ما بعد قمّة الإنكار... أهلاً بكم في السعودية «الناعمة»

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 628
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

يُحسب للسعودية التقاطها اللحظة التاريخية الفاصلة في تبدّل موازين القوى العالمية. وبدافع حاجتها الدائمة إلى حماية خارجية (قوّة أو قوى عظمى)، كانت تترصّد كوّة في جدار الأزمات الإقليمية - الدولية كي تستغلّها في تحصين نفسها إزاء تحدّيات منظورة وأخرى مستورة. يمكن رصد ثلاثة تحوّلات كبرى في تاريخ الدولة السعودية الحالية، تمكّنت الأخيرة في اثنَين منها من العبور بسلام بمركبها، على الرغم من الأمواج العاتية التي عصفت بالمنطقة حينذاك:
1 - الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) وبداية أفول الدولة العثمانية وانتصار الحلفاء (بريطانيا وفرنسا). بعد محاولات سعودية حثيثة بدأت منذ عام 1803 للتواصل مع المعتمَدين السياسيين البريطانيين في البحرين والكويت وبوشهر وصولاً إلى الهند طلباً للحماية، مقابل تمنّع بريطاني طويل الأمد مردّه التفاهم البريطاني - العثماني على احترام مناطق النفوذ، وُقّعت، في 26 كانون الأول 1915، «معاهدة دارين» (أو القطيف) بين ابن سعود والمعتمَد السياسي في الكويت، برسي كوكس، والتي تمّ بموجبها تحويل نجد إلى محميّة بريطانية، شأنها شأن بقيّة المحميّات في الخليج.

2 - الحرب العالمية الثانية، وبداية أفول قوى الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) وصعود الولايات المتحدة كقوّة عالمية إلى جانب الاتحاد السوفياتي. عُدّ لقاء ابن سعود مع الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، على متن باخرة كوينسي في قناة السويس في 14 شباط 1945، اللقاء التأسيسي لشراكة استراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة تقوم على النفط مقابل الحماية. وبموجب هذه الشراكة، دخلت السعودية في نطاق مجال الأمن الحيوي الأميركي. حجم الخدمات التي قدّمتها المملكة للولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة كان هائلاً، وقد عبّر عنه ضابط الاستخبارات الأميركي السابق، بروس ريدل، لصحيفة «نيويورك تايمز» في 21 آب 2013 بما نصّه: «المملكة السعودية حاربت مع أميركا ضدّ السوفيات وصدام، والخميني وابن لادن، وتقدّم دعماً مهمّاً لعملية السلام بين العرب وإسرائيل». أمّا سفير السعودية في واشنطن ورئيس الاستخبارات العامّة ومستشار الأمن القومي سابقاً، بندر بن سلطان، فذكر، في تصريح لافت إلى الصحافي والمؤلّف الأميركي إدوارد ج. آبستين في عام 1981: «لو علمتَ ما كنّا نعمل حقاً من أجل أميركا، فلن تمنحنا الأواكس فقط، بل سوف تعطينا أسلحة نووية».

3 - مخاض التحوّل الثالث: عنوانه بوادر أفول القوّة الأميركية، وبداية ظهور عالم متعدّد الأقطاب. قد لا تبدو آثار هذا التحوّل فورية وتداعياته ظاهرة على نحو يجعلنا نجزم بأن ثمّة انفكاكاً وشيكاً وكاملاً للشراكة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض. ولكن مؤشّرات عدم ثقة الأخيرة بالأولى بدت واضحة بعد سلسلة خيبات كثيرة سابقة، يمكن رصد أبرزها على مدى أكثر من عقدَين في الفترة ما بين عامَي 2001 و2023. بدأت أولى الخيبات مع توصيف السعودية بأنها «بؤرة شرّ» وداعم رئيس للإرهاب وعدو لأميركا، على خلفية ضلوع 16 سعودياً من أصل 19 انتحارياً في هجمات الحادي عشر من أيلول. وعلى الرغم من محاولات احتواء الحملات الإعلامية على السعودية، فإن الانتشار الفيروسي لوصمة الإرهاب جعلها في موقع لا تُحسد عليه، حيث بات عليها الاستنفار، وإخراج كلّ ابتكاراتها الدفاعية ومن بينها مبادرة الملك عبد الله لـ«السلام» مع إسرائيل في بيروت عام 2002، والتي أراد استخدامها «تقدمةً» للولايات المتحدة طمعاً في تخفيف الاحتقان المتصاعد ضدّ المملكة الوهابية.

هكذا، ترك فصل 11 أيلول أثره المباشر على العلاقات بين الرياض وواشنطن، وشقّ دروب الخيبات في القادم من السنوات على وجه السرعة: أولاً: إسقاط النظام العراقي برئاسة صدام حسين في نيسان 2003 من دون التنسيق مع السعودية، وتسليم العراق كما جاء على لسان سعود الفيصل، وزير الخارجية الأسبق، إلى إيران على «طبق من فضة». ثانياً: موقف إدارة باراك أوباما من الربيع العربي، ومن «ثورة 25 يناير» 2011 في مصر، والذي أثار غضب الملك عبد الله لتخلّي أميركا عن حسني مبارك، واضطرّه لقطع رحلة الاستجمام في المغرب والعودة إلى المملكة تحسّباً لأيّ طارئ. ثالثاً: تخلّي أوباما عن قرار الحرب على سوريا في أيلول 2013 (بذريعة كيماوي الغوطة شرق دمشق) بعد الاتفاق مع روسيا على سحب المخزون الكيماوي من سوريا، في وقت كانت فيه الرياض تتأهّب لمرحلة ما بعد سقوط بشار الأسد وترتيبات السلطة التي كانت تديرها وترعاها مع قوى المعارضة السورية. رابعاً: الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015، والذي نظرت إليه السعودية على أنه خديعة وخيبة أمل؛ أولاً لإخفاء سرّ المفاوضات في سلطنة عُمان على مدى سنتَين، وثانياً لعدم إطلاع المملكة على تفاصيل الاتفاق قبل الإعلان عنه. خامساً: الضربة العسكرية المحدودة على سوريا في عهد دونالد ترامب في 14 نيسان 2018، فيما كان الرهان السعودي على حرب شاملة تطيح النظام السوري. قبل يوم من انعقاد القمّة العربية في مدينة الظهران السعودية، أي في 14 نيسان 2018، كتبت صحيفة «الرياض» المقرّبة من الملك سلمان: «قمّة الظهران... سلام مع إسرائيل ومواجهة مع إيران، ولكن ردّة فعل سلمان على الخيبة من تلك الضربة تمثّلت في إطلاقه تسمية «قمّة القدس» على المؤتمر، بدلاً من «قمّة السلام» مع الكيان الصهيوني، كما كان مقرّراً. سادساً: على الرغم من أن قرار إعلان الحرب على اليمن جاء من واشنطن، إلّا أن السعودية أصيبت بخيبة أمل كبيرة من حليفتها، بالنظر إلى أنها كانت تعوّل على مشاركة أميركية ميدانية لحسم الحرب، وتالياً تزويدها بصواريخ نوعية لمواجهة الصواريخ والمسيّرات اليمنية، وهو ما لم يحصل. سابعاً: الحملة الإعلامية والسياسية الكونية على ولي العهد، محمد بن سلمان، على خلفية ضلوعه في مقتل الصحافي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في تشرين الثاني 2018، وعزلة السعودية دولياً، ووصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، ابن سلمان بـ«المنبوذ»، والذي جاء ليكمّل تصريحات الإذلال المطلَقة على لسان سلفه ترامب عن مصير العرش السعودي من دون الحماية الأميركية. ثامناً: القصف الصاروخي لمنشآت نفطية في بقيق وخريص في 16 أيلول 2019، والذي أشعر السعودية حينها بأن الولايات المتحدة حليف لا يمكن الركون إليه. تاسعاً: فشل مخطّط تخريب إيران من الداخل، والخوف من ردّ الفعل الإيراني مع تصدّع في المحور «الناتوي» على وقع الحرب الأوكرانية، وتزايد الانقسام العمودي والأفقي في الداخل الإسرائيلي.

كلّ تلك الخيبات دفعت القيادة السعودية إلى قراءة دقيقة للمرحلة الراهنة وللتحوّلات المترافقة معها إقليمياً ودولياً، وأيضاً لواقع تحالفاتها، واحتساب الأرباح والخسائر بميزان جديد وبعقل براغماتي، لتجنّب التداعيات الكارثية على سياسات دخلت فيها المملكة على أمل الربح مجتمعةً مع الولايات المتحدة وإسرائيل وعدد من الدول الإقليمية (البحرين والإمارات والأردن ومصر) والدولية (بريطانيا وفرنسا)، وتخشى الخروج منها في مرحلة الخسارة منفردة، فكان التوجّه شرقاً (نحو الصين) ابتداءً، والمساكنة تالياً مع الخصم لتقليل الخسائر وجني أرباح مأمولة في مرحلة لاحقة.

عالم التحوّلات

ركون واشنطن إلى قوة عسكرية جبّارة قادرة على فرض معادلات خالدة، فقد مفعوله الميداني بل والسياسي والإعلامي. كما أن سلطة رمزية تدير العالم بـ«الريموت كونترول» تتآكل على نحو غير قابل للضبط. والأشدّ وقعاً على الحلفاء هو انهيار الثقة في الولايات المتحدة، كما ظهر في تحوّل الصين إلى قِبلة للأوروبيين وعلى رأسهم المستشار الألماني، أولاف شولتز، الذي زارها في تشرين الثاني 2022، مبدياً رغبته في تعاون عملاق الاقتصاد الأوروبي مع عملاق اقتصاد الشرق، ومن ثمّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي أقرّ من بكين في نيسان الماضي بدور صيني في الأزمة الأوكرانية، ورفض فكرة دخول أوروبا في منطق الكتل في إشارة إلى الولايات المتحدة والصين. باختصار، ما قاله ماكرون عن ضرورة البحث أوروبياً عن مصدر للحماية من دون واشنطن، إشارة أوّلية إلى لحظة أفول القوّة الإمبريالية الأميركية. العالم يتغيّر، والولايات المتحدة تفقد زخمها بعد نصف قرن من الريادة الكونية، فيما أقطاب جُدُد يستعدّون لشغل مقاعد قيادية في النظام العالمي طور التشكّل، وتكتّلات إقليمية هامشية مِن مِثل «بريكس» للتجارة والأمن و«شنغهاي للتعاون» تزحف نحو المركز تأهّباً للعب دور البديل القادم من المنبوذ القائم.

لناحية الشراكة الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة طيلة نصف قرن، والقائمة على النفط مقابل الحماية، فإن مكوّنَي الشراكة تبدّلا؛ فلا واشنطن تعتمد على النفط السعودي (أقلّ من نصف مليون برميل يومياً) في تأمين حاجاتها بعد أن يمّمت وجهها صوب كندا (4 ملايين برميل يومياً) والمكسيك (نصف مليون برميل) والعراق ودول لاتينية، إلى جانب إنتاجها المحلّي الذي جعل منها أكبر منتج للنفط في العالم بواقع 13 مليون برميل يومياً، ولا الرياض تعوّل على حماية أميركية ثبت في ضوء تجارب عديدة أنها لفظية فحسب. وعليه، فإن هذه الشراكة لم تَعُد قائمة بالمعنى العسكري والدفاعي، فيما ثمّة شراكات اقتصادية - تجارية ومالية - وإدارية وثقافية وحتى أمنيّة بين الدولتَين لا تزال موجودة، وهي تعود إلى البنية التأسيسية للدولة السعودية. فخلال نصف قرن، ساهمت الولايات المتحدة في إرساء شبكة مؤسّساتية وبيروقراطية للمملكة السعودية الناشئة، بدأت من الأمن والدفاع، مروراً بالنظام الاقتصادي والمالي وبالنفط وتدوير المداخيل (البترودولار)، وصولاً إلى السياسة الخارجية وشبكة التحالفات الإقليمية والدولية المصمّمة على ضوء صراع الأقطاب والمحاور.
الآن، كلّ التطمينات التي تقدّمها واشنطن لحليفها السعودي هي بمنزلة حقن مخدّرة بصلاحية محدودة أو منتهية في مقابل ذاكرة مثخنة بالخيبات، بينما العالم في حال تحوّل، جلّتها بوضوح زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى روسيا في آذار الماضي، والتي كانت أيقونية بالمعنى الاستراتيجي، لِما حملته من رسائل فاصلة لكلّ مَن يهمّهم الأمر، أصدقاء كانوا أو حلفاء أو أعداء، وشفرتها كانت قول شي ساعة رحيله من موسكو: «إن ثمّة تغييرات لم تحدث منذ 100 عام، وعندما تجتمع روسيا والصين معاً، فإنّهما ستقودان هذه التغييرات». تغييراتٌ سيكون الشرق الأوسط مسرحها الرئيس، ولذا تتّجه كلّ العيون إليه، حيث انطلق الحديث عن بداية أفول القرن الأميركي، وفق ما يتنبّأ به توم أوكونور في مقالته في «نيوزويك» في 3 أيار الجاري. هكذا، يحسم المراقبون الأميركيون والأوروبيون، مسبقاً، النتيجة لمصلحة الشرق الناهض من ركوده والمتحرّر من الإلحاق القسري قروناً أوروبية وعقوداً أميركية، وهم اليوم نعاة لا دعاة، ينعون عالماً ينهار، ولا يدعون إلى عالم في طور التشكّل.

حقبة سعودية ثانية!
بين قمّة الظهران في 15 آذار 2018، وقمة جدّة في 19 نيسان 2023، تكتمل حكاية الانعطاف التاريخي بعنوانه السوري المتوّج عربياً، والانكسار الأميركي بإخراج سعودي. في جدّة، انعقدت مصالحات (مؤقّتة) بعد عقد من الاستنزاف، بدأ في عام 2011 وانتهى عملياً في 2021. تأخير الإعلان عن نهاية الجنون العربي يعود إلى عامل صحّي، عنوانه جائحة «كورونا»، بعد أن استكملت الأزمات كلّ الفرص الممنوحة لها للحسم، وانتهت بخسارة المراهنين عليها من سوريا إلى اليمن وبينهما العراق ولبنان وصولاً إلى إيران. هي قمّة الإنكار بامتياز، فلا أحد يرغب في نبش القبور. ثمّة إجماع سكوتي، بلغة الفقهاء، على طيّ الماضي بكامل حمولته المخزية؛ فلا المنتصر أعلن انتصاره، ولا الخاسر اعترف بهزيمته. كما ثمّة تواطؤ جماعي على تجاوز ما سبق على قاعدة «عفى الله عمّا سلف»، والتحديق في المستقبل من دون المرور على ذكريات الماضي البائس وآلامه. الجميع على علم تامّ بدور كلّ طرف في أزمات الماضي، وحجم الاستثمار فيها، والخواتيم التي وصلت إليها. لكن هذا الماضي ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، فهو موصوم بكلّ ما هو عار. ولذا، هذه القمّة بلا أمجاد، وبلا نوستالجيا... قمة تصفير العداد - وإنْ أفضى إلى اغتيال الوعي -... عدّاد الأزمات السابقة، على أمل ألّا يكرّر تاريخ العار نفسه. وعلى طريقة ابن سلمان في نسجه أحلاماً في إمبراطورية مستحيلة، تتطلّع السعودية إلى «حقبة سعودية ثانية»، بالاتّكال على إمكاناتها المالية الضخمة، ببركة ارتفاع قياسي لأسعار النفط، وهوان عربي غير مسبوق، وغياب قيادة كاريزمية عربية أو حتى تضامن عربي رسمي، ما خلا الشعبي الداعم للمقاومة في فلسطين.
ولكن ثمّة فارق هنا: بدأت الحقبة السعودية الأولى برحيل الزعيم التاريخي، جمال عبد الناصر، في أيلول 1970، والفراغ الكبير الذي تركه في الساحة العربية، وبعد مناجزة طويلة انتصرت فيها الرياض بالنقاط، بالتزامن مع طفرة نفطية توّجتها رائدةً في نادي دول الوفرة في مقابل دول العوز. اليوم، السعودية ليست في موقع المنتصر، ورهانها على قدرتها المالية والرمزية (على ضعفها بعد تخلّيها عن المظلّة الدينية الوهابية)، يمنحها أفضلية نسبية، ربطاً بتشتّت الأفرقاء العرب، والإنهاك الاقتصادي الذي أصاب دول الأزمات وحاجتها إلى «إعادة الإعمار» بما يعطي للمال الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً أهمّية استثنائية في المرحلة المقبلة. في ظلّ هذه الأوضاع، يأتي الانفتاح السعودي على الصين وروسيا، وأخيراً إيران، في سياق تنويع الشراكات، مع التنبيه، هنا، إلى أن الوساطة الصينية بين الرياض وطهران، لم تكن بمبادرة من بكين، وإنّما بطلب سعودي، بعد خمس جولات من التفاوض العقيم في بغداد لإصرار السعودية على تدخّل إيراني في الملفّ اليمني.

اعتاد العالم على السعودية المتوحّشة، المتصالحة مع نفسها في استعمال كلّ أدوات الحرب الصلبة والقاتلة والهمجية (آخر فصولها إعدام ثلاثة شبّان بتهم واهية)، ولكن لم يعتدْ بعد على السعودية الناعمة، بأدواتها الثقافية والفنية والتكنولوجية الأميركية. ثمّة بروفة لهذه الحرب يخوضها ابن سلمان في الداخل، في سياق أمركة المجتمع، وقد نجح نسبياً فيها، وسوف ينقل المعركة إلى دول الخصوم السابقين في مرحلة مقبلة. فالأميركي، وليس الروسي والصيني، هو الفاعل في الحرب السعودية بشقَّيها الصلب والناعم.