محاكمات الناشطات.. دولة أمنية جديدة في السعودية
ترجمة وتحرير أسامة محمد - الخليج الجديد
توضح حالة الناشطات المحتجزات في المملكة العربية السعودية ديناميات القوة المتغيرة في المملكة، مع وضع الملك "سلمان بن عبدالعزيز" معظم القوة في يد نجله وولي العهد "محمد بن سلمان"، مما يعقد من البيئة السياسية المحفوفة بالمخاطر بالفعل للمثقفين والناشطين.
ولمدة عام تقريبًا، اعتُقلت معظم الناشطات المعروفات في المملكة العربية السعودية دون تهمة، ولمدة من الزمن، دون أن تعرف أسرهن مواقعهن أو ظروفهن.
ومثلت ثلاث منهن أمام محكمة جنائية بالرياض، ورغم أن الرياض أفرجت عن بعض الناشطات بانتظار انتهاء المحاكمات، لا يزال هناك الكثير من التناقض والغموض فيما يتعلق بمصيرهن.
وبينما تتجه المحاكمات نحو إصدار أحكام محتملة، يستشهد الصحفيون بأدلة متعددة على الاضطهاد السياسي والشخصي.
ويعد استهداف هؤلاء الناشطات كسرا للمفاهيم التقليدية في السعودية، كما تكذب طبيعة الاعتقالات وإساءة المعاملة أثناء الاحتجاز أي دعاوى حول سيادة القانون.
كما أن غموض النظام القضائي السعودي، والذي يخضع دائمًا للاختلافات في الأحكام القضائية وفقا لتقدير القضاة، يجعل الأمر أكثر التباسا خاصة في ظل الأجندات المتداخلة والمتنافسة في بعض الأحيان للأجهزة الأمنية الجديدة والديوان الملكي. ومن ثم، فإن قضية الناشطات تعد مثالاً حيا على ديناميات القوة المتغيرة في المملكة.
الاعتقالات
وقعت الاعتقالات الأولية لناشطين وناشطات حقوق المرأة في 15 مايو/أيار 2018، أي قبل شهر من نهاية الحظر المفروض على قيادة المرأة.
وكان المعتقلون ينتمون إلى جميع أنحاء المملكة، سواء من الرجال أو النساء بمن فيهن الشباب مثل "لجين الهذلول" و"إيمان النفجان" بالإضافة إلى قادة الجيل السابق من دعاة حقوق المرأة.
وأعقب عملية الاعتقال صدور بيان من رئاسة أمن الدولة، وهي مؤسسة جديدة تخضع للسلطة الفعلية للملك وولي عهده تم إنشاؤها بعد الإطاحة بولي العهد ووزير الداخلية السابق "محمد بن نايف" في عام 2017.
اتهم البيان الصادر عن رئاسة أمن الدولة الناشطات بالعمل من أجل "الإطاحة بالمؤسسات الدينية والوطنية للدولة"، والقيام "بالتواصل المشبوه مع الوكالات الأجنبية" و "تجنيد الأفراد داخل أجهزة الدولة الحساسة"، و"تقديم الدعم المالي لعناصر معادية في الخارج" بهدف تقويض الأمن والاستقرار الاجتماعي للمملكة.
وتزامنت الاعتقالات مع حملة عامة غير مسبوقة لتشويه سمعة الناشطين. وفي انتهاك تام للمعايير القانونية والاجتماعية السعودية، ظهرت أسماء وصور "الهذلول" و"النفجان" و"عزيزة اليوسف" إلى جانب مناصريهم من الناشطين الذكور مثل "محمد الربيع" والمحامي "إبراهيم المديميغ" في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة وتم اتهامهم بالخيانة في العناوين الصحفية. وترافق ذلك مع تحليلات صنفتهم كرأس حرية لـ "حرب ناعمة" ضد المملكة، تهدف لإلحاق الضرر بسمعة البلاد على المستوى الدولي.
في الأسابيع التي تلت ذلك، تم إطلاق سراح بعض المعتقلين، بينما حدثت اعتقالات جديدة. تم القبض على "نوف عبدالعزيز" بعد إعلانها علنًا دعمها للناشطين المحتجزين، واحتُجزت صديقتها "مايا الزهراني" أيضًا بعد نشر خطاب نيابة عنها يوضح خطورة التعبير عن التضامن مع المعتقلين.
في الأشهر التي تلت ذلك، تم احتجاز ناشطات بارزات مثل الأكاديمية البارز "هتون الفاسي"، وناشطة حقوق الإنسان "سمر بدوي"، والناشطة المعروفة في المنطقة الشرقية "نسيمة السادة".
وتتحدث الاتهامات المفرطة والحملة الإعلامية العامة التي تستهدف الناشطات عن تحولات مهمة في المملكة، وتنعكس هذه التغييرات على توسع الحركة النسائية داخل المملكة العربية السعودية.
وبعد إلقاء القبض على النساء اللائي قمن بأول مظاهرة احتجاج في المنطقة الشرقية خلال حرب الخليج في عام 1990، استمر نشاط المرأة بحذر أكبر.
وسعى الإصلاحيون الليبراليون إلى زيادة الوعي وبناء الدعم لمزيد من الحقوق من خلال الشبكات المهنية ودوائر القراءة.
في أواخر العقد الأول من القرن العشرين، بدأ الأكاديميون والناشطون حملة ناجحة من أجل إشراك المرأة في انتخابات المجالس البلدية تم تدشينها في عام 2005.
وفي العقد الماضي، انضم جيل جديد من السعوديات إلى وسائل التواصل الاجتماعي عبر نشر مقاطع فيديو لأنفسهن وراء مقود السيارة في تحد للحظر المفروض على قيادة المرأة، مع إطلاق حملات لحشد الدعم لإلغاء نظام الوصاية بأكمله، وهو النظام الذي يطلب من المرأة السعودية الحصول على إذن ولي الأمر من الذكور لاتخاذ القرارات الأساسية مثل الزواج والتعليم والعمل والسفر.
تم التعامل مع صعود هؤلاء الناشطين والناشطات كتهديد للأمن القومي وفق التصور المعدل للأمن السعودي في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011، حيث أقنع مشهد الزعماء العرب الذين أطيح بهم من خلال التعبئة الجماهيرية القيادة السعودية بالتعامل مع الإصلاح الاجتماعي كتهديد إذا كان مدفوعاً من أسفل إلى أعلى.
واليوم، يمكن أن يؤدي النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي لتعريض صاحبه للمحاكمة في قضايا الإرهاب وفقا لقانونن مكافحة الإرهاب لعام 2017.
وتعكس هذه التعبئة الإعلامية والأمنية الجهود الأوسع نطاقًا للحكومة السعودية للقضاء على النقاد وتجييش الشباب بشكل استباقي خلف إجراءات الدولة التي يشرف عليها "محمد بن سلمان".
وتتم إدارة هذه الحملات من داخل الديوان الملكي وفي قلب هذه المهمة يقع مركز الدراسات والشؤون الإعلامية الذي كان - وربما لا يزال - خاضعا لإِشراف مستشار ولي العهد السعودي "سعود القحطاني".
ويستخدم المركز أدوات واسعة لمراقبة الرأي العام وفرض الالتزام الصارم بروايات الدولة في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية عبر تهديد المخالفين بالاعتقال.
وكان "القحطاني" هو قائد جهود القيادة الجديدة للسيطرة على المشهد الإعلامي الجديد الذي سبق أن استغله الجيل الأصغر من دعاة حقوق المرأة لترويج قضيتهم.
الاحتجاز
منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر، لم يكن للعديد من العائلات أي اتصال بأبنائها المعتقلين، ولا على علم بمكان احتجازهم.
وذُكر فيما بعد أن المحتجزين في الواقع قد نُقلوا إلى مراكز احتجاز غير قانونية تخضع مباشرة لسيطرة الديوان الملكي.
بينما ذكرت وسائل الإعلام الغربية ومنظمات حقوق الإنسان أن بعض النساء تعرضن للتعذيب من خلال الضرب والتحرش النفسي والجنسي في هذه المنشآت؛ وذكر البعض اسم "القحطاني" مباشرة كأحد هؤلاء المسؤولين عن هذا التعذيب.
وبمجرد عودتهم إلى السجون التقليدية، تمكن المحتجزون والمحتجزات من رؤية عائلاتهم وأبلغوهم بهذه الحوادث.
ودفع مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" في القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018 نحو مزيد من التدقيق في الحملة السعودية على المعارضة وزاد الانتباه إلى قضية الناشطات.
وأبلغت منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام الدولية أنباء عن انتهاكات مزعومة في السجون في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه.
وفي ديسمبر/ كانون الأول، تم إرسال مبعوث من مكتب النائب العام العام ووفد منفصل من اللجنة السعودية لحقوق الإنسان التابعة للديوان الملكي لمقابلة النعتقلات بشأن هذه المزاعم.
وفي مارس/ آذار، ذكرت صحيفة "الجارديان" أنها حصلت على نسخ من التقارير الطبية التي تتضمن تفاصيل عن الإيذاء البدني الشديد للسجناء، وكثير منهم من النساء، إلى جانب توصيات بالإفراج المبكر عن أولئك الذين يعانون من مشاكل صحية.
وقيل إن هذه التقارير كانت جزءًا من مراجعة داخلية بتكليف من الملك "سلمان" وجاءت في إطار إجراءات أخرى بدأها الملك في أعقاب مقتل "خاشقجي" لإعادة هيكلة أجهزة المخابرات السعودية والمؤسسات التابعة للديوان الملكي.
المحاكمة
في 1 مارس / آذار، أنهى الادعاء السعودي تحقيقه وأحال قضايا بعض النساء إلى المحكمة.
ومع ذلك اتسمت بداية الملاحقة القضائية الرسمية بمزيد من المخالفات القضائية، مما يجعل من الصعب تمييز النية النهائية للحكومة وبينما قُدمت 10 نساء على الأقل للمحاكمة، لم تحضر بعض المعتقلات، بمن فيهم "سمر بدوي" و"نسيمة السادة".
ومن بين اللاتي مثلن أمام المحكمة كن نساء اعتقلن على مدار فترات زمنية مختلفة ومن توجهات سياسية مختلفة. وشملت القائمة الطالبة الجامعية "شدن العنزي"، والباحثة البارزة "عبير نمانكاني".
ومن المثير للاهتمام أن الداعية الإسلامية "رقية المحارب"، التي لا تدعم بأي شكل من الأشكال حملة حقوق المرأة، تحاكم بتهم مماثلة إلى جانب الإصلاحيين الليبراليين.
الأهم من ذلك أن كل من مكان المحاكمة والتهم التي تم توجيهها مثلت تراجعا عن الاتهامات الأولية ضد النساء. وفي إجراء غير معتاد، تم نقل الاختصاص في اللحظة الأخيرة من المحكمة المتخصصة المرتبطة بقضايا الإرهاب إلى محكمة الرياض الجنائية.
ولم ترق التهم التي تم توجيهها إلى مستوى مزاعم التجسس والخيانة الواردة في البيان الأول من أمن الدولة والتي كررها "محمد بن سلمان" في مقابلة مع "بلومبرغ".
وركزت التهم على انتهاكات قانون الأمن السيبراني وكذلك الاتصالات مع منظمات حقوق الإنسان والدبلوماسيين الأجانب والصحفيين، وهي تهم تخلو من المنطق القانوني السعودي القائم على الشريعة الإسلامية.
ومُنع الصحفيون والمراقبون الدبلوماسيون من حضور جلسات الاستماع. وعند الجلسة الثالثة، انقسمت المجموعة الأولية حيث حصلت "النفجان" و"اليوسف" و"محارب" على إفراج مؤقت وقالوا إن محاكماتهن ستستأنف بعد رمضان.
ولاحقا تم الإفراج عن خمس ناشطات على رأسهن "هتون الفاسي" و"عبير نمنكاني" و"شدن العنزي" في انتظار المحاكمة، فيما بقيت ناشطات آخرات في السجن وفي مقدمتهن "لجين الهذلول".
وفي حين أن التحول في مكان المحاكمة والتهم الموجهة يشير إلى احتمال تخفيف الحكم أو حتى إصدار عفو كامل عن الناشطات، فإن الإجراءات الأخرى كانت أقل تشجيعًا.
وفي جلسات الاستماع، طُلب من النساء الإدلاء بشهاداتهن بشأن المعاملة في السجن.. ومع ذلك، كما ذكرت عائلة "لجين الهذلول"، واصل المدعي العام إنكار حوادث التعذيب على الرغم من الشهادات والمقابلات السابقة التي جرت في السجن.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن أولئك الذين يبحثون عن دلائل على أن الحملة السياسية ضد المعارضين تتراجع في أعقاب قضية "خاشقجي" قد أصيبوا بخيبة أمل لأن قوات الأمن السعودية بدأت جولة أخرى من اعتقالات المثقفين في أوائل أبريل/نيسان، والعديد منهم على مقربة من ناشطي حقوق المرأة، بما في ذلك نجل "عزيزة اليوسف"، "صلاح الحيدر".
كما تم توقيف أكاديمي يدعى "أنس المزروع" بعد سؤاله علنًا عن مكان وجود الناشطات المعتقلات خلال ورشة عمل في معرض الرياض للكتاب.
وعلى الرغم من دوره الرئيسي في حملة القمع ضد النقاد والتورط المزعوم في إساءة معاملة النساء المعتقلات إلا أن "سعود القحطاني" لم يتم احتجازه، ويقال إنه لا يزال يعمل كمستشار غير رسمي لولي العهد ويعد مؤشرا ملموسا على عدم وجود إرادة سياسية لتغيير المسار.
دولة أمنية في مرحلة انتقالية
تؤكد حالة الناشطات السعوديات على التغيرات الدرامية الجارية في المملكة العربية السعودية. وأدى تركيز السلطة في يد ولي العهد السعودي وأتباعه إلى القضاء على المساحة المحدودة التي كانت موجودة من قبل للناشطين الاجتماعيين الليبراليين.
وتم استبدال خطوط الاتصال التي كانت موجودة يوما بين أجهزة الدولة والناشطين الاجتماعيين بحالة عامة من التعبئة الوطنية للجمهور وراء القيادة.
علاوة على ذلك، هيمن الفطر العقابي على سلوك المؤسسات الجديدة في الديوان الملكي، حتى بمعزل عن القضاء. وفي حين أن هناك دلائل على مراجعة بعض هذه الإجراءات وإعادة هيكلة وسائل الإعلام وأجهزة الاستخبارات داخل البلاط الملكي، إلا أن التغيير لم يلمس بعد في المحاكمات الجارية، حيث إن المزاعم الموثوقة بالتعذيب وسوء المعاملة لم يتم الاعتراف بها حتى الآن.
ولا يزال أفراد عائلات الناشطين المحتجزين ممنوعين من السفر بناءً على أوامر من الديوان الملكي.
وهناك سؤال أوسع حول التأثير طويل المدى لهذا التوسع في المعاملة الأمنية في ملف النساء.
ومن المؤكد أن هناك مزاعم موثوقة بالتعذيب في المملكة العربية السعودية، خاصة فيما يتعلق بقضايا الإرهاب. لكن السجن والتشهير العلني وإساءة معاملة النساء - خاصة النساء المعروفات والمحترمات على حد سواء في البلاد وخارجها - من المؤكد أنه سيكون له تداعيات في المجتمع السعودي المحافظ، حيث يرتبط شرف المرأة بشرف الأسرة والقبيلة.
وقوبلت مزاعم التعذيب، المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإنكار من قبل العديد من السعوديين؛ ولكن من الصعب تقييم كيف سيكون صدى الأمر مع مرور الوقت بالنظر إلى المناخ الحالي. ومع توسيع نطاق تعريف التهديدات الأمنية ليشمل الناشطين الليبراليين والإصلاحيين الاجتماعيين، يتم تقويض الأعراف الاجتماعية القديمة وتجاوز المحرمات، أو كما عبر الكثير من السعوديين في أعقاب مقتل "خاشقجي" في قنصلية إسطنبول: "هذه ليست السعودية التي تعرفها".
المصدر | معهد دراسات دول الخليج العربية