المثقّف السعودي والسائد ...علاقات مأزومة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2174
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

علي عاشور
 هل "الانفتاح الثقافي" في السعودية حقيقي؟ وأين هو المثقف السعودي من كل هذا؟
 أشرقت صورة "الانفتاح" السعودي على توفير بعض وسائل الترفيه العامة والخدمات الإلكترونية كعملية تغيير ثقافية يتناولها الإعلام ويصفق لها جمهور الميديا كتحوّل قائم على فارق الفكر ما بين القديم والجديد. كما تحولت لغة كتّاب الأعمدة الصحفية في
الصحف السعودية إلى لغة تستخف بممارسات "المطاوعة" التي كانت تحميها وتبطنّها بين الحين والآخر، كما تكن لها المديح في حال صادقت على قرارات السلطة وتبريرها.
من جهة أخرى، ينزاح العديد من كتّاب المقال السعودي إلى تمجيد حركة الانفتاح كأن حفلات الغناء والموسيقى والسينما وعدم إغلاق الأماكن التجارية والمطاعم بأوقات الصلاة إضافة لحزمة المعاملات الالكترونية كانت الغاية والمنى. كذلك، السماح
للمرأة بالقيادة وفتح مجالات العمل الميداني لها كللت بالأهازيج والتصفيق. غير أن ما غفل عنه هو ظاهرة العلاقات وأزمتها الضاربة في المشهد السعودي هي ما بين المثقف المختلف والثقافة السائدة، وما بين المثقف وذاته، وما بين الثقافة السائدة
والمفاهيم الثقافية.
لكن أولاً علينا توضيح أن ما نعنيه بالثقافة السائدة. إنها منهجية التفكير السائدة وليست الأيديولوجيات والمعتقدات الراسخة في الفكر الاجتماعي. أي عملية ما يعتنقه الجمهور العام ويتقبله المجتمع سريعاً، كمنظومة مبرمجة لتقبّل كل ما يصدر من السلطات
سواء كانت السلطات الدينية أو السياسية، ومنذ حين بدأت تتشكل قوة سيطرة جديدة يمكن تسميتها بالسلطة الثقافية.
ظاهرة العلاقات وأزماتها معقدة جداً، خصوصاً في بيئة تقيّد عملية البحث والمسح الحرّين. لكننا نستطيع تناول الأحداث من بابي الظاهر والمخفي. فالعلاقات الظاهرة يمكن مشاهدتها على المستوى الاجتماعي والثقافي من خلال الخوض في طبيعة
العلاقات من الناحية المادية على أرض الواقع، كما يمكننا ملامستها عن طريق ما يفصح عنه ممارسو هذه العلاقات علناً، سواء كان عن طريق الكتب، القنوات الإعلامية أو مواقع الإنترنت. ومن خلال هذه العلاقات الظاهرة تنكشف لنا سبل تتبع العلاقات
المخفيّة.
أزمة حرية التعبير هي المفتاح لجميع أزمات المثقف المختلف. فطبيعة العلاقات في الوسط الثقافي السعودي تعتمد على ثلاثة عوامل: العامل الأيديولوجي، عامل المصلحة العملية، وعامل الموقف العام. فالعامل الأيديولوجي يتبلور في العلاقات القائمة على
الانتماءات والتصنيفات. وهذا ينكشف بشكل فاضح في ميادين المنتديات والملتقيات الثقافية والجمعيات والأندية الأدبية. فكل مجموعة تنتمي إلى تيار أو توجّه ما تحابي نفسها ومعارفها المقرّبين. كما تحدد طبيعة نقاط التواصل، مما يدرج عامل المصلحة
العملية في عمليتي النتاج والتواصل. كذلك ينشط عامل المصلحة العملية في وسط العمل الإعلامي، فالزمالة العملية تسيطر – بالغالب- على تفاصيل الخلافات.
من هذه النقطة يقع المثقف الخارج عن بيئة التجمعات والتصنيفات في مأزق الممارسة الفردية. مما يحيلنا إلى مأزق الموقف العام. فبعض المثقفين السعوديين الخارجين عن هيكلة تنفيذ طلبات السلطة، البارزين على المستوى الأدبي أو الصحفي، ينؤن
بأنفسهم بعيداً ويتجاوزون أي تصريحات تؤثر على علاقاتهم وأسمائهم، خصوصاً مع القنوات الرسمية التي تشكّل الدعائم الرئيسية للمحافل والندوات والنشر الصحفي والعمل الإعلامي.
إذ لا يمكن إطلاق موقف عام قائم على التفرّد، مخالف وخارج عن السياق المسموح دون تكلفة في طبيعة العلاقات الثقافية، أو حتى تكلفة على المستوى المادي. فتكلفة التصادم مع السلطتان الاجتماعية السياسية لم تعودا العاملان المؤثران ،فقط اللذان
يعملان كمنظمتان ترهبان وتعيقان وتوقفان خروج المثقف عن السائد، بل أضيف إليهما سلطة ثقافية تعمل من داخل البيئة التي يتواصل معها الفرد الثقافي وتشكّل عامل ضغط كبير عليه.
إذ سيعزل هذا الفرد ويبعد من داخل البيئة التي يمارس فيها نشاطاته واهتماماته، وفي بعض الأحيان ينبذ. فهاهنا لم تعد سطوة السلطة السياسية هاجس التهديد بقدر ما أصبحت رغبة ممارسة العمل الثقافي هي الهاجس. وهذا بدوره يدل على دهاء السلطات
السعودية في تدوير عمليات السيطرة وقنواتها.
كل هذا يمكن مشاهدته بوضوح تام على مواقع التواصل الاجتماعي. فتويتر أصبح منبر الافصاح والتصريحات الأول لفئات المجتمع السعودي. كأن كلمة عبد الله القصيبي" العرب ظاهرة صوتية" تم تجاوزها ليظهر لنا تويتر ما هو أبعد من ذلك. فالصوت
وحيداً لم يعد ذو معنى من دون أن يكون ضمن سياق منهجية إما تابعة لما هو سلطوي – سواء كانت جانب سياسي، إجتماعي أو ثقافي، أو تابعة لما يجذب عدد المتابعين والجمهور. كمثال على ذلك، حتى الشعراء الذين من المفترض أن يشتغلوا على
نصّهم بعيداً من حلقة "ما يطلبه المستمعون" أصبحوا يتبّعون سياقات الجذب والتقبّل.
ومن هنا نلحظ وجود تقنية كتابة واحدة ومفردات ومضمون شعري وصفي واحد. هذا مثال فاضح بسيط لما وصلت له أزمة المثقف المتفرد الملامسة لأعمق ما يمكن الوصول إليه من سيطرة على قدرة التعبير وتوجيهها.
لكن النقطة الأكثر خطورة تتبين في التعامل مع المفاهيم والممارسات المنطلقة من خلالها. فالوطنية والليبرالية والنسوية بل وحتى مفاهيم الفرق الدينية التي تملك سياق تاريخي طويل، حُرفت عن مسارها بشكل لا يعقل. إذ أتبعت من خلال شرح وتدليل
السلطة الثقافية عليها مما أدرج الجمهور في عملية توثيقها وتثبيتها ليكون ما يقال من خلال قنوات الثقافة السلطوية هو ما يحكم صوابية عملية التعاطي مع المفهوم.
فتحوّل مفهوم الليبرالية من ممارسة تقوم على فلسفة قيميّة ترتبط بعاملي السوق الحر و المؤسسات المدنية – والتي تفتقدها السعودية كليّاً إذ الملكية والمؤسسة الدينية هما عاملا التشريع والتقرير الاقتصادي والسياسي – إلى دلالة على كل من يمارس مفهوم
"حرية الفرد"، فقط - ضمن إطار خارج عن تأطير الحريات القائمة على تقرير المجتمع.
كما تحوّلت النسوية إلى عملة من المطالبات بحقوق المرأة من دون استيعاب النسوية كحركة فلسفية اجتماعية تتضمن مشروع تكون عملية المطالبة بالحقوق جزءاَ من مشروع أكبر للوصول ليس فقط إلى مساواة الجنسين على المستوى الحقوقي بل إلى
مشاركة قرار والتعميد الحياتي.
هذه المنهجية في التعامل مع المفاهيم لم تخلق أزمة للمثقف في معارضتها والتصدي لما يقبع خلفها فقط، بل بنت جداراً يحجب السياق التاريخي لحركة المفاهيم عن الأجيال الجديدة، مما أبعد أصحاب الأصوات المختلفة الذين طبع بداخلهم عدم
جدوى المعارضة والكلام، حتى أخذ السياق بالحكم على كل متحدث خارج السياق الثقافي السلطوي بأنّه صاحب مشروع أيديولوجي وعظي جديد.
إذ يتم التعامل مع مصطلح "الأيديولوجيا" بكل سلبية من دون تحليل الإسقاط التي يستخدم به. هذا ولا ننسى عملية التخوين لكلّ ما هو مختلف عن الخطاب الرسمي وصنع أيديولوجيا تحت شعار "الغيرة الوطنيّة".
هذه العوامل صنعت مثقّفاً يعمل بعيداً من قواعده وأفكاره وتعبيره عن ذاته. فإما التراضي والدخول مع المشهد العام أو النأي الكامل عنه. وهذا هو غاية تجسيد سلطة ثقافية تشكّل المشهد والمفاهيم والموضوعات بما يصدر منها وتلغي أو تهاجم كل ما
يخالف منهجيتها السلطوية. فإلى أين يتوجه الشباب المثقف اليوم في صنع لغته وفكره ونشرها؟ وهل يعي المشاركون في المشهد أزمة هذه العلاقات؟ هل صياغة مفهوم "حريّة التعبير" شوّهت لتكون عبارة عن حركة ترفيهية تتجاوب مع الفنون والآداب
والأفكار من جانب وتلغي حركتها الجدلية من جانب آخر؟ ربما لا يجيب عن هذا المشهد سوى مقولة الشاعر أدونيس "بقدر ما تضيق رقعة القول، تضيق رقعة الوجود".