«بوليسي دايجيست»: سياسة «الجزرة» السعودية بالعراق.. هل تنجح بمواجهة إيران؟
ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد
يبدو أن تكثيف الجهود السعودية لإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية وثيقة مع العراق ذات الأغلبية الشيعية، في محاولة منها لمواجهة النفوذ الإيراني القوي في البلاد، يؤتي ثماره.
وتظهر المبادرة السعودية قدرة المملكة على الانخراط بدلا من اتباع سياسة عضلية وحازمة وتصادمية تجاه الجمهورية الإسلامية وحلفائها. ويثير الأمر التساؤل عما إذا كان هذا حدثا فرديا، أم يمكن أن يصبح نموذجا للسياسة السعودية في أماكن أخرى في المنطقة.
ويعد نهج المملكة الأخير، الأكثر تطورا في العراق، شهادة على حقيقة أن دعمها بمليارات الدولارات، والذي استمر لعقود من الزمن، والذي كان ينطوي في بعض الأحيان على تمويل المسلحين العنيفين قد فشل في العراق. ويشكل ذلك اعترافا بأن غياب السعودية قد أعطى إيران فعليا مساحة كبيرة للتحرك بحرية في البلاد.
سياسات جديدة
ويشير أسلوب ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» إلى جهد أكثر تنسيقا ونجاحا من محاولات الملك السعودي السابق «عبدالله». وعلى الرغم من مبادرة الملك «عبدالله»، كانت السياسة التي تحكم السعودية تجاه العراق لأكثر من عقد من الزمن في عهد ما بعد «صدام حسين» هي سياسة تقوم على عدم المشاركة، والانحياز السياسي للأقلية السنية في البلاد بدوافع طائفية.
واستغرق الأمر 11 عاما لفتح أول سفارة لها في العراق بعد «صدام»، وهو أول وجود دبلوماسي للمملكة في البلاد منذ أن قطعت العلاقات الدبلوماسية مع البلاد عام 1990، بسبب غزو صدام للكويت. وحتى بعد ذلك، كانت العلاقات في البداية صاخبة، حيث طالبت العراق باستبدال السفير الأول للمملكة، «ثامر السبهان»، بعد أن انتقد علنا تورط إيران في الشؤون العراقية، والاضطهاد المزعوم للمسلمين السنة العراقيين.
ومع ظهور رئيس الوزراء العراقي «حيدر العبادي» عام 2014، الذي خلف «نور المالكي»، ورآه السعوديون على أنه رهان إيراني، إلى جانب صعود «بن سلمان»، نتج تحول ملحوظ قد تصبح معه المملكة لاعبا مؤثرا في إعادة إعمار العراق التي مزقتها الحرب.
وبعد افتتاح السفارة، من المقرر أن تفتح المملكة قنصلية في البصرة وكذلك في النجف، التي ينظر إليها على نطاق واسع كثالث مدينة مقدسة للشيعة، تنافس «قم» الإيرانية كمركز للتعليم الشيعي. وتشير تقارير غير مؤكدة إلى أن «بن سلمان» قد يزور النجف بعد الانتخابات العراقية المقرر إجراؤها في 12 مايو/أيار المقبل.
وأعادت الدولتان فتح معبر «عرعر» الحدودي، الذي أغلق لمدة 27 عاما، وتمت استعادة الحركة الجوية التجارية للمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن. وشاركت أكثر من 60 شركة سعودية في وقت سابق من هذا العام في معرض بغداد الدولي.
ويهدف مجلس التنسيق السعودي العراقي الذي تم تدشينه العام الماضي إلى تعزيز العلاقات الأمنية، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية والثقافية التي ترمي إلى التبادل الطلابي والثقافي، والاستثمار السعودي في النفط والغاز والتجارة والنقل والتعليم والصناعة الخفيفة والزراعة. وتعهدت المملكة بتقديم 1.5 مليار دولار لإعادة إعمار العراق في مؤتمر للمانحين في الكويت في فبراير/شباط.
واحتلت المملكة عددا كبيرا من عناوين الأخبار في فبراير/شباط، من خلال لعب أول مباراة لكرة القدم في العراق منذ ما يقرب من 3 عقود، مما عزز الجهود العراقية لإقناع الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) برفع الحظر عن استضافة العراق للمباريات الدولية. ووعدت المملكة لاحقا ببناء ملعب لكرة القدم يتسع لـ 100 ألف مقعد في بغداد.
وبالنسبة لتغير الرياح في العراق، يبدو أن «بن سلمان» قد دمر عقود من الجهود السعودية لمواجهة إيران بشكل أساسي عبر حروب خفية وسرية. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى قد يعني تحول سياسة الأمير محمد في العراق إشارة إلى تحرك أوسع نطاقا بعيدا عن الطائفية ودعم المتطرفين والتوجه نحو المشاركة.
تغيير انتقائي
ولا يرى الناشطون الشيعة السعوديون سوى القليل من التغيير الإيجابي، ويؤكدون أن القمع في معقلهم في المنطقة الشرقية بالمملكة ازداد منذ صعود ولي العهد.
وقال أحد الناشطين إن «بن سلمان» مستمر في إخبار الغرب بأنه سيصلح الإسلام، لكنه يواصل غزوه على منازل الشيعة وتجريدهم من أي حقوق سياسية.
ومع ذلك، فإن خطة في بنغلاديش تمولها المملكة لبناء مساجد معتدلة لمواجهة التشدد، وتنازل المملكة عن السيطرة على المسجد الكبير في بروكسل، وتبني الحوار بين الأديان من قبل رابطة العالم الإسلامي التي تسيطر عليها الحكومة، تشير إلى أن الأموال السعودية قد يتم استثمارها في محاولة الحد من تأثير دعم المملكة المستمر منذ عقود للتشدد.
ومع ذلك، هناك أيضا مؤشرات على أن «بن سلمان» لا يمانع في تمويل المسلحين عندما يناسب ذلك هدفه الجيوسياسي. وتدفقت الأموال السعودية منذ صعوده عام 2015 إلى المدارس الدينية المقاتلة في إقليم بلوشستان الباكستاني، في وقت كانت فيه المملكة بصدد صياغة خطط لزعزعة استقرار إيران من خلال استغلال المظالم وإثارة الاضطرابات بين الأقليات العرقية في إيران، بما في ذلك البلوش. ولم تترك هذه الخطط مخيلة الأمير، وقد لا تفعل ذلك أبدا، ويحتل المتشددون المحافظون جدا مكانا بارزا فيها.
ومع ذلك، فإن حجم التحول في السياسة السعودية تجاه العراق، وكذلك الخطوات الأخرى التي اتخذها «بن سلمان» لكبح وإعادة توجيه وخفض، إن لم يكن إيقاف، الدعم السعودي للمتشددين، تعكس استنتاجات دراسة عام 2002 حول تمويل المملكة للعنف السياسي، أجراها مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك.
وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، عندما تم وضع التمويل السعودي والتعاون مع الولايات المتحدة تحت المجهر، اقترحت الدراسة أن دعم المملكة العالمي للمحافظة على التيار المتطرف كان منسجما مع نسيجها الاجتماعي.
ومن نواح عديدة، كان الدعم السعودي للتمرد العراقي مثالا لحملة السعودية التي بلغت 100 مليار دولار لمواجهة إيران على مستوى العالم، من خلال تعزيز النزعة المحافظة والطائفية، وتمويل العنف داخل الأقليات في بلدان مثل أفغانستان وباكستان والبوسنة والهرسك والعراق وسوريا.
وقال «نواف عبيد»، وهو باحث سعودي ذو صلة وثيقة بالحكومة، إن الخيارات السعودية في ذروة التمرد المسلح السني تضمنت تزويد المتمردين بنفس النوع من التمويل والأسلحة والدعم اللوجيستي الذي تقدمه إيران للجماعات المسلحة الشيعية. وكان هناك خيار آخر كما قال، وهو إنشاء كتائب سنية جديدة لمكافحة الميليشيات المدعومة من إيران.
وكان المسؤولون الأمريكيون والعراقيون يشتبهون في أن المملكة تدعم سرا الجماعات المذهبية السنية المتمردة المعارضة للوجود العسكري الأمريكي في البلاد، وصعود حكومة يسيطر عليها الشيعة. وفي حين لم يكن هناك أي دليل على المساعدة الحكومية، كانت الخطوط الفاصلة بين مبادرات المواطنين والسلطات نفسها غير واضحة في المملكة.
وخلص تقرير لمجموعة دراسة في العراق عام 2006، في ذروة التمرد المسلم السني، إلى أن «تمويل التمرد السني يأتي من أفراد عاديين داخل المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى».
وبدون تحديدهم، أكد المسؤولون العراقيون أن الأموال تتدفق أيضا من الجمعيات الخيرية السعودية التي تعمل في الغالب كمنظمات أهلية غير حكومية. وقالوا إن بعض الأموال تم توجيهها من خلال رجال دين سعوديين.
وقال مسؤول إن 25 مليون دولارا أرسلها عالم دين سعودي إلى رجل دين سني عراقي استخدمت لشراء صواريخ «ستريلا» الروسية المضادة للطائرات التي تطلق من على الكتف من السوق السوداء في رومانيا.
وزعم الموالون لحزب البعث آنذاك أن طائرة من طراز إف 16 تابعة للقوات الجوية الأمريكية تحطمت أثناء تحليقها لدعم الجنود الأمريكيين الذين يقاتلون المسلحين في محافظة الأنبار، قد أسقطتها صواريخ «ستريلا». ونفى الجيش الأمريكي هذا الادعاء.
وكان رجل الدين العراقي المتورط في شراء الصواريخ يشتبه في أنه الشيخ «حارث سليمان الضاري»، وهو زعيم قبلي أطلق عليه لقب «القائد الروحي للمقاومة العراقية». وأصدرت السلطات العراقية مذكرة توقيف بحق «الضاري» في أواخر عام 2006، الذي توفي لاحقا.
والسؤال هنا هو ما إذا كانت المملكة ستستخلص العبرة من نجاحها في الطريقة التي تدير بها تنافسها الإقليمي مع إيران. وحتى الآن، هناك القليل من المؤشرات على أن العراق قد تكون أكثر من مجرد استثناء يؤكد القاعدة.
وقال المحلل السياسي «حسين إيبش» في دراسة نشرت حديثا عن العلاقات السعودية العراقية: «العراق هي ساحة المعركة الإقليمية الرئيسية الوحيدة في الوقت الحالي، والتي تعتمد فيها السعودية بشكل شبه كلي على الجزرة بدلا من العصا. ومع ذلك، يمكن القول إن الرياض قد أنجزت الكثير على مدار العام الماضي في العراق أكثر مما حققته في اليمن أو لبنان. وهذا درس مهم لبقية العالم، ولكن أيضا للمملكة نفسها، لإعادة التفكير».
المصدر | إنترناشيونال بوليسي دايجست