عن فشل العقد الاجتماعي الجديد في “السعودية”
ليست “السعودية” النموذج الوحيد الذي يعبّر عن حالة بلد يعيش ازدواجية بين مقدراته الاقتصادية من ناحية وبين وضع شعبه المالي وتطوره الصناعي والتكنلوجي وغيره من ناحية ثانية؛ على سبيل المثال يمثّل العراق نموذجا مشابها وتشكّل الدول الافريقية الغنية بالثروات المعدنية أيضا نماذج ناصعة لحالة اغتراب المواطن عن واقع الحال المعيشي والتقدُمي المُفترض نظرا لمقدرات البلد. كما تتشابه الحالات أعلاه في كون الحكام وأصحاب النفوذ في البلد الذين يمثلون نسبة ضئيلة من مجمل الشعب؛ يستحكمون على النسبة الأعلى من مدخرات البلاد. لكن إذا أخذنا العراق مثالا للمقارنة مع “السعودية” نجد الفارق يكمن في المكابرة السياسية لآل سعود على الاعتراف أو حتى على السماح للمراقبين بتقييم الوضع الاقتصادي وانتقاده وتقديم حلول عملية لتحسين ظروف البلاد والشعب. وكان قدوم محمد بن سلمان واعتلائه سدة القرارات المفتاحية في البلاد عاملاً إضافيا في تأزيم الوضع. كان اعتماد ابن سلمان سياسة زجّ أعداد كبيرة من النخب من المفكرين والناقدين وأصحاب وجهات النظر المعارضة خلف القضبان وحتى أصحاب النفوذ الذين كانوا يتشاركون الأملاك مع آل سعود؛ هو المؤشر لنهج سعودي أكثر تسلّطا لناحية فرض خيارات “الدولة” وفق ما تراه مناسبا لرؤيتها الخاصة بها. ليس فقط زج أصحاب الفكر في السجون هو العامل الوحيد الذي أنبأ بنوايا تفرّد رأس السلطة وحده بالسياسات الاقتصادية للبلد؛ ففقاعة “رؤية ٢٠٣٠” كانت وحدها كفيلة بالتنبؤ بذلك أيضا. وفق تحليلات عديدة أثبتت أن “الدولة” اتخذت من جيوب الشعب مصدر تمويل لمشاريعها سواء بشكل مباشر كزيادة الضرائب، مثلما حصل حينما رفعت ضريبة القيمة المضافة بنسبة ١٥% على جميع السلع في البلاد، وأوقفت بدل غلاء المعيشة على الموظفين الحكوميين، إلى جانب رفع فواتير الكهرباء والماء دون أي تعديل بالمعاشات الأمر الذي أدخل أعداد كبيرة من العائلات من أصحاب الطبقة المتوسطة إلى طبقة دون المتوسطة. الإجرام الأكبر الذي مورِس بحق الشعب هو أن أموالهم التي هي من حقهم أولا سواء عبر وجوب استخدامها من قِبل الدولة لإنشاء مصانع ومعامل لتشغيل أعداد أكبر من اليد العاملة وتحسين الخدمات وتطويرها؛ كانت في المقابل تُصرف في استثمارات بلا أصول. تمثّلت الاستثمارات بلا أصول على شاكلة عقد شراكات مع شخصيات رياضية وغيره مقابل مليارات الدولارات وخدمة لصورة مُلمّعة عن “الأمير الشاب”، أي الاستثمار بالعدم. وسبق أن نُشر تحليل لخبير اقتصادي في صندوق النقد الدولي سلط فيه الضوء على “وهم النمو” الذي يعيشه صندوق النقد الدولي، حيث أشار إلى أن نمو النصدوق كان على جساب انخفاض أصول في بعض مؤسسات القطاع العام السعودي وهو الأمر الذي يمثل مخاطر كبيرة على اقتصاد البلاد إذا لك يتمكن الصندوق من تحقيق عوائد من الأصول التي استحوذ عليها، وهو ما حصل بالفعل نتيجة أن جزءا كبيرا من استثماراته كانت كما سلف وذكرنا “استثمار في العدم”. إلى ذلك اعتبر التقرير الذي أعدّه تيم كالين أن الأمر الأكثر أهمية؛ أن حوالي 15% من أصول الصندوق غير مفسرة في تقارير الإفصاح، ومن المحتمل أن تكون ناتجة عن عدم كشف الحكومة عن بعض عمليات نقل أصول الدولة للصندوق. ما عقّد الأمور أكثر هو تغييب أي جهات تعمل على الأرض تتابع منافع ومردود المشاريع والصفقات التي ينفذها ويعِد بها رأس الحكم وإلى أي مدى تمثّل حاجة للمجتمع. فكيف لدولة تقع ضمن مسؤولياتها مراقبة سوق العمل وتنفيذ إجراءات وفقا لمتغيراته، أن لا يصدر تقارير مالية تظهر واقعا نسب البطالة بين أبناء البلد. ففي حين تزعم التقارير الرسمية عن نسب بطالة لا تتجاوز الـ7% هناك إحصاءات غير رسمية تشير إلى ارتفاعها لما فوق الـ35%. إلا أن الأمر لا يجري دائما على هذا المنوال؛ فالمساهمات الاقتصادية للسعودية في شركات أميركية يُفتضح أمرها من الخارج. كاستثماراتها الخاسرة في شركة السيارات الكهربائية لوسيد. التي ذكر موقع بيزنس انسايدر أن صندوق الاستثمارات السعودي إلتزم بـ 1.5 مليار دولار لشركة السيارات الكهربائية لوسيد التي تمر بـ”فترة صعب. كما التزم بـ 750 مليون دولار في الأعمال “المتعثرة” كـ”شريان حياة” لشركة ماجيك ليب منذ بداية 2024. ورغم فرصة النجاة الجديدة التي يوفرها “السعوديون” مرارا للوسيد المتعثرة؛ إلا أن هذه الأخيرة تتساهل إلى متى ستصمد “السعودية” في انتشال الشركة. وفيما يبدو أن الصندوق ينوي تصدير صورة له عالميا لكسب الثقة؛ إلا أن المراقبين يحذّرون من مغبّة المخاطرة أكثر في عالم تكنولوجي متبدّل على الدوام. وقد أظهرت بيانات نشرتها الشهر الماضيGlobalSWF وهي منصة تتبع نشاط صناديق الثروة السيادية، أن أكثر من نصف مبلغ 96 مليار دولار الذي استثمرته الصناديق المدعومة من الدولة على مستوى العالم في الأشهر الستة الأولى من عام 2024 جاء من صناديق الشرق الأوسط، وعلى رأيهم صندوق الاستثمارات السعودي. شركة لوسيد ليست الوحيدة التي لا تزال تتنفس على الأوكسجين السعودي؛ بل هو حال معظم الرياضات الإلكترونية التي تشهد تراجع كبيرا في الممولين نتيجة تراجع الاهتمام العالمي بها خصص عشرات مليارات الدولارات مستغلا شحّ اهتمام العلامات التجارية الكبرى به. فكان أن قام محمد بن سلمان في خضمّ التجاهل الدولي لهذه الرياضات نظرا للمردودها المادي غير المتكافئ مع المال الذي يُستثمر بها، بالإعلان عن إطلاق بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية زاعما أنها ستخدم رؤيته في تنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط. وغير ذلك تبدو شركات هذه الرياضات غير ممتنة للسعودية صاحبة السجل الأسود بهذا التمويل وتعلن عن تخوّفها من أن تسيطر “السعودية” منفردة على منافذ رزقهم. مخاوف المؤسسات التكنلوجية من الخوض في غمار الشراكة مع أموال “السعودية” التي توقعها على بياض دون احتساب للمردود؛ لا تقف عند حد التخوف الشفوي بل أحيانا تترجم على الأرض، كمثال حين قامت شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة “أنثروبتيك”، التي تستثمر فيها أمازون 4 مليارات دولار باستبعاد صندوق الاستثمارات العامة السعودي عن المنافسة على شراء حصة فيها التي عرضتها أمام المستثمرين وصناديق الثروة السيادية، بقيمة مليار دولار. إلى ذلك؛ كشفت إحدى الشركات المتعاقدة مع مشروع منتجع التزلّج الجبلي في نيوم عن الخسارات التي تكبددتها نتيجة الظروف الأرضية الصعبة وأنها تبعا لهذه الظروف المعقدة تعيد النظر في تعاقدها مع المشروع. واصفة أدائها في مشروع نيوم بالمخيب للآمال، حيث أنها تكبدت خسائر أيضا نتيجة التقليص الذي شهده “ذا لاين”. لمتابعتنا على وسائل التواصل الاجتماعي