تأتي زيارة بايدن المقبلة إلى المنطقة. كغيره من الرؤساء الأميركيين، من كلمة أوباما في القاهرة إلى الاحتفال الضخم بترامب في الرياض، يحلّ بايدن على المنطقة في ظرف دولي يحتاج فيه إلى بدء مرحلة جديدة مع السعوديين تهدف إلى إنهاء المناورة النفطية السعودية، بالنسبة لتفاهماتها مع روسيا، وأثر ذلك على أسعار المشتقات النفطية في الداخل الأميركي، والتي تحتاجها الإدارة الديموقراطية ضمن تناقضات صراع الحكم في واشنطن. بالإضافة إلى ذلك، ولعله الأهم، هي مسألة ترتيبات المنطقة التي تهدف إلى تمتين الحلف الأميركي وترابط أمنه من دون الوجود المباشر للقوات الأميركية. هذا ما تقتضيه عملية التشبيك الاقتصادية والمالية والأمنية المتزايدة بين السعودية وكيان العدو الصهيوني. ما يلوح في الأفق هو محاولة أميركية لإيجاد تخريجة للقضية الفلسطينية بشكل يذعن بإعلان التحالف الخليجي ــ الإسرائيلي لـ«شرق أوسط» تتخفّف فيه الأعباء الأميركية.

في الأخير، تغدو المسألة ترتيب أوراق بين السعوديين والأميركيين، وإن كان الوضع الدولي بعد الحرب في أوكرانيا مكّن السعوديين من المناورة، فلا يزال، بطبيعة الحال، عدم التكافؤ حاكماً لهذه العلاقة. وهنا تأتي مسألة التطبيع مع العدو ضمن مكتسبات يرتضيها ولي العهد السعودي، تتمحور جلّها حول ضمان الرعاية الأميركية لوصوله إلى الملك. ما مسألة التطبيع بين الأنظمة العربية وكيان العدو سوى صفقة تبادل فيها كل سلطة بما تريده؛ من مسألة الصحراء الغربية وشرعنة السلطة في السودان وضمان أمن حكم الإمارات. ومكسب ابن سلمان هنا سدّة العرش السعودي وأن يربط أمن القصر بأمن مستوطنات الصهاينة على أرض فلسطين.

إلا أنه لا يمكن تجاوز تمايز ثقل المملكة ضمن المصالح الأميركية دوناً عن غيرها من باقي دول المنطقة. لاحظت الباحثة الفلسطينية روزماري سعيد أنه، ومنذ السبعينيات، كانت العلاقة الأميركية بكل من المملكة والكيان الإسرائيلي محوراً ثابتاً في السياسات الأميركية. وفي حين شهدت علاقات الأميركيين بباقي الدول تقلّبات كبيرة، فقد تميّزت العلاقة مع الكيان والسعودية باتساق كبير. وعليه، أطلقت روزماري عليهما لفظ «الركيزتان التوأمتان»، إلا أنها تُبيّن أن الركيزتين كانتا تسيران على خطوط متوازية ولم تتقاطعا إلا بما يتصل بفلسطين. أمّا اليوم، فنصل إلى مشهد تحتّم فيه الظروف الدولية وإعادة التموضع الأميركي تقاطعاً جديداً، لكن من باب بناء أمن مشترك للركيزتين من دون الاعتماد المباشر على الأميركيين. هكذا تستمر حالة الاعتماد السعودية الأميركية غير المتكافئة، ولكن ضمن ظروف عربية جديدة تمسي فيها العلاقة مع الصهاينة محور الاعتماد الأمني للسلطة السعودية وعنوان استقرار حكمها.