أحد كبار علماء الوهابية يفتي: مكة بلد كفر وأهلها كفار!
في الثمانينيات من القرن الماضي، وفي قصر الملك فهد بجدة وبحضوره، في مجلس ضمّ المرحوم السيد محمد علوي المالكي وجمع من النخبة الدينية والسياسية النجدية، قام أحد مشايخ الوهابيين ممتدحاً الملك قائلاً بأن أباه (عبدالعزيز) قد (فتح مكة) و(طهّرها) من الأصنام والأوثان ومن الشرك والكفر.. فانتفض السيد المالكي وقام خاطباً ضد ذلك الشيخ الوهابي، ومؤكداً بأن مكة بلد الإسلام طاهرة من الأصنام ومن الشرك منذ أن فتحها وطهرها محمد صلى الله عليه وسلم؛ وحينها خشي الملك من تداعي الصدام والخصام، فقام وفرّق المجلس بحجّة الصلاة التي لم يكن موعدها قد حان بعد!
الفوزان: الوهابيون وحدهم أهل السنة والجماعة
الوهابيون ـ كما هو معروف ـ يكفرون كل المسلمين، ولا يعتبرون بلاد المسلمين داراً للإسلام عدا دارهم هم (نجد) ويشمل ذاك البقاع المقدسة مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، حيث يرونها بلاد كفر وشرك وزندقة لا تجوز الإقامة فيها إلا إذا كانت تحت ولايتهم. إضافة الى أنهم ـ وكما هو معروف أيضاً ـ لا يرون غيرهم مسلماً. لكن البقاع التي تصير تحت سيطرتهم بعد غزوها وتكون لهم السيادة عليها تصبح جزءً من بلاد الإسلام، أما قاطنو تلك الديار فيبقون كفاراً ـ تحت الإحتلال والوصاية السعودية/ الوهابية ـ كما هو الحال اليوم بالنسبة لمناطق المملكة في الغرب والشرق والجنوب.
قيل ان الوهابيين قد خففوا غلواءهم، وقبلوا على مضض الإعتراف بأهل السنّة على أنهم مسلمون. لكن مصطلح (أهل السنة والجماعة) لا ينطبق إلا على الوهابيين بحسب فتاوى مشايخهم، وبينهم الشيخ العثيمين وكذلك سفر الحوالي والشيخ صالح الفوزان وغيرهم. لكن القناعة المتأصّلة في التراث الوهابي، والتي لم يجرِ تغيير عليها ترى بأن غير الوهابيين ليسوا مسلمين صادقين، وإن جرى إلحاقهم ـ قسراً ـ بالإسلام، لغايات رآها ولي الأمر، ورأى فيها المشايخ الوهابيون لهم مصلحة.
هذا ما يعبرون عنه في كتبهم وفي مجالسهم الخاصة. وهناك خشية حقيقية أن يؤدي عدم اعتراف الوهابيين بإسلام الآخرين الى إخراجهم هم عن دائرة الإسلام كما حدث في الماضي، او عن دائرة أهل السنّة، فالمسلمون بأكثريتهم أقدر على نبذ الوهابيين من نبذ الأخيرين لهم. ولهذا كان (اعتراف الوهابيين) بإسلام غيرهم قد جاء على مضض ولمصلحة ارتأيت، وليس بالضرورة عن قناعة. ولذلك ترى أنهم وتحت اليافطة العامة (الجميع مسلمون) يبدأون بتكفير كل قسم على حدة، فالصوفية كفار، ومن يفعل كذا كافر، ومن يقول كذا كافر، بحيث لا يبقى في المحصلة النهائية غيرهم، والحجة الجاهزة: نحن لا نكفر إلا من كفّره الله ورسوله!
وقد تنبّه الشيخ ابن باز الى إمكانية فصل الوهابية عن المذاهب الإسلامية السنيّة، واعتبارها مذهباً قائماً بذاته، وهذا يعوّق انتشار الدعوة الوهابية ويحصرها في محيطها النجدي.. ولذلك نراه شديد اللهجة ضد من يريد فصل الوهابية عن المذاهب السنيّة (يمكن في هذا الصدد مراجعة موقع ابن باز على الإنترنت).
فيما يتعلق بفتاوى الوهابية بشأن اعتبار مكة بلاد كفر، وأهلها كفار، هناك جواب لأحد كبار علماء الوهابية السابقين وهو الشيخ حمد بن عتيق، قيل أنها كانت جواباً لمن ناظره في حكم كفر أهل مكة وما يقال في كفر مكة نفسها. وحسب الكتاب الذي طبعه الملك عبدالعزيز على نفقته الخاصة والذي حمل عنوان: ()، فإن الشيخ حمد بن عتيق، يرى مكة بلاد كفر، وأهلها كفار، وقد قال ذلك بضرس قاطع، لأنه يمارس في مكة البدع والشرك، ولأن المكيين لم يمنعوا ذلك؛ والأهم أنهم (معادين أهل التوحيد) أي معادين لوهابية نجد، فحق عليهم وصف أنهم يريدون إزالة الدين وتخريب بلاد الإسلام! فضلاً عن أنهم ـ أي أهل مكة ـ لم يقبلوا بالوهابية (الدين الصحيح) (فكيف لا يحكم عليهم بالكفر؟!). زد على ذلك أن المكيين كفار مرتدون، بحسب مشايخ الوهابية ـ لأنه حصلت منهم (موالاة أهل الشرك والإنقياد لهم) ويقصد بذلك الحكومة العثمانية. لهذا كله، فإن كفر أهل مكة أعظم من كفر الجاهليين في عهد الرسالة الأول، ولا يجب على الوهابيين أن يغتروا بصلاة وحج وصوم وتصدق أهل مكة فموقفهم من الوهابية يكفي للحكم عليهم بالكفر والردة.
جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر أم بلد إسلام، فنقول وبالله التوفيق:
قد بعث الله محمدا (صلى الله عليه وسلم) بالتوحيد الذي هو دين جميع الرسل، وحقيقته هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وهو أن يكون الله معبود الخلائق، فلا يتعبدون لغيره بنوع من أنواع العبادة، ومخ العبادة هو الدعاء ومنها الخوف والرجاء والتوكل والإنابة والذبح والصلاة وأنواع العبادة كثيرة، وهذا الأصل العظيم الذي هو شرط في صحة كل عمل.
(والأصل الثاني) هو طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، وتحكيمه في دقيق الأمور وجليلها، وتعظيم شرعه ودينه والإذعان لأحكامه في أصول الدين وفروعه. (فالأول) ينافي الشرك ولا يصح مع وجوده؛ (والثاني) ينافي البدع ولا يستقيم مع حدوثها، فإذا تحقق وجود هذين الأصلين علماً وعملاً ودعوة وكان هذا دين أهل البلد ـ أيّ بلد ـ كان بأن عملوا به ودعوا إليه وكانوا أولياء لمن دان به ومعادين لمن خالفه، فهم موحدون.
وأما إذا كان الشرك فاشياً مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم ودعاء الأنبياء والصالحين، وإفشاء توابع الشرك مثل الزنا والربا وأنواع الظلم ونبذ السنن وراء الظهر وفشو البدع والضلالات، وصار التحاكم الى الأئمة الظلمة ونواب المشركين، وصارت الدعوة الى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلوماً في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم أن هذه البلاد محكوم عليها بأنها بلاد كفر وشرك، لا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد وساعين في إزالة دينهم وفي تخريب بلاد الإسلام.
وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك، وجدت القرآن كله فيه، وقد أجمع عليه العلماء فهو معلوم الضرورة عند كل عالم.
وأما قول القائل ما ذكرتم من الشرك إنما هو من الأفاقية لا من أهل البلد، فيقال له أولا هذا مكابرة، وأما عدم علم بالواقع فمن المتقرر أن أهل الآفاق تبع لأهل تلك البلاد في دعاء الكعبة والمقام والحطيم كما يسمعه كل سامع ويعرفه كل موحد.
ويقال ثانياً إذا تقرر وصار هذا معلوماً فذاك كاف في المسئلة، ومن الذي فرق في ذلك وياللعجب اذا كنتم تخفون توحيدكم في بلادهم، ولا تقدرون أن تصرحوا بدينكم، وتخافتون بصلاتكم، لأنكم علمتم عداواتهم لهذا الدين وبغضهم لمن دان به، فكيف يقع لعاقل إشكال؛ أرأيتم لو قال رجل منكم لمن يدعو الكعبة أو المقام أو الحطيم ويدعو الرسول والصحابة: يا هذا لا تدعو غير الله، أو أنت مشرك هل تراهم يسامحونه أم يكيدونه؟ فليعلم المجادل أنه ليس على توحيد الله، فوالله ما عرف التوحيد ولا تحقق بدين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أرأيت رجلاً عندهم قائلاً لهؤلاء راجعوا دينكم، أو اهدموا البناآت التي على القبور، ولا يحل لكم دعاء غير الله، هل ترى يكفيهم فيه فعل قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم، لا والله لا والله.
وإذا كانت الدار دار إسلام، لأي شيء لم تدعوهم الى الإسلام، وتأمروهم بهدم القباب واجتناب الشرك وتوابعه، فإن يكن قد غركم أنهم يصلون أو يحجون أو يصومون ويتصدقون، فتأملوا الأمر من أوله وهو أن التوحيد قد تقرر في مكة بدعوة اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما السلام، ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان، ثم انه فشا فيهم الشرك بسبب عمرو بن لحي وصاروا مشركين، وصارت البلاد بلاد شرك، مع أنه قد بقي معهم أشياء من الدين، وكما كانوا يحجون ويتصدقون على الحاج وغير الحاج.
وقد بلغكم شعر عبد المطلب الذي أخلص فيه في قصة الفيل وغير ذلك من البقايا، ولم يمنع الزمان ذلك من تكفيرهم وعداوتهم، بل الظاهر عندنا وعند غيرنا أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان، بل قبل هذا كله أنه مكث أهل الأرض بعد آدم عشرة قرون على التوحيد حتى حدث فيهم الغلو في الصالحين فدعوهم مع الله فكفروا فبعث الله اليهم نوحاً عليه السلام يدعو الى التوحيد. فتأمل ما قص الله عنهم، وكذا ما ذكر الله عن هود عليه السلام انه دعاهم الى اخلاص العبادة لله لأنهم لم ينازعوه في أصل العبادة، وكذلك ابراهيم دعا قومه الى اخلاص التوحيد وإلا فقد أقروا لله بالآلهية، وجماع الأمر أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك واستمر أهله عليه وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد وأبوا عن الإنقياد للدين فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر وأنهم منهم بريئون مع مسبتهم لهم وتخطئتهم لمن دان به والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف اذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة فهذه مسئلة عامة كلية. وأما القضايا الجزئية، فنقول قد دل القرآن والسنة على أن المسلم اذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والإنقياد لهم ارتد بذلك عن دينه. فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} مع قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}؛ وأمعن النظر في قوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}. وأدلة هذا كثيرة ولا تنسوا ما ذكر الله في سورة التوبة: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}؛ وقوله: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} وكذلك قوله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}. وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} في موضعين، وقد علمت حالهم إذا دعوا الى التوحيد. انتهى والله أعلم.
الحجاز 1/1/2006