اليمن والسودان والإرادة الإقليمية
بشرى المقطري
يبدو أن المجلس العسكري الانتقالي يمضي في خطوات دقيقة إلى إحكام سلطته في المرحلتين الحالية والمقبلة.
تشكل السلطة الحالية في السودان استمرارا للنموذج الذي تراه السعودية والإمارات مثالياً لترتيب وضع الإقليم.
يظل مقتل الجنود السودانيين في اليمن، كما مقتل اليمنيين، عبثاً موجعاً لا يمكن السكوت عنه.
ربما من المبكر التكهن بمستقبل المجلس العسكري الانتقالي بالسودان واستمراره بالمراوغة والالتفاف على مطالب الاحتجاجات.
خسرت حركة الاحتجاجات العربية مواقعها كصوت معبر عن مطالب شعوبها لصالح أنظمة الوكلاء المحليين، "حماة مصالح دول الإقليم"!
* * *
المسافة بين ما يطمح إليه حراك الاحتجاجات العربية والنتائج المترتبة عليه لا تحددها، كما يبدو، عدالة مطالب الشعوب، بما في ذلك حقها في اختيار شكل السلطة التي تدير شؤونها، وإنما تحددها استراتيجيات قوى الثورة المضادة، فيما ترسم فصولها النهائية دول الإقليم المتحالفة معها.
وفي هذا السباق الدائم، لطالما خسرت حركة الاحتجاجات العربية مواقعها، صوتا معبرا عن مطالب شعوبها، لصالح تسيد أنظمة الوكلاء المحليين، "حماة مصالح دول الإقليم"، التي جعلت معظم بلدان الثورات العربية ساحةً للحروب الأهلية والمؤقلمة، إلا أن القوى الشعبية المحرّكة للموجة الثانية من هذه الثورات لم تستفد من مآلات الثورات المجهضة.
في حين نجحت قوى الثورة المضادة حتى الآن في تحديد الوجهة المستقبلية لهذه الاحتجاجات، فإن قادة الاحتجاجات ما زالوا يتحرّكون في المربع الأول نفسه، وهو الاتكاء على الزخم الثوري عاملا وحيدا في استمرار الثورات وتحقيق أهدافها.
بينما استمرت قوى الثورة المضادة بالاعتماد على القوى الإقليمية المناوئة للثورات سلاحا ناجعا للتدخل الحاسم في وأد هذه الاحتجاجات، في حين لم يهتم قادة الاحتجاجات بدور القوى الإقليمية في صياغة مستقبل بلادهم، تحديا لا بد من مواجهته.
ويبدو، في هذا السياق، أن ربيع العسكر الذي ما زال يحصد ثورات الشعوب هو عنوان المرحلة، وتأتي الحالة السودانية استمرارا للفصل السوداوي المتمثل بتسيد الأنظمة العسكرية.
فإضافة إلى نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، وكذلك ما قد تفرضه تطورات الوضع في ليبيا بعد زحف قوات خليفة حفتر على طرابلس، فإن المشهد الجزائري، وإنْ خرج عن هذه المسارات حتى الآن، إلا أن الجيش الجزائري يظل اللاعب الرئيس في البلاد، حيث لا يزال ينظم مطالب المعتصمين ضمن مسار محدد.
وذلك بعد إدارته السلطة ضمنياً على خلفية إقالته الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومن ثم فإن سلطة الجيش، المنحاز لمطالب الشعب، هي الضامن لتنفيذ مطالب الجزائريين.
بيد أن المنعطف الذي دخلته الثورة السودانية اليوم، بعد تولي المجلس العسكري السوداني الانتقالي مقاليد السلطة، بعد إقالة الرئيس عمر البشير، تؤكد حضور اللاعبين الإقليميين عوامل رئيسة في صياغة شكل السلطة الحالية، ومن ثم فإن الظروف الداخلية، وعلى أهميتها لم تكن سوى محفزٍّ لإنضاج الحدث.
تعكس قيادة المجلس العسكري الانتقالي السوداني هرمية السلطة التقليدية في نظام البشير، بما في ذلك تبنّيها أدواته السياسية في التعاطي مع حلفائه ومعارضيه، ومن ثم لم يكن تولي المجلس العسكري السوداني مقاليد السلطة في سياق انقلاب عسكري مكتمل الأضلاع، وإنما إعادة ترميم النظام المتآكل لحماية القوى المشكلة له، وكذلك مصالح حلفائه الإقليميين، وذلك عبر التضحية برأس النظام.
وخلافا لموقف هذه القيادات من حراك الشارع السوداني في عام 2011، حيث تواطأت مع البشير في قمع المتظاهرين، فإنها استغلت تصاعد الحراك السوداني مطلع هذا العام (2019)، واتخذته غطاءً سياسياً وشعبياً لإطاحة رجل نزق لم يعد يلبي احتياجات رعاته الإقليميين.
تمثل الحرب في اليمن حجر الزاوية في معادلة تشكيل الحالة السودانية، إذ يبرز الدور الحاسم لدول التحالف العربي في اليمن بتولي المجلس العسكري السوداني الانتقالي مقاليد السلطة، حيث منحت العربية السعودية، وكذلك الإمارات ومصر، المجلس العسكري، الضوء الأخضر للتحرك وطي صفحة البشير، كما وفروا الدعم الإقليمي للمجلس، بالاعتراف به رسمياً، وكذلك تحييد الأصوات الإقليمية المعارضة لتقلده السلطة.
في هذا السياق، مهدت مصر الأرضية الإقليمية لتطبيع الوضع القائم في السودان، حيث أوصت القمة التشاورية الأفريقية التي استضافتها القاهرة أخيرا الاتحاد الأفريقي بتمديد المهلة للمجلس العسكري لتسليم السلطة في السودان إلى حكومة مدنية إلى ثلاثة أشهر، بعد أن كان الاتحاد قد أمهله خمسة عشر يوماً، وهدّد بتعليق عضوية السودان في الاتحاد في حال تعنت، في حين قدمت السعودية والإمارات ثلاثة ملايين دولار مساعدة عاجلة للسودان، وذلك لتعزيز سلطة هذا المجلس العسكري.
تشكل السلطة الحالية في السودان استمرارا للنموذج الذي تراه السعودية والإمارات مثالياً لترتيب وضع الإقليم، بما يخدم أجنداتها، إذ تعتقد الدولتان أن تعميم النموذج المصري في المنطقة العربية قد يبدأ بتكريسه في السودان، لضمان حماية مصالحهما الإقليمية وإدارة شبكة تحالفاتها في الدول المتدخلة بها.
من جهة أخرى، يمثل تولي المسؤولين العسكريين للقوات السودانية في اليمن مقاليد السلطة في السودان أمراً بالغ الأهمية للسعودية، وذلك لاستمرار حربها في اليمن، إذ يتمتع رئيس المجلس العسكري، وقائد القوات البرية السودانية، والمسؤول عن القوات السودانية في حرب اليمن، عبد الفتاح البرهان، بعلاقات وثيقة مع السعودية والإمارات، إضافة إلى نائبه قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وهو ما يعني حسم استمرار مشاركة القوات السودانية إلى أجل غير مسمى، فرغم دور الرئيس السابق عمر البشير في إقحام السودان في منظومة التحالف العربي في اليمن، ومشاركة قواته البرية في الحرب، وتعهده بحماية جنوده الحدود السعودية، فإنه لم يكن، كما يبدو، مأمون الجانب بالنسبة للسعودية.
إذ إن تقاربه مع خصومها من دول الأزمة الخليجية أخيرا أصبح محل امتعاض بالنسبة لها وللإمارات، إضافة إلى انفتاحه على تركيا. كما أن إعلان البشير، بين وقت وآخر، موعد انسحاب قواته البرية من اليمن كان مزعجا للسعودية، ومن ثم فإن تولي المسؤوليْن العسكريين اللذين يديران القوات السودانية في اليمن مقاليد السلطة يمكّنها أيضا من تلافي أي إزعاجات في تحديد مدة مشاركة هذه القوات، بما في ذلك الاستفادة من سلطتهما المباشرة وشعبيتهما عند الجنود السودانيين المقاتلين في اليمن.
من زاوية أخرى، السعودية والإمارات، المتورطتان بارتكاب جرائم حرب في اليمن، لم تكونا تريدان الاستمرار في حماية رجلٍ مطلوب للمحكمة الدولية باعتباره مجرم حرب، ومن ثم التقط المجلس العسكري السوداني الذي جاء إلى السلطة على بساط الريح السعودي - الإماراتي مطالب حلفائه، وذلك بإعلانه استمرار مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن.
ربما من المبكر التكهن بمستقبل المجلس العسكري الانتقالي في السودان، بما في ذلك قدرته على الاستمرار بالمراوغة والالتفاف على مطالب قادة الاحتجاجات، إلا أن المؤشرات تدل على أنه يمضي في خطوات دقيقة إلى إحكام سلطته في المرحلتين، الحالية والمقبلة.
فالمجلس الذي وصف نفسه بأنه "انتقالي"، منح نفسه باكراً سلطة مطلقة في إدارة المرحلة الانتقالية، سواء بقي سلطة حاكمة رئيسية كما هو الآن، أو تشكلت حكومة مدنية من قادة الحركة الاحتجاجية في السودان، إذ سيظل يرعى العملية الانتقالية، ومن ثم إيلاء دور أكبر لرعاته الإقليميين.
في حين تبدو القوى المدنية التي قادت حراك الشارع السوداني أضعف حالاً مع مضي الوقت، حيث دخلت معركة التفاوض مع المجلس العسكري بسقفٍ منخفض، إذ لم تسع إلى تحييده، كما هو الحال إلى حد ما في الجزائر، أو الطعن بشرعيته، وإنما لتحديد الفترة الانتقالية، وكذلك تشكيل حكومة مدنية.
فيما يلعب المجلس العسكري على عامل الوقت لإرهاق هذه القوى في تفاوض طويل الأمد، وكذلك ضرب شرعيتها باعتبارها قوة حاملة للثورة، من خلال إشراك قوى أخرى متحالفة معه، إضافة إلى توظيف عدم إجماع معظم القوى السودانية، أو عدم توافقها، في كيفية إدارة المرحلة المقبلة، ما يجعل المجلس العسكري السلطة الوحيدة المخوّلة بذلك.
من المنظورين، القيمي والأخلاقي، لا تتجزأ الثورات بمطالبها وعدالة قضيتها، حيث تتجاوز، بأحلامها وشعاراتها النبيلة، الشأن المحلي إلى الإنساني، ومن ثم لا يمكن الفصل بين تموضعاتها المحلية والإقليمية والدولية، وهو انحيازها لكل ما هو إنساني، ورفضها الكراهية والعصبويات والحرب والاقتتال تحت أي مسمى.
ومن هنا، ومع عظمة الثورة السودانية في سياق حركات الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة العربية، لا تزال القوى المدنية المحرّكة لها تتجاهل حقيقة أن الجنود السودانيين المشاركين في حرب اليمن مواطنون سودانيون، يقاتلون خارج أرضهم، دفاعاً عن الحدود السعودية، لا حدود بلادهم، ومن ثم هم وقود لمحرقة الحرب.
فبعيداً عن موقف الثورة السودانية من الحرب في اليمن، فالثابت هنا أن اليمنيين المغلوبين على أمرهم يعيشون اليوم أسوأ كارثةٍ إنسانية عرفتها البشرية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
فإضافة إلى انهيار كل مقومات الحياة، فإنهم لا يقتلون اليوم فقط بسلاح مليشيات الحوثي وألغامها، وإنما بغارات الطيران السعودي– الإماراتي. وفي هذه الحرب العبثية التي يباركها العالم، يظل مقتل الجنود السودانيين في اليمن، كما مقتل اليمنيين، عبثا موجعا لا يمكن السكوت عنه، أو التغاضي عن المشاركين فيه.
* بشرى المقطري كاتبة وناشطة وروائية يمنية
المصدر | العربي الجديد