مواقع مصر والسعودية والإمارات.. الجغرافيا السياسية لانقلاب السودان

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1698
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

بعد مرور ما يقرب من 3 أسابيع على الانقلاب في السودان، الذي أطاح بحكومة انتقالية هشة، لا يزال المتظاهرون متحدين ضده. فقد قُتل 5 متظاهرين وأصيب العشرات، السبت الماضي، في مظاهرات خرجت تأييدا للديمقراطية، فيما أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود.

عندما بدأ المتظاهرون بالخروج في جميع "المدن الثلاث"، التي تشكل العاصمة الخرطوم، تحركت قوات الأمن بسرعة لمنعهم من الوصول إلى مواقع التجمع الرئيسية. فقد أغلقت الجسور، ونصبت حواجز من الأسلاك الشائكة لاغلاق الطرقات، وأوعزت إلى مستشفى باحتجاز العديد من جرحى الاحتجاجات.

ويأتي ذلك متزامنا مع قلق القادة العسكريين إزاء تصاعد التكتيكات الإستراتيجية للتعبئة الجماهيرية؛ إذ قد يتمكن المتظاهرون إذا استمروا في نضالهم، من الوصول إلى مناطق التجمع، التي هدف حجب الإنترنت إلى تعطيل الوصول لها. وبعد الانقلاب، تم قطع الإنترنت ما أدى إلى قطع الاتصالات بين الأفراد، كما اقتحم الجيش مقر الإذاعة والتليفزيون في مدينة أم درمان، واعتقل الموظفين به.

ويمكن لهذه التكتيكات والاستراتيجيات الجديدة أن تدعم جهود تفكيك هيكل القوة غير المستقر، الذي يشكل الحكم العسكري. ويفسر هذا العامل على الأرجح حملة القمع ضد المحتجين السبت الماضي؛ حيث سعت قوات الأمن إلى منع المتظاهرين من التعبئة ونشر المطالب عبر منصات مختلفة.

وخرجت الاحتجاجات بدعوات من "تجمع المهنيين السودانيين" وشبكة واسعة من "لجان المقاومة في الأحياء"، وكلاهما تشكل في أعقاب الربيع العربي بين عامي 2010 و2013. إذ أضرمت هذه المجموعات، جنبا إلى جنب مع مجموعة متنوعة من جهود التعبئة الشعبية العفوية، شرارة الاحتجاجات خارج عاصمة البلاد، بما في ذلك المناطق المحيطة مثل مدينتي "كسلا" و"ود مدني".

إن التعامل العنيف من قبل قوات الأمن مع المحتجين يشير إلى عدم الارتياح من تجدد التعبئة المدنية الجماهيرية. وفي الواقع، بينما دعت جهات دولية فاعلة، مثل وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن"، إلى العودة لاتفاقية المرحلة الانتقالية في السودان، التي تضمن دورا عسكريا مستمرا في المؤسسات الرئيسية للدولة، أثار الانقلاب الأخير خطابا أكثر راديكالية بين المتظاهرين، الذين وعدوا بمواصلة الاحتجاج حتى تشكيل حكومة في البلاد يقودها مدنيون بالكامل.

وجاءت التطورات الأخيرة في السودان بعد أسابيع من الاضطرابات والمناورات الجيوسياسية المعقدة. ففي 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قرر قائد الجيش "عبدالفتاح البرهان" حل الحكومة الانتقالية، وإنهاء الحكم المدني، وإعلان حالة الطوارئ في السودان. ولقيت هذه الإجراءات إدانة من الاتحاد الأوروبي وروسيا، فيما صمت إزاءها لاعبون إقليميون رئيسيون مثل مصر والإمارات والسعودية.

وجاء صمت الإمارات على إجراءات "البرهان" في ظل الشراكة الاستراتيجية، التي أقامتها أبوظبي مع الخرطوم لزيادة التعاون الثنائي، فيما يأتي الصمت الإسرائيلي متزامنا مع إعلان قادة الجيش السوداني الرغبة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتتنافس السعودية والإمارات على السيطرة على ميناء البحر الأحمر الاستراتيجي (ميناء بورتسودان)، وتوجهان الاستثمارات لزيادة نفوذهما في السودان في سياق الصراع على القوة الجيوسياسية.

واستشهد المحلل السياسي "جهاد مشامون" بالاستثمارات السعودية كمحاولة لتقليص نفوذ الإمارات على مفاصل الحكم بالسودان، وهي السلطة التي أبوظبي الإمارات لفترة من خلال القيادة العسكرية داخل الحكومة الانتقالية. ومع ذلك، لاحظ "مشامون" تضاؤل ​​تأثير الإمارات، بما يشمل امتثال القادة العسكريين للسياسة السعودية، ورفض "البرهان" للسياسة الإماراتية. وبالتالي، فإن الصمت اللحظي للإمارات ينبع على الأرجح من الاستيلاء غير الناجح على السلطة، الذي يعتمد على التأثير الجيوسياسي، وتقلص السيطرة على القيادة العسكرية في السودان.

وإضافة إلى الاستثمارات والسياسة الاقتصادية، أقامت السعودية أيضا علاقات وثيقة مع مجموعات الميليشيات المسلحة الرئيسية التي تدعمها الحكومة السودانية مثل "قوات الدعم السريع"، والتي وظفتها كمرتزقة في اليمن. ومع ذلك، وفي تحول مفاجئ للأحداث صدم حتى أكثر المعلقين تفاؤلا، انضمت السعودية والإمارات إلى الولايات المتحدة ولاعبين رئيسيين آخرين في إدانة الانقلاب السودان، عبر بيان مشترك صدر في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وقد تعرض خطوة الإمارات سيطرتها الجيوسياسية في المنطقة للخطر؛ في إشارة إلى نقضها للحكم العسكري، ومنعها من بسط هيمنة أكبر في البحر الأحمر.

كما يتهم العديد من المتظاهرين الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" بدور رئيسي في الانقلاب ببلدهم، معتبرين أن للقاهرة نفوذا يلوح في الأفق من خلف الكواليس. فقد سعت مصر إلى التأثير على السودان بالتزامن مع سعيها لترسيخ هيمنة جيوسياسية تساعدها في حل أزمة "سد النهضة" الإثيوبي. وشملت السياسات المصرية مع السودان بالخصوص مساعدات اقتصادية وعسكرية، وخط سكة حديد لتسهيل نقل البضائع، ومناورات عسكرية مشتركة بعنوان "حراس النيل" عام 2021.

ويستشهد الباحث "محمد سليمان" بهذه السياسات باعتبارها وسيلة لمصر لتعزيز وجودها بمنطقة القرن الأفريقي؛ مما يمكنها من متابعة المفاوضات اللازمة المطلوبة للتوصل إلى اتفاق بشأن "سد النهضة". فالأهمية الجيوسياسية للسودان تفسر صمت مصر على الانقلاب الأخير؛ حيث من المرجح أن يحمي استمرار الحكم العسكري مصالح المصريين المتعلقة بالسد.

وفي حين أطاح الانقلاب العسكري الأخير الحكومة الانتقالية في السودان، لم يكن هذا التحرك مستبعد. فمنذ عام 2019، أشار محللون إلى أن مخاوف العسكريين من تضاؤل سلطتهم جراء النقل الوشيك إلى حكومة مدنية قد يكون حافزا لهم للاستيلاء على السلطة على ما يبدو. ويأتي الانقلاب في أعقاب تصاعد التوترات داخل الحكومة الانتقالية، التي بلغت ذروتها في محاولة انقلاب فاشلة جرت في سبتمبر/أيلول الماضي، ونُسبت إلى مجموعة غامضة من الموالين للرئيس السابق "عمر البشير". وعند العودة إلى الوراء، قد يتساءل المحللون إلى أي مدى مثلت هذه الخطوة محاولة "فاشلة" بدلا من اختبار لاستكشاف إشارات الضعف والولاء داخل الحكومة المدنية والجهاز القسري ككل (الأمن والجيش). ووقتها، جرّ قادة الجيش السياسيين المدنيين للانقلاب، متهمين إياهم بالتخلي عن الصالح العام بسبب الانشغال بالخلافات الداخلية. وبالمثل، اتهم السياسيين قادة الجيش بالتنافس على تعزيز السلطة.

ويمكن إرجاع محاولة الانقلاب في سبتمبر/أيلول، وكذلك الأحداث الأخيرة، إلى عملية التوازن الدقيقة، التي سعى لها القادة المدنيون من أجل تهميش الجيش تدريجيا من السلطة. وبينما يرى المحللون والنشطاء على حد سواء هذا المسعى كهدف نبيل، فقد ثبت أنه صعب بالنظر إلى الدور الراسخ للجماعات المسلحة في اقتصاد البلاد. وتلقى التعاون بين الجيش ونظرائهم المدنيين ضربة قوية بعد أن سعى المدنيون إلى تنفيذ تغييرات داخل قطاع الأمن؛ حيث أبدت القوات العسكرية بعد فترة وجيزة استيائها عبر إنهاء مشاركتها في اجتماعات مشتركة مع القادة المدنيين.

وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في سبتمبر/أيلول، جدد رئيس الوزراء "عبدالله حمدوك" دعوات لوضع اقتصاد الجيش تحت إشراف مدني، في خطوة مثلت مصدرا للخلاف. فمنذ أواخر التسعينات، عزز "البشير" ولاء القوات المسلحة السودانية وشبكة معقدة من مجموعات المليشيات التي تستخدم ريع النفط المكتشف حديثا في جنوب السودان. وبعد انفصال جنوب السودان عن السودان عام 2011 ، منح النظام على نحو متزايد القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع" عقودا مربحة في مجالات التعدين والزراعة وصفقات الأراضي للحفاظ على ولائهم مع انخفاض إيرادات الدولة. وبحلول ثورة عام 2019، توسعت الإمبراطورية الاقتصادية للجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" لتشمل شركات متكاملة تمتد إلى مجالات الزراعة والبنية التحتية، بجانب ممارسة النفوذ على القطاع الخاص، والسيطرة على مجالات التعدين والطاقة.

ختاما، يبدو أن الأحداث الأخيرة تسلط الضوء على قناعة الجيش بأنه لا يمكنه ممارسة نفوذ اقتصادي وسياسي من خلال حكم مشترك مع المدنيين. وهو الأمر الذي، على الرغم من ميل النشطاء إلى التقليل من أهمية المقارنات الإقليمية، يشبه أحداث عام 2013 في مصر. ومع ذلك، لا يمكن التقليل من تاريخ السودان الفريد وعلاقته بالحكم العسكري كعامل رئيسي يقود مواقف المحتجين. لقد استحضرت شعارات المتظاهرين وخطاب السعكريين الثورتين السابقتين في السودان كدروس ومصدر للإلهام. إذ يدعي الجيش أن الاستيلاء الأخير على السلطة كان ضروريا لمنع حرب أهلية، على غرار ثورة 1985 حيث أعلن الجيش عن أزمة سياسية واقتصادية تطلبت منه الاستيلاء على السلطة.

إن مقاومة الحكم العسكري في الشوارع قوية بشكل لا لبس فيه، ومن المرجح أن تستمر في الأسابيع المقبلة. وقبل استيلاء الجيش على السلطة، أشارت الانقسامات الناجمة عن الانقلاب الفاشل إلى الانقسامات داخل الحكومة المشتركة، ومع ذلك قد يسجل التاريخ هذا الانقلاب الفاشل كمحاولة فاترة من قبل مدبريه لرسم خريطة أفضل للمشهد السياسي وتوازن القوى. وفي حين أن هناك القليل من الدلائل على أن الحكم العسكري سيختفي بين عشية وضحاها، فقد شهدت الأسابيع الماضية عزل نظام الانقلاب بشكل متزايد على المسرح الدولي ومواجهة مستوى متصاعد من التعبئة الجماهيرية، التي من غير المرجح أن تهدأ في أي وقت قريب.

 

المصدر | أوراسيا ريفيو - ترجمة وتحرير الخليج الجديد