ترامب والأزمة الخليجية.. إدارة النزاع وبراغماتية الحلّ

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 21737
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

محمد الشرقاوي
 شدّد مايك بامبيو، في أوّل زيارة له إلى السّعودية وإسرائيل، قبل أيام، مباشرةً بعد تولّيه منصب وزير الخارجية الأميركية رسميا على أنّ "الوحدة الخليجية ضرورة، ونحن نحتاج لتحقيقها". وتزامنت الجولة مع تصريح مسؤول رفيع المستوى في حكومة ترامب لصحيفة نيويورك تايمز، شدّد فيه على أنه قد "بلغ السيل الزبى"، في الحملة المعلنة على قطر منذ 5 يونيو/ حزيران 2017.
وأوضح أن الأولويات الراهنة متزايدة الأهمية لدى البيت الأبيض هي "مواجهة إيران، والعمل على إرساء الاستقرار في العراق وسورية، وإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة، وإنهاء الحرب الأهلية المأساوية.
ولن يمكن التعامل معها من دون ردّ عربي موحّد وأكثر قوة"، في إشارة إلى حاجة واشنطن من الناحية الاستراتيجية لخليج عربي موحّد، قبل مرحلة التصعيد الجديد إزاء إيران المرتقبة في 12 مايو/ أيار ضمن خطة ترامب للتحلل من الاتفاق النووي المتعدد الأطراف مع إيران.
ويبدو من ردود الفعل الأولية في الرياض وأبوظبي أنّ موقف بامبيو، ومن خلفه البيت الأبيض، أثار خيبة أمل لدى النّخبة السّياسية في السّعودية والإمارات التي توقعت أن غياب وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، عن المشهد السياسي في واشنطن سيزيد في إمكانية ترجيح الموقف الأميركي لصالحها على حساب الموقف مع الدوحة.
وتشكل زيارة بومبيو المنطقة مؤشرا على حرص كل من البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع في واشنطن على إنهاء الأزمة الخليجية. هو مؤشرٌ ينطوي على مفارقةٍ مثيرةٍ ظهرت منذ خمسة أسابيع، وتستدعي التفسير أكثر من التأويل، وقد عزّزها بيان البيت الأبيض، عقب لقائي القمة بين ترامب وأمير قطر الشيخ تميم، وقبله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان.
قرّر البيت الأبيض تأجيل قمّة كامب ديفيد التي كانت مرتقبة بين الرّئيس الأميركي وزعماء الدول الخليجية الست من مايو/ أيار إلى سبتمبر/ أيلول المقبل. وحرصت واشنطن حاليا على تفادي تباين القراءات، أو تباعد التأويلات، لقرار تأجيل القمة.
فأوضحت متحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أنّ تأجيل القمة ليس مردّه إلى الخلافات القائمة حول القضية القُطرية، وأكّدت أنّ "الرئيس ترامب يظلّ ملتزما بإنهاء النزاع الخليجي هذا الشهر (إبريل/ نيسان)".
وبين هذا التّصريح وزيارة وزير الخارجية الأميركي الجديد، مايك بومبيو، المنطقة الأسبوع الجاري، ارتفاع غير مسبوق في دبلوماسية الرّئيس ترامب إزاء كل الأطراف الخليجية، بانتظار استكمال اجتماعه المرتقب مع ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، في وقت لاحق.
وعقب اتّصاليْن هاتفييْن منفصليْن مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، في الثالث من إبريل/ نيسان وقبله العاهل السعودي الملك سلمان بيوم، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس ترامب شكر الأمير تميم على "التزامه بالمساهمة في استعادة وحدة المجلس، وشدّد على ضرورة وضع نهاية للنزاع الخليجي".
وأضاف أن الجانبيْن ناقشا "سلوك إيران المتهور بشكل متزايد في المنطقة، والتهديد الذي تشكله أمام الاستقرار الإقليمي." وتمحور الاتصال الهاتفي أيضا بشأن سبل إنعاش مجلس التعاون الخليجي، وعدة قضايا إقليمية، بما فيها سورية واليمن.
ومع تلاحق هذه المساعي الدبلوماسية المباشرة وغير المباشرة، يعكس الخطاب السياسي، سواء لدى ترامب، أو لدى أطراف الأزمة الخليجية أنفسهم، مرحلة جديدة في استكشاف الطريق إلى تسوية الأزمة، بالتراضي بين العواصم الخليجية. وتتجلّى هذه المرحلة الجديدة في ثلاثة أبعاد متداخلة.

موقف البيت الأبيض من النزاع
قرّر الرئيس ترامب تجسير الفجوة التي كانت بينه وبين المؤسسة السياسية، وتبنّى الرؤية الاستراتيجية التي تمسّك بها وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جون ماتيس، ومسؤولون آخرون في واشنطن. وهي الرؤية نفسها التي يسعى بومبيو إلى حمل العواصم الخليجية على قبولها صيغة عملية تتجاوز خطاب التصعيد والشروط والشروط المضادة بين الرياض وأبو ظبي من جهة والدوحة من جهة أخرى.
ولم تعد الشروط السعودية الإماراتية، سواء الـ 13 في المرحلة الأولى أو الستة في مرحلة لاحقة، تطفو إلى السطح في محادثات مشروع التسوية التي تقودها الولايات المتحدة حاليا من دون الخروج عن مسار الوساطة الكويتية التي بدأت منذ عشرة أشهر.
في الوقت نفسه، يسعى الرئيس ترامب إلى تبديد الانطباع الذي حام حوله خلال الأشهر الأولى للأزمة أنّه كان ميّالا إلى تأييد الموقف السعودي الإماراتي بتوجيه تهم "دعم الإرهاب" إلى قطر، في ظلّ ما دار خلال قمة الرياض في 20 و21 من مايو/ أيار الماضي، غير أنّ بيان البيت الأبيض أوضح أن "الرئيس ترامب أعرب عن شكره لأمير قطر على التزام بلاده المتواصل بمكافحة تمويل الإرهاب والتطرف."
ويأتي هذا التحوّل في موقف البيت الأبيض، بعد إطلاع ترامب على نتائج الجولة المكوكية للمبعوثيْن الأميركييْن، أنتوني زيني وتيموتي لاندركينغ، بين عواصم المنطقة في فبراير/ شباط الماضي. ويعكس ثلاثة أمور مهمة لدى ترامب في تصميم خطواته الدبلوماسية الراهنة والمقبلة نحو جهود الحلّ، من حيث توقفت الوساطة الكويتية:
أوّلهما، قناعة ترامب أن تحديد الدور الأميركي في تسوية الأزمة الخليجية يستدعي قراءة موضوعية ومتأنية لطبيعة الخلاف ومساره ومراميه المعلنة وغير المعلنة، وعدم التسرع في شيطنة أيّ طرفٍ لصالح طرف، أو التخندق الذهني والسياسي ضمن خطابٍ تصعيدي من أي طرف أو أطراف حاولت جرّ البيت الأبيض إلى سوء تقدير استراتيجي في بدايات الأزمة. وهذا ما يفسر التخلي عن موقفه السابق، واقترابه من خيار استراتيجي، تزكّيه المؤسسة السياسية بمن فيها أعضاء الكونغرس.
ثانيها، رغبة ترامب في ترميم مصداقيته أمام الخليجيين على الأقل، وتجاوز التهم من حوله باحتمال نجاح المال الإماراتي في شراء بعض النفوذ السياسي في حكومة ترامب، من خلال انفتاحه على بعض رجال الصّفقات وجماعات الضغط المشبوهة ووسطاء السياسة، كجورج نادر وإليوت برويدي.
ثالثا، ينمّ التزام ترامب بشكل صريح "بإنهاء النزاع الخليجي هذا الشهر (إبريل)" عن وجود مؤشرات جديدة غير معلنة في تحوّل مواقف بعض أطراف النزاع، ما يعزّز مستوى التفاؤل لديه حاليا بدينامية التقارب النسبي بين عواصم الخليج.

من موقفيْن إلى ثلاثة
تظلّ السّرديات السياسية مؤشّرا مهمّا على تطوّر مراحل التصعيد أو التهدئة أو ارتفاع وانخفاض خطاب العدائية بين الأطراف، حسب منطق تحليل النزاعات، قبل تحديد الاستراتيجية المناسبة لتسويتها، ولا تشكل الأزمة الخليجية حتى الآن استثناءً على هذه القاعدة.
فثمّة أكثر من تحوّل ملحوظ في نبرة المسؤولين والنخبة السياسية، سواء عبر القنوات التلفزيونية أو وسائل التواصل الاجتماعي، تساعد في استقراء مدى انغماس أطراف الأزمة، أو ميولهم إلى تجاوزها بشكل من الأشكال في المرحلة الراهنة.
على مرّ الأشهر العشرة الأولى للأزمة، تعالى الخطاب الإماراتي والسعودي الموحّد، ومن خلفه الخطاب البحريني والمصري إلى حد ما، في شيطنة قطر والكيل لها بتهم "تمويل الإرهاب" و"إيواء دعم الجماعات الإرهابية".
في المقابل، ردّت الدوحة بخطابٍ غير انفعالي وغير تصعيدي، وطالبت بتقديم أي حجج تبرهن تلك التهم أو تدحضها. ومنذ مارس/ آذار، ظهرت مؤشرات متزايدة على قِصَرِ عُمر ذلك التلاحم بين الخطابين الإماراتي والسّعودي.
ولم تعد سرديات ولي عهد السعودي، محمد بن سلمان، تردّد صدى ما تخطط له أبو ظبي. وثمّة أكثر من مؤشر على تغير موقف محمد بن سلمان. وكما قال مسؤول أميركي في واشنطن، فإن الرئيس ترامب والأمير محمد بن سلمان تناقشا بشأن الأزمة، وسط "تطورات جديدة تعزّز إجراء مزيد من المباحثات".
ويظل المؤشر الثاني في ثنايا تصريح محمد بن سلمان، خلال لقائه مع الإعلاميين في القاهرة. وكما نقل المستشار في الديوان الملكي السعودي، سعود القحطاني، عنه قوله "لا أشغل نفسي بها، وأقل من رتبة وزير مَنْ يتولى الملف، وعدد سكانها لا يساوي شارعاً في مصر، وأي وزير عندنا يستطيع أن يحلّ أزمتهم".
لا يصعب على الإنسان العادي، قبل عالم النفس السياسي، أن يستشفّ أن تصغير أو تقزيم أهمية الأزمة في هذ المرحلة يوحي بأن ولي العهد السعودي ربما يستشرف الطريق إلى مخرجٍ مشرّفٍ، يضمن له عدم الظهور بمظهر من يقدّم تنازلاتٍ، ومنها قائمة المطالب الثلاثة عشر الشهيرة التي تجاوزتها التطورات.
وربما تتردّد في الرياض وواشنطن أيضا الحاجة لسيناريو مناسب، يحفظ له ماء الوجه السياسي عند الخروج من أزمةٍ كان من أكبر صقورها الأشاوس حتى الأمس القريب.

الأزمة في مثلث جديد
يبدو أن المواجهة بين الخطابين بين طرفي الأزمة الخليجية عشرة أشهر تحوّلت حاليا إلى معادلة جديدة، تظهر في أعين ترامب على شكل مثلث ذي ثلاثة أضلاع:
أوّلها، موقف الدوحة الذي يعتبره "ملتزما بالمساهمة في استعادة وحدة المجلس، وبضرورة وضع نهاية للنزاع الخليجي"، كما ورد في بيان البيت الأبيض. ويبدو أنّ هذا الموقف يثير الارتياح لديه، ويسهل الطريق أمام مساعيه لوضع حد للأزمة.
ثانيا، موقف الرياض الذي يبدو أنّه يتخلّى تدريجيا على المستويين، النفسي والسياسي، وأيضا الإعلامي، عن العدائية والتصعيد. ويبدو أن المكاملة الهاتفية بين الرئيس ترامب والملك سلمان في الثاني من إبريل تنبني على مؤشراتٍ إيجابيةٍ، أظهرها لقاء ترامب ومحمد بن سلمان في البيت الأبيض في مارس/ آذار. وسيعوّل ترامب أكثر فأكثر على مرونة هذا الموقف السعودي في إقناع أبو ظبي بإعادة النظر في حساباتها، ليس باتجاه تجاوز الأزمة، وعقد القمة الخليجية الأميركية فحسب، بل وأيضا في ضرورة توحيد الصف الخليجي، وكسبه لصالح استراتيجية ترامب في التصعيد المرتقب ضد طهران والاتفاق النوّوي برمّته في الشهرين المقبلين.
ثالثا، موقف أبو ظبي الذي يبدو أنه دخل مرحلة استنفاد قدراته الدبلوماسية في استمالة ترامب. لكن القناعة المترسّخة لديه بأن استثماره السياسي طويل الأمد في واشنطن، وتوافقه مع منطق الصفقات المالية والسياسية مع رجل الصفقات في البيت الأبيض، يعزّزان ميوله نحو الاعتداد بأنه الطرف "الأقوى". وهنا يصعب الابتعاد نفسيا عن منطق الغلبة، أو إعادة قراءة الأزمة من جديد بشكل عقلاني، يأخذ بالاعتبار المتغيرات في مسار النزاع ومساعي ترامب إلى إنهاء الخلاف.

الطريق البطيء إلى قمة سبتمبر
يبدو أن براغماتية بومبيو والتزامه الحرفي بتطبيق إرادة ترامب تعزّز مؤشرات الانفراج التدريجي في مسار الأزمة الخليجية، وابتعادها أكثر فأكثر من منطقة الجمود ومنطق التصعيد من أجل التصعيد.
وبالنظر إلى تعقيداتها السياسية والاستراتيجية والنفسية، فإنها لا تخرج، في الحصيلة النهائية، عن مسار كل الأزمات والصراعات: تصعيد مستعجل جامح، ثم وساطة جادة، ثم تخفيف خطاب العدائية، فاختفاء الأعمال الانتقامية رويدا رويدا، مع حفظ ماء الوجه لكل الأطراف.
هكذا تبدو ملامح الطريق إلى سبتمبر/ أيلول على الأرجح. ويبدو أن تأجيل القمة أربعة أشهر من البيت الأبيض ينطوي على وعي جديد لدى ترامب بمتطلبات الوساطة، ومنح بعض الوقت حتى تكتمل العناصر النفسية والاستراتيجية والسياسية لأطرافٍ إلى التعامل مع الأزمة بقراءة جديدة. لكن إرسال بومبيو إلى الرياض قبل نهاية إبريل/ نيسان ذاته مؤشرٌ واضحٌ على عزم البيت الأبيض طي الملف الخليجي، قبل الانشغال بالملف الإيراني منتصف مايو/ أيار والملف الكوري الشمالي نهاية الشهر. وهذا في تقدير واشنطن حاليا هو المدخل الطبيعي لنواة مصالحة خليجية خليجية ستظل محتشمة ومتدرجة في نموّها بين ما يُزرع في إبريل/ نيسان وما سيتم حصاده في مايو/ أيار مع تأخير الاحتفاء به إلى سبتمبر/ أيلول المقبل، موعد القمة الخليجية الأميركية.

* د. محمد الشرقاوي باحث مغربي وأستاذ جامعي في تسوية النزاعات الدولية بواشنطن.

المصدر | العربي الجديد