حول إحالة معاهدة الجزيرتين للبرلمان عندما يمنح من لا يملك سلطة لمن لا يستحق!

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2513
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

بقلم د. محمد نور فرحات
تسعة أشهر مرت على توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية ولم يرسلها رئيس الجمهورية للبرلمان لنظرها، وهو صاحب الاختصاص الأصيل. المادة ١٥١ لم تعط لرئيس الوزراء أو للحكومة اختصاصا ما فى إبرام المعاهدات أو فى إحالتها للبرلمان. هذه سلطة رئيس الجمهورية وحده دون غيره. هل يجوز للرئيس تفويض رئيس وزرائه فى التوقيع على المعاهدات الدولية؟. المادة ١٤٨ تجيز لرئيس الجمهورية أن يفوض رئيس الوزراء أو الوزراء فى بعض اختصاصاته. ولكن العرف والفقه استقرا على عدم جواز التفويض فى الاختصاصات السيادية التى يمارسها رئيس الجمهورية كرئيس للدولة. سلطة الرئيس فى إعفاء الحكومة، وسلطته فى إعلان الحرب، وسلطته فى إعلان الطوارئ، وسلطته فى الدعوة للاستفتاء وغيرها، هذه كلها يمارسها الرئيس كرئيس للدولة وليس كرئيس للسلطة التنفيذية ولا يجوز فيها التفويض. توقيع رئيس الوزراء على الاتفاقية، ثم قرار الحكومة المتأخر بإحالتها للبرلمان باطلان.
تصريحات رئيس الجمهورية فى هذا الشأن كانت محايدة ومقتضبة فلا هو أعلن دعمه للاتفاقية ولا هو أعلن رفضه لها وترك الأمر بين يدى القضاء.
منذ التوقيع على الاتفاقية انفجرت براكين الغضب فى ربوع مصر. تظاهر شباب وأودعوا فى السجون. صدرت أحكام بحبس قيادات نقابة الصحفيين لإيوائهم شبابا معترضين على الاتفاقية ومطلوبين للعدالة. وجرى إبعاد إعلاميين عن برامجهم وإيقاف برامج أخرى.
أصدرت محكمة القضاء الإدارى حكمها فى يونيو الماضى ببطلان توقيع ممثل الحكومة على المعاهدة. إن كان الحد يدرأ بالشبهة فإن الحق يجب أن يدافع عنه بوجود شبهة تملكه.
الحكومة قلبت الآية. منحت حقوقا للآخرين بالشبهات وأخفت أوراقا وخرائط ووثائق وأظهرت أخرى لكى تعطى غيرها حقا مشكوكا فيه. ونكلت بالمعترضين لمجرد الشبهات. هذا انعطاف مزرٍ ومخجل فى أداء السياسة المصرية لن يغفره التاريخ.
الفقرة الأخيرة من المادة ١٥١ من الدستور تحظر مطلقا إبرام المعاهدات التى تنطوى على التنازل عن الإقليم. رئيس الوزراء وقع على التنازل عن جزء من الإقليم وهو غير مخول لا بالتوقيع ولا بالتنازل.
قال القضاء كلمته النافذة. وفقا للمادة ١٠٠ من الدستور تلتزم الدولة بكفالة تنفيذ الأحكام القضائية، وتجرم تعطيلها أو الامتناع عن تنفيذها. المادة ١٩٤ من الدستور تجعل لمجلس الدولة وحده سلطة الفصل فى المنازعات الإدارية ومنازعات التنفيذ المتعلقة بها. لا أريد الخوض فى مسألة تغول القضاء المستعجل على اختصاصات الجهات القضائية الأخرى، وإن كنت أرى الحاجة ملحة إلى تعديل المادة ٤٥ من قانون المرافعات وضبط اختصاص هذا القضاء بالتوافق مع أحكام الدستور.
الحسنة الوحيدة التى فعلتها الحكومة أنها أحجمت عن إحالة الاتفاقية للبرلمان انتظارا للكلمة النهائية من القضاء. ارتضت أن تناضل أمام القضاء دفاعا عن حق السعودية فى أرض قرر القضاء أنها مصرية. ما علينا فالحكومة وضميرها الوطنى. ولكن كان يحمد لها استجابتها لنصوص الدستور وامتثالها لحكم واجب النفاذ صادر من محكمة القضاء الإدارى.
حتى هذه الحسنة (رغم بعض مناورات الحكومة التى يفعلها المحامون) ارتأت أن تتبرأ منها الحكومة وتتوب عنها. فقررت فجأة أن تحيل الاتفاقية للبرلمان. الحكومة لا تملك ذلك لأن هذا حق حصرى لرئيس الجمهورية. والحكومة بذلك ارتكبت ما نهت عنه المادة ١٠٠ من الدستور بتجاهلها حكما قضائيا نافذا ببطلان التوقيع على الاتفاقية. وارتكبت جريمة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية التى يعاقب مرتكبها بالحبس والعزل من الوظيفة.
لقد وقع قرار الحكومة على غير محل لأن الاتفاقية لم يعد لها وجود بمقتضى حكم محكمة القضاء الإدارى. سيناقش البرلمان ورقة مجردة من أى قيمة قانونية وسيقع قراره أيا كان مضمونه على غير موضوع. الدفع الأول الذى نبديه أمام البرلمان الذى يرأسه أستاذ للقانون الدستورى هو الدفع بعدم وجود الاتفاقية.
السقطة التى تورد أى حكومة موارد التهلكة أن تفترض فى شعبها السذاجة أو الغباء وتمارس عليه الحيل والمراوغات. الناس يطالعون كل يوم انتقادات لحكم بطلان التوقيع على الاتفاقية. يحدث هذا فى قنوات رجال أعمال الحزب الوطنى بواسطة إعلاميين ارتضوا الرضوخ لمبدأ (استقم كما أمرت). لم يعترض أحد وقتئذ بأن أحكام القضاء لها قدسيتها ولا يجوز انتقادها.
فجأة يتقدم أحد نواب ائتلاف (أجهزة أمن مصر) المشهور بـ(دعم مصر) بطلب استدعاء رئيس الوزراء لسؤاله عن سبب عدم إحالة الاتفاقية للبرلمان. الاتفاقية لم يعد لها وجود، ولكنهم يريدون تمريرها بالمخالفة للدستور. ترتعد فرائص الحكومة بعد أن كانت ممتثلة لحكم القضاء، وتجتمع وتحيل الاتفاقية للبرلمان.
لا الحكومة تملك إحالة الاتفاقية للبرلمان، ولا الاتفاقية ذاتها أصبحت موجودة قانونا، ولا البرلمان يملك مناقشة صك منعدم أحيل إليه ممن لا يملك.
هل سيقتنع أحد فى مصر أن هذا السيناريو يجرى عفو الخاطر؟، أم أن هناك أصابع تحرك عرائس الماريونيت تقبع خلف الستار فى ظلام دامس يدير أمر السياسة والتشريع؟. نفس الأصابع التى تحرك عرائس المشهد المصرى منذ بدأ القصاص من الثورة. نفسها التى وقفت وراء إصدار قانون الجمعيات الأخير، وقانون المؤسسات الصحفية الذى يحكم قبضة الدولة عليها، وتسعى إلى تعديل قانون السلطة القضائية لإحكام سلطة الرئيس على تعيين رؤساء هيئاتها. الأغلبية المصطنعة الغاشمة لا تصنع إلا قوانين غاشمة.
المحكمة الإدارية العليا حددت جلسة قريبة (يوم ١٦ يناير) للفصل فى طعن الحكومة. ماذا كان يضير الحكومة أن تنتظر حتى يقول القضاء كلمته النهائية؟.
ما حدث هو محاولة من الحكومة للتأثير على القضاء. المادة ١٨٤ من الدستور تجعل التدخل فى عمل القضاء جريمة لا تسقط بالتقادم. صحيفة الحالة الجنائية للحكومة أضيفت إليها جريمة الامتناع عن تنفيذ حكم قضائى وجريمة التدخل فى سير العدالة.
ليس غريبا أن يصدر تصريح من هنا أو هناك، يبرر سلوك الحكومة ممن لديهم جرأة غريبة على الإفتاء فى الدستور دون علم أو معرفة بل دون أن يقرأوه. ولكن أن يصدر تصريح بهذا المعنى من رئيس اللجنة التشريعية فهو ما يجب أن نتوقف عنده لجملة أسباب: نحمل للرجل ولعلمه وللحزب الذى ينتمى إليه بتاريخه العريق كل تقدير. الحق فوق القوة. هكذا علمنا سعد زغلول زعيم الوطنية المصرية. ولكن تصريحات رئيس اللجنة التشريعية الذى ينتمى إلى حزب سعد زغلول تعنى أن القوة فوق الحق وأن الحكومة فوق الأمة.
قال رئيس اللجنة التشريعية: «إن مجلس النواب مختص بنظر الاتفاقية دون مزاحمة من أى جهة أخرى، ويجب احترام مبدأ الفصل بين السلطات». ومع ذلك، فهذا التصريح، وإن اختلفنا معه جذريا، يبقى أكثر رصانة من تصريحات سابقة لرئيس لجنة الدفاع والأمن القومى الذى جهر علنا باقتناعه بسعودية الجزيرتين ففقد بذلك حياده عند نظرهما مستقبلا.
رئيس اللجنة التشريعية، رجل القانون المخضرم الذى ينتمى إلى أقدم حزب ليبرالى، يغفل حقيقة أن سلطة مجلس النواب بنظر المعاهدات تنعقد إذا كانت هناك معاهدة موجودة فعلا من الناحية القانونية. المادة ١٥١ من الدستور تنص على التالى (وفى جميع الأحوال لا يجوز إبرام معاهدة تخالف أحكام الدستور أو يترتب عليها التنازل عن جزء من إقليم الدولة). عندما يستخدم المشرع عبارة (لا يجوز) فهذا يعنى البطلان المطلق عند المخالفة. القضاء قال كلمته ببطلان التوقيع على المعاهدة وانعدامها لأنها تنطوى على تنازل عن جزء من إقليم الدولة. لا توجد معاهدة إذن لكى ينظرها البرلمان بل توجد أوراق كان يطلق عليها سابقا اسم المعاهدة.
من الذى يعتدى على مبدأ الفصل بين السلطات إذن؟، ومن الذى ينتهك أحكام القضاء؟. معلوم أن القضاء الإدارى والدستورى قررا عن حق أنه لا يجوز التذرع بنظرية أعمال السيادة إذا تضمن القرار الإدارى مخالفة الدستور. فلا سيادة للحكومة فى انتهاكها للدستور. رئيس اللجنة التشريعية يعى تماما معنى هذه المبادئ. ونذكره أن الحق فوق القوة.
والحق يقال، إن أكثر التصريحات رصانة واعتدالا صدرت عن رئيس البرلمان. قال إن «دراسة الاتفاقية ستكون من كل الزوايا وإن البرلمان سيأخذ وقته كاملا». ولكنى لو كنت مكانه لأوقفت نظر المعاهدة انتظارا لحسم سؤال ولاية البرلمان بنظرها، الذى سيقرره القضاء بعد أيام.
وأيا ما كان حكم مجلس الدولة المنتظر، التى تتزلزل اليوم جنباته دون أن يهتز له وجدان أو يتأرجح فى يده ميزان العدل، وأيا كان ما سينتهى إليه البرلمان، فقد أصبح أمر المعاهدة فى ضمير الشعب.
المصري اليوم