من المغامرة إلى التقليدية.. عودة السعودية التي نعرفها

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1316
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

مع تكشف ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، ظهرت سياسة خارجية سعودية أكثر نضجا وواقعية لمواكبة الإشارات المتغيرة من واشنطن. وإلى حد ما، يعيد السعوديون اختيار العناصر التي ميزت تقليديا تفضيلاتهم السياسية قبل الصعود السريع لولي العهد الأمير "محمد بن سلمان"، الحاكم الفعلي للمملكة.

وتاريخيا، تجنبت السعودية الصراع المباشر مع أعدائها، واستفادت من جيوبها العميقة لتوجيه التطورات الإقليمية، وركزت على الدبلوماسية كأداة رئيسية في مجموعة أدواتها الوطنية.

وعلى النقيض من ذلك، منذ عام 2015 اتسمت السياسة الخارجية السعودية، التي تتماشى مع سياسة "أمريكا أولا" المتعجرفة للرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، بالعدوانية والاستعداد للجوء إلى القوة لتحقيق أهدافها. لكن هذا النهج الجديد فشل إلى حد كبير في تحقيق الأهداف الإقليمية السعودية.

ومن بين سلسلة الانتكاسات التي حدثت خلال الأعوام الأخيرة، احتضن السعوديون حملة "أقصى ضغط" التي أطلقها "ترامب" ضد إيران، ووافقوا على حصار قطر، وتدخلوا في الحرب الأهلية في اليمن، لكنهم رزوا كل هذه المبادرات تنهار أمام أعينهم.

ومع تصور أن السعودية تأخذ من الصين قدوة لها على المستوى الدولي، إلى جانب المخاوف بشأن السياسات الداخلية لـ"بن سلمان"، تراجع الحماس الأولى لدى العديد من المراقبين الدوليين بشأن الملك المستقبلي. وبالتالي، فإن العودة أخيرا إلى سمات الحقبة السابقة مع التغيير المرحب به في الاستراتيجية السعودية، والسعي الأكثر حذرا نحو مصالحها، وإحياء الدبلوماسية السعودية، قد أصلحت الكثير من الضرر الذي أصاب سمعة المملكة في الأعوام القليلة الماضية.

وبمبادرته في "قمة العلا"، أنهى "بن سلمان" رسميا حصار قطر، وعرض على الحوثيين في اليمن اتفاق وقف إطلاق نار سخي، وسعى إلى تعزيز علاقات المملكة مع العراق، وأطلق شهر عسل في العلاقات مع عُمان، ويدرس إجراءات إعادة دمج سوريا، بل وانخرط في محادثات مباشرة مع خصمه الرئيسي إيران.

ومن خلال هذه المبادرات، يهدف ولي العهد إلى تقليل التوترات الإقليمية، وتقليل الأضرار التي تلحق بالمصالح السعودية، وتعزيز النفوذ السعودي حيثما أمكن، وكسب تأييد البيت الأبيض على طول الطريق.

وكالعادة، يطلق "بن سلمان" النار في كل الاتجاهات، لكن هذه المرة لا يستخدم الرصاص.، بل يستغل إمكانات أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط ومكانته كـ"خادم الحرمين الشريفين" من أجل إعادة المملكة إلى مكانتها الطبيعية في النظام الإقليمي وأيضا للتحضير لعملية نقل حساسة للتاج من والده إليه. وفي هذا السياق، يقوم "بن سلمان" بإجراء تغييرات مهمة في السياسة الخارجية السعودية فيما يتعلق بالمنافسين والشركاء.

 

إيران

في مقابلة أجريت في أبريل/نيسان 2021 مع قناة "العربية" الإخبارية، كان ولي العهد تصالحيا بشكل مفاجئ في تعليقاته حول النظام الإيراني، مؤكدا أن المملكة تسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع منافستها.

وقال "بن سلمان" إن السعودية وإيران يمكنهما تعزيز الازدهار الإقليمي معا. وتتناقض هذه الكلمات بشكل حاد مع التصريحات السابقة حول إيران، بما في ذلك مقارنة المرشد الأعلى الإيراني "علي خامنئي" بـ"هتلر"، والتلميح بإمكانية نقل التخريب إلى داخل إيران.

لكن بحلول عام 2019، فقد السعوديون الثقة في حملة "أقصى ضغط" الأمريكية. وكان رد فعل إدارة "ترامب" المتناقض على سلسلة من التحركات الإيرانية العدوانية، وخاصة هجوم الطائرات بدون طيار والصواريخ على منشآت النفط السعودية في بقيق، قد أقنع الرياض بأن التزام الولايات المتحدة بحماية الأمن السعودي لا يمكن الاعتماد عليه. ويبدو أن السعي إلى خفض التوترات الإقليمية كان الرد الطبيعي كما خلصت الإمارات بالفعل.

وهكذا، جاءت مقابلة ولي العهد في أبريل/نيسان ردا على تقارير تفيد بأن الرياض وطهران انخرطتا في محادثات برعاية عراقية، وهي أول اجتماعات يتم الإبلاغ عنها بين البلدين منذ قطع العلاقات الدبلوماسية في عام 2016.

ولا يزال السعوديون حذرين بشأن آفاق العلاقات مع إيران. وقد أشاروا إلى أن الإيرانيين يرغبون في استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لكنهم ما زالوا غير مستعدين للتعامل مع المخاوف السعودية.

كما يشير السعوديون إلى أن الإيرانيين يسعون إلى استبعاد الأطراف الإقليمية من المشاركة في المحادثات النووية مع إصرار طهران علي رفض الحديث بشأن القضايا الإقليمية. وكان السعوديون واضحين في أنهم يدعمون المحادثات النووية، شريطة أن تتم مناقشة قضايا أخرى مقلقة في مفاوضات لاحقة، بما في ذلك ترسانة إيران من الصواريخ أرض - أرض وصواريخ كروز والطائرات بدون طيار، وكذلك نشاط وكلائها في المنطقة.

وبغض النظر عن مصير هذه الجولة من المحادثات، هناك أعباء سلبية كبيرة على كلا الجانبين ولم تختف الأسباب الأساسية للعداء المتبادل بينهما، حتى لو كانت الظروف المتغيرة في المنطقة تدفع كلا الجانبين إلى إعادة تموضعهما والتخفيف من التوتر بينهما جزئيا.

ويظل مصدر العداء هو الخلافات الجيوسياسية كما ينطوي على جوانب أيديولوجية. ويتم التعبير عن المنافسة على النفوذ الإقليمي بشكل رئيسي في صراع في مختلف الساحات عن طريق الحلفاء والوكلاء.

 

اليمن

تتمثل الأولوية القصوى للمملكة منذ عام 2016 على الأقل في إنهاء الصراع في اليمن، الذي يتسبب في خسائر بشرية ومالية كبيرة ويشكل أيضا تهديدا مباشرا لأمن السعودية واستقرارها. وبالرغم أن السعوديين رفضوا التوصيف الغربي لتدخلهم في اليمن، إلا أنهم تكيفوا بسرعة مع قدوم "بايدن" بعرضهم وقف إطلاق النار.

لكن السعوديين يعتقدون أن الحوثيين أساءوا تفسير نوايا "بايدن" وشجعهم قراره إلغاء تصنيفهم كمنظمة إرهابية أجنبية. وهكذا، استجاب الحوثيون للدفع الدبلوماسي الجديد بمزيد من العدوان داخل اليمن وكذلك عبر الحدود إلى السعودية.

وبالرغم من عرض وقف إطلاق النار السعودي، الذي تزامن مع جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة، رفض الحوثيون الانخراط. ويعتقد السعوديون أن رغبة الحوثيين في التفاوض على إنهاء الصراع الأهلي مرتبطة بمصير محادثات "5+1" في فيينا، لذلك لا يرون أي خيار سوى مواصلة دعم القوات اليمنية.

وحاليا، يعد نحو 90% من العمليات السعودية عبارة عن دعم جوي للجيش اليمني في مأرب، خوفا من أن يؤدي سقوط مأرب إلى فتح الباب أمام نجاحات الحوثيين في شبوة وإلى الشرق في حضرموت، الأمر الذي يجعل التوصل إلى إنهاء تفاوضي للصراع أمرا أكثر صعوبة، إن لم يكن مستحيلا. وتبقى إعادة توازن القوى على الأرض مقدمة ضرورية في نظر السعودية للعودة إلى طاولة المفاوضات.

 

إسرائيل وفلسطين واتفاقيات التطبيع

وفي المجالين الاجتماعي والسياسي، تغيرت المواقف تجاه إسرائيل وفلسطين بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة. ويعبر السعوديون، وخاصة جيل الشباب، في كثير من الأحيان عن انفتاح أكبر تجاه إسرائيل وقبولا لوجود إسرائيل في المنطقة. وتجلى هذا التغيير في الاهتمام الكبير الذي أبدته السعودية في مباراة الجودو الأولمبية التي جرت بين لاعبة سعودية ومنافستها الإسرائيلية، على عكس لاعب جزائري انسحب من المباراة بدلا من دخول الحلبة مع الإسرائيلي.

وفي حين أن الدعم الشعبي والتعاطف مع الشعب الفلسطيني لا يزال مرتفعا بين السعوديين، فهناك إحباط من إخفاقات السلطة الفلسطينية في تقديم قيادة رشيدة. ويشكو المسؤولون السعوديون على وجه الخصوص من الفساد المستشري داخل السلطة الفلسطينية ومن ضعف "محمود عباس".

وبالرغم من هذا التحول في المشاعر الشعبية، إلا أنه من غير المرجح حاليا أن يتبع السعوديون القيادة الإماراتية والبحرينية في تطبيع علاقاتهما الرسمية مع إسرائيل. وبالنسبة للسعوديين، تظل قيادة العالم الإسلامي أمرا مهما يأتي على رأس أولوياتهم في السياسة الخارجية.

ويظل الموقف السعودي الرسمي هو مبادرة السلام العربية التي اقترحها الملك الراحل "عبد الله" عام 2002، والتي تدعم العلاقات الدبلوماسية الكاملة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.

ومع ذلك، تستمر الاتصالات الهادئة بين السعودية وإسرائيل، لا سيما في مجال الدفاع والأمن، وهناك احتمالية لإجراء تحسينات إضافية في العلاقات وراء الكواليس.

 

سوريا

وبالمثل، يعيد السعوديون التفكير في سياستهم تجاه نظام "الأسد" في سوريا. وقد ترددت المملكة حتى الآن في تطبيع علاقاتها مع نظام "الأسد" بالرغم من التحسن المشروط في الموقف وقبول الحل السياسي في البلاد بناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.

ومن شأن تجديد العلاقات مع نظام "الأسد" أن يساعد الدول العربية في اكتساب نفوذ على النظام السوري وتوجيه سياسته، وبالتالي موازنة قوة إيران في سوريا وتقليل نفوذها إلى حد ما هناك على الأقل.

علاوة على ذلك، يعمل "الأسد" بقوة لإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية وتعزيز مكانتها في العالم العربي، وبالتالي فهو بحاجة إلى شرعية عربية لحكمه. وقد يكون السعوديون أكثر استعدادا لدعم "الأسد" في تحقيق هذا الهدف المحدود.

العلاقات مع الشركاء في مجلس التعاون الخليجي

بدأ حصار قطر بعد فترة وجيزة من زيارة "ترامب" إلى السعودية في مايو/أيار 2017، حيث أعرب عن تعاطفه مع الادعاءات التي أثارها قادة السعودية والإمارات والبحرين ومصر ضد قطر.

وردا على إجراءات الحصار، عززت قطر علاقاتها مع تركيا رغم أن إغلاق القاعدة التركية كان أحد المطالب الـ13 المقدمة إلى قطر كشرط لإنهاد الحصار. 

لكن أجندة "بايدن" التي رأت أن استمرار حصار قطر ينطوي على عيوب أكثر من مزايا، دفع السعودية نحو المصالحة وإنهاء الحصار في يناير/كانون الثاني 2021، رغم عدم خضوع الدوحة لمطالب دول الحصار.

وفي مقابل مصالحتها مع قطر، يبدو أن السعودية شرعت في منافسة، اقتصادية في المقام الأول، مع الإمارات. وفي هذا الصدد، تصاعدت الخلافات مؤخرا بين السعودية والإمارات، وهما دولتان تعتبران حليفتين تتعاونان في عدد من المسارح على مدى العقد الماضي.

وتوترت العلاقات بين الرياض وأبوظبيد بسبب خلاف داخل "أوبك+" بشأن الزيادات المخطط لها في إنتاج النفط. لكن السعوديين يستخدمون قوتهم الاقتصادية أيضا لتحدي المصالح الاقتصادية للإمارات. وتهدف مطالبة الشركات الدولية التي تمارس أنشطة تجارية في السعودية بتأسيس مقارها الإقليمية في المملكة إلى تجاوز هيمنة دبي كعاصمة مالية للمنطقة.

وسيعكس تطوير مشروع "نيوم" العملاق في شمال غرب المملكة، الذي يطلق عليه اسم "دبي على البحر الأحمر"، مزيج دبي من البنية التحتية التجارية والقانونية المتطورة إلى جانب معايير اجتماعية أكثر مرونة لتعزيز القدرة التنافسية السعودية في الساحة الاستراتيجية للبحر الأحمر.

وحاولت الرياض وأبوظبي تجنب الخلافات لكن من الطبيعي أن يكون للحلفاء مصالح وقيود مختلفة. ومع ذلك، فإن تعدد الخلافات الحالية يشير إلى جهود من قبل البلدين لإعادة تشكيل العلاقات بينهما.

وفي العديد من المجالات، اعتبرت الإمارات نفسها على أنها مساوية، بل متفوقة، على جارتها الأكبر، وهو موقف تجده السعودية مزعجا للغاية. ومن المهم للمملكة أن تعيد ترسيخ ما تعتبره مكانتها المتفوقة على الإمارات التي استطاعت الارتقاء بمكانتها الإقليمية والدولية في الأعوام الأخيرة.

 

منافسة القوى العظمى

بالرغم من إحباطهم مما يرون أنه توجه سياسي متضارب لواشنطن، إلا أن السعوديين ما زالوا ينظرون إلى شراكتهم الاستراتيجية مع الولايات المتحدة باعتبارها حجر الزاوية في سياستهم الخارجية.

لكن يبدو أن السعوديين لا يريدون الانجرار إلى رؤية واشنطن لمنافسة القوى العظمى (روسيا والصين). وقد أصبح الصينيون الآن الشريك التجاري الأول للمملكة، بينما يعد الروس شريكا رئيسيا في "أوبك+"، وقد أظهرت المملكة عزمها على الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع شركائها الدوليين الثلاثة الرئيسيين.

وفي هذا الصدد، تمكن السعوديون حتى الآن من اتباع سياسة خارجية تتسم بالتوازن الدقيق، والتحوط وإدارة المخاطر، على غرار سياسة بكين التي تعتمد على "التعامل مع الجميع".

ويرغب السعوديون في تنويع مصادر دعمهم من أجل تجنب حالة الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت الحفاظ على علاقاتهم الاستراتيجية مع الولايات المتحدة من خلال تطوير العلاقات مع القوى المتنافسة.

وبينما تعزز الولايات المتحدة الانطباع بأنها تعتزم الحد من مشاركتها في المنطقة، يجب أن تأخذ في الاعتبار أن خصومها، بما في ذلك الصين، سوف يستغلون ذلك من أجل تكثيف مشاركتهم على حسابها.

ومع ذلك، فإن مدى تعاون دول الخليج وفي مقدمتها السعودية مع الصين يعتمد على مستوى الضغط الأمريكي، وكلما زادت قوة هذا الضغط، كان من الصعب على دول الخليج تجاهل مصالح واشنطن من أجل تطوير العلاقات مع الصين.

 

الخلاصة

في هذه الحقبة الجديدة، من الواضح أن القيادة السعودية ملتزمة باتباع أجندة السياسة الخارجية التي تخدم مصالحها المحلية. ومثل بقية العالم، يركز السعوديون اليوم على القضايا المتعلقة بالتعافي من جائحة "كوفيد-19"، خاصة أن المملكة تواجه مستقبلا لا يكفي فيه الاقتصاد المعتمد على تصدير الوقود الأحفوري لتلبية احتياجات السعوديين.

وليس من المتوقع أن تؤتي جميع الإجراءات الإقليمية التي يطرحها "محمد بن سلمان" ثمارها، وينطبق هذا بشكل خاص على الحوار مع إيران. ومع ذلك، فهي ضرورية للتعامل مع السيناريو الذي يتوقعه، وهو أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن تهديدات المنطقة بعد عودتها المحتملة إلى الاتفاق النووي.

ومن المرجح أن تشجع الولايات المتحدة عودة الرياض إلى السياسة الخارجية القائمة على الدبلوماسية والوساطة والمساعدات الخارجية الذكية، لا سيما على خلفية رغبتها في تقليص وجودها العسكري والدبلوماسي إلى حد ما في الشرق الأوسط.

وتبقى السعودية لاعبا إقليميا مركزيا لا يمكن تجاهله، ويعتبر وزنها الاقتصادي والديني والسياسي رصيدا لأي إدارة أمريكية تسعى إلى تعزيز منطقة أكثر استقرارا وأمانا في المستقبل.

 

المصدر | جيرالد فيرشتاين ويوئل جوزانسكي - معهد الشرق الأوسط - ترجمة وتحرير الخليج الجديد