ماذا يعنِي انسِحاب مِصر من “النّاتو العربيّ” وما هِي الدّوافع الحقيقيّة له؟
وهل تعود إلى الحاضِنة الروسيّة فِعلًا وتشتري طائِرة “سو 35” الأكثر تطوّرًا في العالم؟ وما انعِكاس ذلك على علاقاتها مع “الحليف” السعوديّ والخليجيّ؟ وهل نرى حِلفًا مِصريًّا أردنيًّا سوريًّا جزائريًّا عِراقيًّا مُوازيًا؟ وهل هي رسالة “تمرّد” إلى طِهران وأمريكا معًا؟
عبد الباري عطوان
وجّه الرئيس المِصريّ عبد الفتاح السيسي صفعتين قويّتين للولايات المتحدة الأمريكيّة، الأُولى عندما قرّر الانسِحاب من التحالف الأمنيّ والاقتصاديّ لدول الشرق الأوسط، أو ما يُسمّى حِلف “النّاتو العربيّ السنيّ” للحد من النّفوذ الإيرانيّ مُواجهته، والثّانية عزمه شِراء طائرات “سو 35” الروسيّة المُتقدّمة كبديلٍ عن نظيراتها الأمريكيّة المُقاتلة مِثل “إف 16″، و”إف 35”.
وكالة أنباء “رويترز” العالميّة قالت نقلًا عن أربعة مصادر إنّ الحُكومة المِصريّة أبلغت الإدارة الأمريكيّة بقرارها هذا، ورفَضت إرسال وفد لتمثيلها في اجتماع لدول “النّاتو العربي” ينعقد يوم الأحد في الرياض.
الأسباب التي أوردتها الوكالة لهذا الانسِحاب مثل عدم ثقة هذه الحُكومة باحتِمالات فوز الرئيس ترامب، صاحب هذه الخُطّة في الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة غير مُقنعة للغاية، ونُرجّح أن مِصر لا تُريد زيادة التوتّر مع إيران، والدّخول في حربٍ طائفيّةٍ بتحريضٍ أمريكيّ سعوديّ، ولقاء القمّة الثّلاثي المُفاجِئ الذي استضافته القاهرة قبل ثلاثة أسابيع وضم العاهل الأردني عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء العراقيّ عادل عبد المهدي، إلى جانب الرئيس السبسي، يدعم هذه النظريّة، لأنّ العِراق بات البوابة الرئيسيّة غير المُباشرة إلى طِهران.
مصادر عربيّة أكّدت لهذه الصّحيفة، أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني “غير مُتحمّس” للانضِمام إلى هذا الحِلف أيضًا لعدّة أسباب، أبرزها المُعاملة “الفوقيّة” السعوديّة والخليجيّة لبلاده، ووقفها المُساعدات، ودعمها لصفقة القرن التي ستكون على حِساب الأردن وزعزعة هُويّته الجامِعة، وانتزاع جزء من أراضيه، وإغراقه بميلون لاجِئ فِلسطيني، وبِما يُؤدّي إلى تحويله إلى الوطن البديل، مُضافًا إلى ذلك تجاوز بلاده بفتح دول خليجيّة قنوات تطبيع مُباشرة مع تل أبيب.
***
تصريحات العاهل السعوديّ الملك سلمان بن عبد العزيز التي أدلى بها أثناء لقائه شخصيّات أردنيّة وأخرى فِلسطينيّة قبل بضعة أيّام، وقال فيها إنّ بلاده تدعم الإدارة الأردنيّة للأوقاف في القدس المحتلة، في مُحاولةٍ لنفي تقارير تقول إنّ السعوديّة تُريد فُرض وصايتها على المُقدّسات الإسلاميّة في القدس المحتلة كبديلٍ للوصاية الهاشميّة، كانت مُفاجئة ومقصودة من حيثُ توقيتها لامتِصاص بعض القلق الأُردني.
لا نعتقد أنّ هذه التّصريحات ستكون مُطمئنة للعاهل الأردني وتحيد حالة التوتّر في العلاقات بين البلدين لسببٍ بسيط، وهو أن الحاكم الفِعلي في الرياض هو الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد، الذي يُعتبر من أكثر الدّاعمين لصفقة القرن بحُكم صداقته القويّة مع مهندسها وعرّابها جاريد كوشنر، صِهر الرئيس الأمريكيّ، ما لم تكون هذه المواقف مدعومةً منه ومُطبّقة عمليًّا، فإنّها تظل من قبيل المُجاملة فقط.
التّقارب الأردنيّ التركيّ، والتّقارب الأردنيّ العراقيّ وعلى أعلى المُستويات يُوحي بأنّ العاهل الأردني بات لا يعوّل على خياراته السابقة في التّحالف مع دول الخليج، والرّهان على دعمهم الماليّ المرفوق “بالتّمنُّن”، وإنّه يُحاول فتح آفاق جديدة، واتّباع سياسات تكون أكثر انسجامًا مع الشارع الأردني ومطالبه، سواء في الانفتاح على إيران أو سورية، ومن غير المُستغرب أن نفيق في يومٍ ما، وربّما وشيك، على قرارٍ أردنيٍّ بفتح المزارات الشيعيّة في الكرك أمام الزوّار الإيرانيين (ضريح الإمام أبو جعفر الطيّار).
الرئيس السيسي حصل على ما يُريد من الدّعم الماليّ الخليجي، (حواليّ 50 مليار دولار)، وبات يتبنّى سياسات أكثر استقلاليّة عن “الكفيل” الخليجيّ، وكفيل كفيله الأمريكي، مثلما أكّدت لنا مصادر نعتقد أنّها موثوقة، ولا يُريد أن يتكرّر المشهدان الجزائريّ والسودانيّ في مِصر، حيث لا تستبعد هذه الاحتماليّة مُعظم التّحليلات الاستراتيجيّة الغربية.
عودة مصر إلى الحُضن الروسيّ مُجدّدًا، كمصدر للتّسليح غير مُستبعدة لأمرين أساسيين: الأوّل أن السّلاح الروسيّ بات أكثر تقدّمًا تقنيًّا، والأهم من ذلك أنّه غير مُرتبط بأيّ شروط سياسيّة، وغير منزوع من بعض التّكنولوجيا مِثل نظيره الأمريكيّ لأسبابٍ إسرائيليّةٍ، والثّاني لأنّه أقل تكلفة، وشُروط مدفوعاته أكثر مُرونة.
الرئيس ترامب الذي يرى “زبائن” بلاده وحُلفاءها يهرولون إلى موسكو لشِراء أسلحتها، وخاصّةً منظومة صواريخ “إس 400″، يعيش حالة من الارتِباك دُفعته إلى تهديد مِصر وتركيا بفرض عُقوبات عليهما، إذا مضيا قُدمًا في خُططهم لاقتِناء أسلحة روسيّة، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟ أن يوقف المُساعدات الماليّة الأمريكيّة لمِصر التي لا تزيد عن مِليار ونِصف المِليار دولار سنويًّا يذهب مُعظمها لشركات السّلاح الأمريكيّة؟ وحتّى لو فعل ذلك فإنّ الروس يُمكن أن يعوضوا هذه المُساعدات بطريقةٍ أو أُخرى، وبِما يفِك القيد الأمريكيّ عن المِعصَم المِصريّ المُؤلم والمُهين.
***
الطائرة الروسيّة “سو 35” التي تُريد مِصر شراءها من روسيا هي أكثر المُقاتلات العالميّة تطوّرًا، تحمّل صواريخ جو جو، وجو أرض، وتبلُغ سُرعتها 2400 كم في السّاعة، أيّ ضعفيّ سُرعة الصّوت، وتطير لمسافة 3600 كم دون التزوّد بالوقود، فلماذا لا تقتنيها مِصر التي تُواجه تهديدات إقليميّة في الشّمال من إسرائيل، وفي الجنوب من إثيوبيا بسبب أخطار سد النّهضة؟
انسِحاب مصر من “الناتو العربيّ” إذا تأكّد قرار استراتيجيّ جريء يُحرّرها من العُبوديّة الأمريكيّة والخليجيّة معًا، ويُعيد إليها قرارها المُستقل أو يُعزّزه، وربّما يكون تمهيدًا لمُراجعة سياساتها في استمرار التّعاون مع دولة الاحتِلال الإسرائيليّ في سيناء، أو هذا ما نتمنّاه والكثيرون غيرنا، خاصّةً إذا جاء هذا التحوّل في إطار الانفتاح السياسيّ واحتِرام حُقوق الإنسان، والتخلّي عن السّياسات الاقصائيّة لبعض المُكوّنات السياسيّة، ونحن نتحدّث هُنا عن المُعارضة بألوانها كافّة.
“الناتو العربي” الذي يرتكز على أُسس طائفيّة لإغراق المِنطقة في حُروب مذهبيّة يصُب في مصلحة إسرائيل يقترب من مرحلة الاحتِضار، ولا نستبعِد أن تظل عُضويّته مقتصرة على السعوديّة والبحرين، وربّما الإمارات أيضًا.. والأيّام بيننا.