د. إبراهيم: السلطات السعودية تستخدم قوتها العنفية ضد أي مكون سكاني ترى فيه مصدراً يُهدد وجودها
لم يكن أقرب المطلعين على الشأن السياسي الاجتماعي في السعودية يتوقعون انبعاث انتفاضة جديدة في محافظة القطيف ذات الأغلبية الشيعية والتي تُعتبر مركز الإقتصاد العالمي، وبالرغم من ذلك فإنها تعيش الحرمان والفقر المذقع مما عكس حالة من عدم الرضا عن سياسات ومواقف السلطات.
في مطلع العام 2011 خرج عشرات الآلاف رافعين شعارات سياسية مطلبية وعلى رأسها الإفراج عن 9 سجناء عرفوا ب”المنسيون” واتهمتهم سلطات الرياض بتفجير مقر المارينز الأمريكي بأبراج الخبر العام 1997 والذين مضى عليهم حتى اليوم ما يقارب 22 عام دون محاكمة. مع الأخذ بعين الإعتبار أن زعيم تنظيم القاعدة تبنى العملية عبر تسجيل اقر فيه مسؤولية تنظيم القاعدة عن التفجير. ومع توفر أدلة وحقائق تؤكد براءة “السجناء المنسيون” إلا أن السلطات لم تستجب لنداءات المتظاهرين ومطالبهم.
وساهمت أحداث الربيع التي شملت كثير من الدول العربية في رفع وتيرة التمرد والاعتراض السياسي.
أبرز تلك الأصوات المنددة بالاستبداد والديكتاورية والظلم وغياب العدالة، كان الشهيد الشيخ النمر رضوان الله تعالى عليه الذي تصدى بكل جرأة وشجاعة لرفض قمع السلطات للشعب ولم يرضخ لكل تهديداتها ووعيدها.
“مرآة الجزيرة” تحاور الدكتور فؤاد إبراهيم في محاولة لتسيط الضوء على دوافع ومستقبل هذه الانتفاضة بعد مرور 6 سنوات عرجت خلالها أرواح الكثير من شبابها شهداء، وتعرض نشطاؤها إلى الاعتقالات والتي رافقها أحكام إعدام حيثُ بلغت ما يقارب 45 حكما على درجات مُختلفة، وأحكام بالسجن لسنوات طوال، وكان أقساها هو تنفيد حكم الإعدام بحق الشهيد آية الله النمر و3 من الشبان.
مرآة الجزيرة: بداية كيف تقيمون أوضاع الطائفة الشيعية في القطيف والأحساء بعد أحداث الربيع العربي؟ وهل كان الامتعاض الشعبي ناجماً عن معاناة داخلية أو مجرد انعكاس لأحداث الثورة والحراك الشيعي في البحرين؟
د. فؤاد إبراهيم: كان الحراك الشعبي في المنطقة الشرقية في فبراير 2011 مرآة أمينة على المكنون الاحتجاجي المتراكم منذ عقود، وهو في الوقت نفسه عاكس لحيوية المجتمع في رد فعله على المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانى منها خلال أكثر من قرنين من الزمن، أي منذ تجربة الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وصولاً الى الدولة السعودية الحالية.
كانت استجابة الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية لخطاب الربيع العربي تلقائياً، وتنسجم مع ثقافتها، وروحها، وتطلّعها نحو دولة القانون والعدالة والمساواة. هذه الاستجابة ليست على سبيل نفي العوامل الداخلية المحرّكة للاحتجاج، بل هي مجرد المقدح الذي أشعل ما كان كامناً، وهذا يظهر في الشعارات التي رُفعت في المسيرات الاحتجاجية، إذ كانت ذات خصوصية محلية، وتتعلق بمطالب مشروعة وداخلية، كما في مطالب المساواة، والعدالة، واطلاق سراح المعتقلين كافة، ومن بينهم “السجناء المنسيون” على خلفية الاتهامات بالضلوع في انفجار الخبر في صيف 1996، إلى جانب أن الحراك الشعبي في هذه المنطقة لم يكن فريداً ولا الأول من نوعه، فقد سبقته انتفاضات، وحتى قبل الربيع العربي كانت هناك مسيرات تنتصر لفلسطين ولقطاع غزّة، فهذه المنطقة كانت على الدوام ميداناً لأشكال شتى من الاحتجاجات الشعبية على خلفية قضايا وطنية أو عربية أو إسلامية.
وحين أصيبت ثورات الربيع العربي بانتكاسات بفعل عوامل داخلية وخارجية لم يكن الحراك الشعبي في المنطقة الشرقية استثناءً، فهو جزء من هذه الدورة التاريخية التي تمرّ بها الشعوب، ويجري عليها ما يجري على الثورات. ولكن لابد من إلفات الانتباه الى حقيقة بدت أقوى رسوخاً برغم من اشتداد آلة القمع وهي أن قناعات الحراكيين بصوابية خيارهم النضالي، وصدقية الشعارات التي رفعوها وضحّوا من أجلها ازدادت رسوخاً، ولم تتزعزع، وإن تراجع مستوى الحضور في الشارع لا يعني تخلّياً ولا تنازلاً عن قضايا مشروعة حملوها مع أراوحهم. إن سقوط الشهداء، واعتقال مئات الناشطين، وملاحقة الحراكيين والتضييق عليهم بتدابير قمعية مثل حرمانهم من الخدمات المدنية قد تُسهم في إبطاء وتيرة الحراك وقد توقفه لبعض الوقت، ولكن بالتأكيد لن تنجح في إخماده، لأن ذلك يتطلب تدبيراً يتجاوز الآلة الأمنية، وهذا ما لا تملكه السلطة السعودية، أي العمل على كيِّ الوعي. فالشعب الذي يملك عقيدة راسخة بمشروعية مطالبه يستحيل إخضاعه.
مرآة الجزيرة: يشكوا الشيعة في القطيف والأحساء من التهميش الوجودي الذي يأخذ عناوين متعددة منها الإقصاء عن المشاركة السياسية والحرمان من التمثيل في المناصب القيادية والإدارية العليا ويرجعوا ذلك ـ بحسب قول قيادات ورموز الشيعة المحليين ـ للتمييز الطائفي الذي يُمارس عليهم من قبل السلطة السعودية التي يرون بأنها تطبق وتنتهج صيغة متطرفة للإسلام الآن بعد أكثر من ست سنوات على بداية الربيع العربي والإحتجاجات التي صاحبته في القطيف والأحساء.. هل كان الحراك الشيعي خطوة في الاتجاه الصحيح لتحسين أوضاع الشيعة السياسيةوالحقوقية؟ وكيف؟
د. فؤاد إبراهيم: من دون أدنى شك، إن الحراك الشعبي في المنطقة الشرقية أفصح عن لائحة المطالب المشروعة التي لطالما وردت في الأدبيات السياسية والعرائض الشعبية المرفوعة الى الحكّام السعوديين على مدى عقود. لم يحد الحراكيون قيد أنملة عن تطلعات الناس سواء في المنطقة الشرقية أو في بقية المناطق لناحية المطالبة بالتوزيع العادل للثروة، والتمثيل المتكافىء للمكونات السكانية كافة، ووضع دستور يكفل الحقوق والحريات، وإقرار مبدأ الانتخاب الحر. كخلاصة، كان الحراك الشعبي في المنطقة الشرقية منبثقاً من معاناة الناس، ومترجماً حاجاتهم الأساسية، ومطالبهم المشروعة، ولم يجنح لا للعنف، ولا للتطييف بل كان سلمياً ووطنياً برغم من الأصوات الناشزة التي كانت تصدر في مناطق أخرى تحرّض على الحرّاك وتشجّع الأجهزة الأمنية على استخدام العنف ضده.
مرآة الجزيرة:ما هي المخرجات الإيجابية والسلبية التي أنتجها الحراك وما هي المعيارية الحقيقية في تقييم النجاح والفشل لهذه التجربة؟
د. فؤاد إبراهيم: أن يحافظ الحراك على زخمه الشعبي لأكثر من ثلاث سنوات وبوتيرة واحدة بالرغم من سقوط الشهداء برصاص قوات الداخلية، وحملات الاعتقال الممنهجة ضد الناشطين، والدعايات المضادة من الإعلام الرسمي وحتى من بعض ذوي القربى، فذلك النجاح بالمعنى المليء للكلمة. فقد كشف الحراك عن منسوب مرتفع من الوعي لدى أبناء الطائفة الشيعية، وبرغم من تفشي اللهجة الطائفية فإن هذا الحراك قدّم نموذجاً فريداً في خطابه الوطني، وفي شعاراته الحضارية والإنسانية، وحتى في تسامحه الديني. وللمرء أن يفخر بمثل هؤلاء الحراكيين الذين أظهروا مستوى متقدّماً من الوعي والانضباط والمسؤولية.
في تقديري، أن تجربة الحراك في المنطقة الشرقية ثريّة الى القدر الذي يمكن احتسابها من المفاصل المهمة في تاريخ الطائفة الشيعية وتاريخ الجزيرة العربية عموماً، إن على مستوى حجم المشاركة، والفئة العمرية للحراكيين، ولمستوى الوعي لديهم، ونوع الشعارات والمطالب المرفوعة خلال سنوات الحراك.
مرآة الجزيرة: يشكوا بعض أبناء المنطقة العيش في أوضاع يصفونها بـ((أزمة أمنية خانقة)) بسبب كما يعبّروا “كثافة النقاط الأمنية وكثرة المداهمات للمنازل والإعتقالات التعسفية والمحاكمات الصورية وأحكام الإعدام وأحكام السجن الطويلة والمنع من السفر، هل توحي هذه الإجراءات باستهداف للوجود الشيعي في المنطقة؟ أم هي إجراءات بحتة هدفها حفظ النظام وحماية صلاحيات ودور السُلطة في المنطقة؟
د. فؤاد إبراهيم: سلسلة التدابير الأمنية التي فرضتها السلطة في المنطقة الشرقية تُبطن هلع آل سعود على المصير. وقد لحظنا ذلك أول مرة في 11 مارس 2011، حين أعلن عن يوم انطلاق الربيع العربي، ففرضت السلطة حظر تجوّل غير مُعلن، فحلّقت الطائرات لمراقبة الأجواء في المدن الكبرى مثل جدة والرياض، وسيّرت العربات المحمّلة بالجنود، إلى جانب توزيع مليون نسخة من فتوى تحريم المظاهرات في المساجد الرئيسية في الرياض ومكة والمدينة وجدّة والدمام والخبر وغيرها.
مفهوم الأمن لدى النظام السعودي يقتصر على أمن السلطة وليس أمن المجتمع، ودليل ذلك واضح في الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين، وإطلاق الرصاص العشوائي في الأحياء السكنيّة وضد الناشطين العزّل.
في المحصلة، لا تتردد السلطات السعودية في استخدام أقصى ما لديها من قوة ضد أي مكوّن سكاني ترى فيه مصدراً يهدد وجودها، وكل مَنْ يطالب بحقوقه تنظر إليه على هذا النحو. في المقابل، إن سياسة الحرمان والقمع الممنهج والتي تجري على نطاق واسع ضد الشيعة، ومكوّنات أخرى في البلاد، تُملي مسؤولية فردية وجماعية للتصدي لسياسة القمع بالوسائل المشروعة، إذ لا نتوقّع حلولاً مجانية من السلطة.
مرآة الجزيرة: في هذه المرحلة ما هي رؤيتك السياسية لخارطة طريق تقلل الخسائر وتحفظ المكاسب أو تضيف مكاسباً للوجود الشيعي في القطيف والأحساء؟
د. فؤاد إبراهيم: لدى الناشطين عموماً فيض من الخيارات لناحية إبقاء جذوة المطالب الشعبية السياسية بدرجة أساسية حاضرة ومتقدة، وإن فشل أو انخفاض فرص نجاح خيار ما لا يعني العزوف المطلق عن الخيارات الأخرى كافة. على سبيل المثال، إن المسيرات الشعبية كانت في فترة ما هي الخيار الأمثل والمتاح للتعبير عن المطالب والمجاهرة بالمظالم، وقد لا يكون هذا الخيار في الوقت الراهن متاحاً أو صائباً لأسباب عديدة من بينها زيادة وتيرة القمع غير المسبوق. ولكن، هناك خيارات أخرى لا تزال صالحة وفاعلة من بينها حفظ الحد الأدنى من التواصل والتواصي في الداخل، وأما في الخارج فمجال العمل مفتوح بالمطلق ويُمكن التأكيد على النشاطات الحقوقية والإعلامية والسياسية.
مرآة الجزيرة:ما هو الخط الفاصل لرفض التعاطي مع السلطة الحاكمة واعتبارها مصدر تهديد للشعب بدل أن تكون مصدر حماية له؟
د. فؤاد إبراهيم: من الناحية الفقهية والإيديولوجية، جرى حسم العلاقة مع السلطة بكونها أمراً واقعاً لابد من التعاطي معه. في التعريف السياسي للدولة بكونها إطاراً لتنظيم العلاقات بين المجتمع والسلطة، وحفظ المصالح ودرء المفاسد، وحماية المجتمع من أشكال التعدي كافة، تصبح السلطة وسيلة حماية للمجتمع وليس تهديداً له. ولكن في حالة المملكة السعودية، فإن السلطة تحوّلت الى مصدر تهديد لأمن الأفراد والجماعات، انطلاقاً من مفهوم خاص ومعلول للدولة بكونها امتيازاً خاصاً بعائلة وليس حقاً عاماً لكل المكوّنات السكانية. وعليه، فإن السلطة تريدها علاقة إخضاعية وليست تعاقدية، وهذا ما يجعل البعض يتصرف من وحي الخوف والقلق في علاقته مع السلطة، حتى وهو يريد تأمين مصالحه، وكلامي عن مَنْ يعتصمون بالسلطة ويرجون من التقارب معها صون أمنهم ومكتسبات محفوفة بتهديد السلطة ذاتها.
مرآة الجزيرة: خلال أقل من سنتين أعدمت السلطة العالم الشهيد آية الله النمر واعتقلت نعيمة المطرود وإسراء الغمغام وخلال الشهر السابق قُدم العديد من المعتقلين بينهم مدافعة حقوق الإنسان نعيمة المطرود والعالم الشيعي آية الله الشيخ حسين الراضي للمحاكمة بتهم لا يعدوا كونها تعبيراً عن الرأي.. ما هي خطورة مواصلة استهداف رجال الدين الشيعة وهل إعدام الشهيد الفقيه آية الله النمر كان إشارة واضحة بعدم الاعتراف بخصوصية الوجود الشيعي واحترام معتقداته وأحقيته في الوجود على هذه الأرض؟
د. فؤاد إبراهيم: لاشك أن إعدام سماحة الشيخ الشهيد النمر كان رسالة متعدّدة الاتجاهات ليس لرجال الدين عموماً فحسب، وليس للناشطين وطلاّب الحرية فحسب، بل لعموم المكوّنات السكانية في كل ارجاء البلاد. أرادت السلطة القول بوضوح أن لا خطوط حمراء تحول دون المساس بما يعتقده آل سعود حقوقاً تاريخية وامتيازات حصرية لهم في الحكم.
من جهة ثانية، إن نبذ الحقوق الأساسية للمواطنين وعلى رأسها حقهم في ممارسة عقيدتهم دون إكراه، واللجوء الى القوة المجرّدة لتعطيل هذه الحقوق ينبىء عن نزعة إقصائية لدى أهل الحكم، تصل إلى حدّ نفي حق الوجود والعيش بكرامة لهذا المكوّن السكّاني. في حقيقة الأمر، أن التجربة التاريخية تؤكّد أن المملكة السعودية لم تقم إلا على أساس نفي الآخر، هوية، وعقيدة، وثقافة، وتاريخاً.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، لجأت السلطة الى كل وسائل القوة الإكراهية من أجل إرغام كل الجماعات والطوائف على الإذعان القهري للدولة التسلّطية. وفي تاريخ الشيعة في المنطقة الشرقية أمثلة لا حصر لها تؤكد نزوع السلطة السعودية نحو إلغاء الوجود المعنوي والتاريخي والثقافي والاجتماعي للشيعة، بدأت بإجبار الشيعة على تجديد إسلامهم أمام شيخ وهابي موفد من عبد العزيز آل سعود، ثم بمحاربة الشعائر الدينية الخاصة بالطائفة الشيعية، وحتى المساجد لم يُسمح للشيعة ببنائها، دَعْ عنك منع الكتاب الشيعي من الطباعة محلياً أو جلبه من الخارج، وكذلك منع إنشاء المدارس الدينية لتدريس المذهب الشيعي، وصولاً الى التمثيل السياسي الذي مازال صفرياً، حيث لا وزير ولا سفير ولا حتى وكيل وزارة، وقائمة طويلة من المناصب البيروقراطية التي لا وجود للشيعة فيها. في المحصّلة، هناك إلغاء شامل لمكوّن سكاني يمثّل في الحد الأدنى ما بين 10 ـ 15 في المائة من إجمالي السكان، وهناك مكوّنات سكانية أخرى تعاني أيضاً من التهميش والإقصاء بنسب متفاوتة.
مرآة الجزيرة: بعد إعدام الشهيد النمر لم تكن هناك ردة فعل داخلية ملموسة على حدث بهذا الحجم رغم أنه أول مجتهد ورمز شيعي يُعدم في “السعودية” ما هو السبب الحقيقي في عدم وجود ردة الفعل الموازية لحجم الحدث، هل يرى الشيعة في الداخل أن قتل الشهيد النمر كان إستحقاقاً؟ أو أن هناك سبب آخر جعل الصمت هو سيد الموقف لرجال الدين والمثقفين والمجتمع القطيفي والأحسائي ككل في موقف عظيم ومهول كهذا؟
د. فؤاد إبراهيم: مهما بلغت الأسباب والذرائع، فإن الفقه الشيعي والإسلامي عموماً حاسم في هذه القضية أن “لا تقيّة في الدماء”، وفي أحد مصاديقها إن التذرّع بالخوف لا مكان له حين يُسفك دمٌ حرام. إن إعدام الشيخ الشهيد النمر كان اختباراً لكل من هو قادر على التمييز بين الحق والباطل، ولا أظن أن قضية بهذا الوضوح في عدالتها تستدعي تردّداً وحيرة وإرباكاً. إن ثمة مروحة واسعة من الخيارات للتعبير عن رفض جريمة إعدام الشيخ النمر، وقد سهّل الله سبحانه وتعالى على كل مَنْ يجد نفسه عاجزاً عن مقارعة الظلم، تارة بالهجرة من الديار والبحث عن مكان آخر تستطيع فيه التعبير بحرية تامة عن ذاتك، كما في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا..) الآية. وفي آية أخرى بليغة يقول تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
وهناك وسائل أخرى للتعبير عن رفض الجريمة أدناها اللسان والقلم.
أما تبرير الجريمة، فذاك ينقلنا الى موقع آخر وجدل عقيم، إذ إن مواقف الشيخ الشهيد معلنة ومنشورة، وكذلك محاضراته، وأبحاثه، وحتى مرافعته ومن أراد الحقيقة لا يبحث عن المتشابه والملتبس معنى، فهناك حقائق ناصعة وثابتة في مسيرة الشيخ الشهيد هي معالم الطريق بالنسبة لنا جميعاً، ولمن يطلب الحقيقة.
في الخلاصة، إن جريمة إعدام الشيخ النمر سوف تبقى شاهداً على ظلم أهل الحكم وإجرامهم، وعلى كل من صمت على الجريمة قريباً أم بعيداً. لا يزال باب المراجعة مفتوحاً، ولأولئك الذين لم يتبيّنوا عدالة قضية الشيخ الشهيد وإجرام النظام السعودي ماضياً وحاضراً لا تزال الفرصة سانحة للتعرّف عن قرب على تفاصيل هذه القضية العادلة التي لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الناشطين والحراكيين في المنطقة عموماً.
مرآة الجزيرة:ما هو الخيار الشيعي في الداخل لنصرة الفقيه الراضي حتى لا يلقى مصيراً شبيهاً بمصير الفقيه الشهيد النمر؟ سواء بالتصفية الجسدية أو الإبقاء عليه في السجن لسنين طوال حتى يوافيه الأجل؟
د. فؤاد إبراهيم: في تقديري، إن قضية سماحة الشيخ حسين الراضي هي صنو قضية الشيخ الشهيد النمر، لأنها بالنسبة لنا تمثّل نموذج رجل الدين العامل بعلمه، والمضطلع بمسؤولية مجتمعه، والمتصدّي لهموم أمته. ولذلك، فإن من فاته الانتصار للشيخ الشهيد النمر، فإن الشيخ الراضي الذي يسير على الدرب ذاته يمثل اختباراً آخر، وفرصة أخرى، لأن الشيخ الراضي يعتنق القيم العليا ذاتها، ويدافع عن المبادىء والمطالب المشروعة ذاتها التي دافع عنها الشيخ الشهيد النمر. وبالنسبة لنا، فإن رجال الدين العاملين أمثال الشيخ الشهيد النمر وسماحة الشيخ حسين الراضي، وسماحة الشيخ توفيق العامر، وسماحة الشيخ محمد حسن الحبيب، وسماحة الشيخ حبيب الخبّار وبقية المشايخ الكرام الذين يقبعون في سجون آل سعود بسبب مجاهرتهم بالحق والدفاع عن قضايا مشروعة لأبناء شعبهم، هم نماذج مطلوبة وقدوات في مجتمعنا، وإن حيوية هذا المجتمع تكمن في وجود ثلة من رجال الدين العاملين المتصدّين لشؤون الناس وهمومهم.
ومسؤوليتنا جميعاً تتمثل في الدفاع عن هؤلاء بكل الوسائل المشروعة، في الداخل والخارج، ولابد من إيصال ظلامتهم الى كل أصقاع العالم، ورفع الصوت عالياً كي يسمح كل من يغطي جرائم النظام السعودي بأنهم شركاء في كل ما يصيب هذا الشعب من ويلات تطاول حقوقه وحريته وكرامته التي تنتهك بفعل التواطؤ الغربي والأميركي والأوربي مع هذا النظام الفاسد والمستبد.
مرآة الجزيرة:كيف ترى مستوى ردة الفعل على استهداف العنصر النسوي بتهم سياسية وكيف هي رؤية الشيعة والقيادات الشيعية الدينية والاجتماعية في المنطقة لمكانة وخصوصية المرأة وهل قاموا بدورهم في محاولة حلحلة ملف نعيمة المطرود وإسراء الغمغام وإنقاذهم من الإنتهاك الصارخ لحقوقهما باحتجازهما تعسفياً من قبل جهاز المباحث؟
د. فؤاد إبراهيم: في المبدأ، يُعد اعتقال النساء أمراً مستنكراً ومرفوضاً في المطلق، ولا سيما في مجتمعات محافظة تُقدّر حرمة المرأة وصونها من أي تعدّي، فكيف إذا تمّ حرمانها من ممارسة حياتها الطبيعة والعائلية. إن استهداف العنصر النسوي على خلفية سياسية يُعد تصعيداً وانتهاكاً لمحظور اجتماعي وديني، وإن السكوت عنه يشجّع السلطات على اقتراف المزيد من الانتهاكات التي لن تستثني أحداً أو حرمة.
قضية إسراء الغمغام ونعيمة المطرود تندرج في سياق حقوقي، ولا صلة له لا بالأمن ولا بالإرهاب. ما يقصر أهل الحكم السعودي عن فهمه هو أن ثمة حقوقاً أساسية للمواطنين سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية يعبّرون عنها بطرق مشروعة، ولا يجوز الحؤول دون ذلك بأي شكل من أشكال الإرغام والقوة. وبالنسبة لملف حقوق المرأة، الذي تحوّل عن عمد الى تابو يحظر الإقتراب منه أو فتحه، فإن النظام السعودي يناقض نفسه حين يزعم بأنه يفسح في المجال أمام المرأة للمشاركة في الشؤون العامة، فيما يقوم باعتقال كل صوت نسوي يطالب بحقوق المرأة على وجه الخصوص والمجتمع عموماً.
يصدر البعض في مجتمعنا عن رؤية مأزومة تقوم على تصنيف الناشطات على جهة ما أو تيار ما لتبرير التقاعس عن الدفاع عنهن. وهناك مَنْ يرى السلامة في الصمت، في نكوص واضح لوعي تشكّل في فترة تاريخية على أساس نبذ الركون إلى الأرض، وحرمة التقارب مع السلطة الجائرة، حتى بات البعض يُنتج مبررات العزوف عن الانخراط في قضايا المجتمع ويُحيل تلك المبررات إلى ثقافة وفلسفة في الخنوع. وعليه، بتنا أمام صور جديدة من التنصّل من المسؤولية ولكن بذات الدعاوى القديمة: التهوّر، سوء أو عدم تقدير المصلحة، الجهل بالواقع ومتطلبات المرحلة.
الغمغام والمطرود من النساء الكريمات في هذا المجتمع وإن الدفاع عنهما واجب ديني وإخلاقي وإنساني، وإن اللامبالاة إزاء هذه القضية تعكس لا مبالاة إزاء قضايا كثيرة، ومن لديه أدنى إحساس بالكرامة والمسؤولية لا يغفل عن الدفاع ومناصرة قضية إسراء الغمغام ونعيمة المطرود. وبكل تأكيد فإن بقاءهما في المعتقل هو إدانة للنظام السعودي ولجهاز المباحث الذي لا يمكن النظر إليه إلا بكونه جهازاً قمعياً لا عدل يرجى منه ولا حق.