“السعودية” وتمويل كارثة إيكوب: وثيقتان أمميتان تفضحان التواطؤ
منذ سنوات يحاول النظام السعودي تسويق نفسه على أنه يقود التحول العالمي نحو التنمية المستدامة، ويحرص على أن يضع في واجهة دعايته شعارات مثل “رؤية 2030″، “الاقتصاد الأخضر”، “الطاقة النظيفة”، و”الحياد الكربوني”. لكن خلف هذه العبارات المنمّقة تتكشف حقائق مختلفة تماماً، تفضحها وثيقتان أمميتان صدرتا في يوليو/تموز 2025. هاتان الوثيقتان، الصادرتان عن مجموعة من المقررين الخاصين وخبراء مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، تكشفان بالأدلة والوقائع أن “السعودية” متورطة في تمويل مشروع خط أنابيب النفط الخام في شرق أفريقيا إلى جانب مشروعي “تيلينغا” و”كينغفيشر”. هاتان الوثيقتان، الموجّهتان من جهة إلى “المؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاصومن جهة أخرى إلى “مجموعة البنك الإسلامي للتنمية” مباشرة، تؤكدان أن التمويل السعودي لم يكن صدفة أو مساهمة عابرة، بل جاء على مستويين: عبر الذراع الاستثمارية التابعة للبنك، وعبر البنك الأم الذي تهيمن عليه الرياض. وبذلك تتحمل السعودية، ممثلة في مؤسساتها المالية الرسمية، مسؤولية مباشرة عن النتائج الكارثية لهذا المشروع النفطي الذي رفضته عشرات المؤسسات المالية العالمية. مشروع عابر للحدود ومخاطر كارثية المشروع المعروف باسم EACOP يقوم على مد خط أنابيب بطول 1443 كيلومتراً، يبدأ من حقول النفط في منطقة بحيرة ألبرت بأوغندا ويصل إلى ميناء تانغا في تنزانيا لتصدير النفط الخام. خط بهذا الطول يعبر أراضي زراعية، محميات طبيعية، غابات استوائية، أنهار وبحيرات. والأمم المتحدة، في رسالتها، وثقت بدقة حجم المخاطر البيئية: فالأنبوب سيمر عبر سبعة محميات طبيعية، وسيقطع 295 كيلومتراً من المناطق المحمية رسمياً. كما سيتقاطع مع متنزه شلالات مورشيسون الوطني، الذي يعد أكبر متنزه طبيعي في أوغندا وأكثرها ثراءً بالحياة البرية، ومع نظام دلتا ألبرت الرطبي المصنّف ضمن مواقع “رامسار” ذات الأهمية العالمية. الخط لا يهدد المحميات فقط، بل يمر بمحاذاة بحيرة فيكتوريا، أكبر بحيرة في القارة الأفريقية ومصدر مياه لأكثر من أربعين مليون إنسان. هذه البحيرة ليست مجرد خزان طبيعي للمياه، بل شريان حياة للصيد والزراعة والشرب لملايين السكان في أوغندا وتنزانيا وكينيا. أي تسرب نفطي سيعني تلويثها على نطاق واسع، بما يهدد صحة الناس ويقضي على مصادر رزق كاملة. الأمم المتحدة أكدت أن هذا التهديد ليس افتراضياً، بل محتملاً بدرجة عالية، استناداً إلى تجارب سابقة لمشاريع أنابيب نفطية في أفريقيا وآسيا. بحيرة ألبرت نفسها مهددة. هذه البحيرة التي تعتبر سابع أكبر بحيرة في أفريقيا توفر 43 في المئة من إنتاج الأسماك في أوغندا، وتغذي أنظمة النيل والكونغو المائية. التلوث فيها سيعني ضرب اقتصاد الصيد المحلي في الصميم، وحرمان آلاف العائلات من مصدر عيشها الوحيد. كل هذه المخاطر تجعل المشروع متعارضاً تماماً مع التزامات الدول والشركات بموجب اتفاق باريس للمناخ وبموجب المواثيق الدولية الخاصة بالبيئة وحقوق الإنسان. تهجير جماعي وانتهاكات اجتماعية لم تقتصر الأضرار على البيئة. الوثيقتان الأمميتان توضحان أن المشروع المُمَوَّل سعوديّاً تسبب بتهجير أكثر من 14 ألف أسرة حتى لحظة كتابة الرسالتين. هذه الأسر أجبرت على ترك أراضيها الزراعية، وغالباً لم تحصل على أي تعويض عادل. بعض العائلات تلقت مبالغ زهيدة لا تكفي حتى لبناء منزل بديل، بينما لم يحصل آخرون على شيء على الإطلاق. هذا التهجير ضرب قلب المجتمعات الريفية. المزارعون فقدوا حقولهم، والصيادون خسروا وصولهم إلى البحيرات والأنهار، ما أدى إلى تدهور الأمن الغذائي وارتفاع نسب البطالة. النساء، اللواتي كنّ العمود الفقري للزراعة المحلية، وجدن أنفسهن فجأة بلا أرض ولا مصدر دخل. كما أن المشروع لم يكتفِ بتهجير الناس من أراضيهم، بل دمّر مواقع ذات قيمة ثقافية وروحية. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى تدمير أضرحة مقدسة ومواقع دفن تقليدية في كل من أوغندا وتنزانيا. بذلك يخسر السكان ليس فقط منازلهم وحقولهم، بل أيضاً تراثهم الثقافي وذاكرتهم التاريخية. هذه الانتهاكات تمثل ضرباً للحق في الثقافة، وهو حق أساسي لا يقل أهمية عن الحق في الغذاء أو السكن. الرسالتان تتحدثان أيضاً عن انعكاسات صحية كارثية. فالتلوث الناتج عن أعمال الحفر والنقل سيؤدي إلى انتشار أمراض تنفسية بسبب الغبار والغازات السامة. كما أن تسرب النفط أو المنتجات الثانوية قد يؤدي إلى تفشي أمراض منقولة بالمياه مثل الكوليرا والتيفوئيد، إضافة إلى زيادة حالات السل. النساء الحوامل والأطفال هم الأكثر عرضة للخطر. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مئة ألف شخص قد يجدون أنفسهم بلا مأوى، وهو ما سيزيد من معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي والتسرب المدرسي. تمويل سعودي رغم الرفض الدولي أمام هذه الصورة القاتمة، كان من الطبيعي أن تنسحب المؤسسات المالية الكبرى من المشروع. منذ 2022 أعلنت أكثر من ستين مؤسسة مالية في أوروبا وآسيا وأميركا رفضها تمويل EACOP بسبب مخاطره البيئية والحقوقية. حتى بنوك دولية لها تاريخ في تمويل مشاريع الطاقة التقليدية تراجعت تحت ضغط المجتمع المدني. لكن السعودية اختارت مساراً معاكساً تماماً. في مارس/آذار 2025 أعلنت شركةEACOP أنها نجحت في إغلاق أولى شرائح التمويل، بفضل مساهمة بنكAfreximbank وبنك Stanbic إلى جانب المؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص. هذه المؤسسة هي الذراع الاستثماري للبنك الإسلامي للتنمية، الذي تهيمن عليه الحكومة السعودية من حيث رأس المال والإدارة. وهنا جاء التدخل السعودي حاسماً، لأنه أنقذ المشروع من التعثر في لحظة كان فيها على وشك الانهيار. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. الأمم المتحدة وجهت رسالة ثانية إلى مجموعة البنك الإسلامي للتنمية مباشرة، موقعة من نفس مجموعة المقررين، تطالب فيها بتوضيح سياسات البنك في ما يتعلق بالاستثمارات والالتزام بحقوق الإنسان. هذه الرسالة تكشف أن التورط السعودي لم يكن عبر ذراع جانبية فحسب، بل عبر المجموعة الأم بكاملها، ما يعني أن القرار سياسي ومؤسسي من الدرجة الأولى. الخبراء الأمميون سألوا بشكل مباشر: هل أجرت هذه المؤسسات السعودية تقييماً لمخاطر المشروع على البيئة والمجتمع؟ هل وفرت آليات للتظلم تمكن المتضررين من رفع شكاواهم؟ هل ضمنت مشاركة المجتمعات المحلية في اتخاذ القرار؟ هل ستستخدم نفوذها المالي للضغط على الشركات لاحترام حقوق الإنسان؟ حتى صدور الرسالتين، لم يكن هناك أي رد، ما يعكس سياسة التجاهل المعتادة التي يعتمدها النظام السعودي. قمع الأصوات المعارضة أحد أخطر ما ورد في الوثيقتين هو ما يتعلق بالقمع الذي واجهته المجتمعات المحلية والناشطون الذين حاولوا الاعتراض على المشروع. فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، وثقت منظمات حقوقية وأكاديمية اعتقال عشرات الطلاب والمدافعين عن البيئة. كثيرون تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة، وبعضهم اختفى قسرياً. آخرون أُجبروا على التوقيع على تنازلات عن حقوقهم في الأراضي مقابل الإفراج عنهم أو إسقاط التهم. الأمم المتحدة أشارت إلى أن الاحتجاجات السلمية جرى تفريقها بعنف مفرط، باستخدام الهراوات والغاز المسيل للدموع والاعتقالات الجماعية. بعض المحتجزين حرموا من الاستعانة بمحام، وتم احتجازهم لفترات أطول من المسموح قانونياً. هذا القمع لم يقتصر على الأفراد، بل طال منظمات المجتمع المدني التي حاولت تقديم الدعم القانوني أو توثيق الانتهاكات. في هذا السياق، يصبح تمويل السعودية للمشروع ليس مجرد مساهمة مالية، بل شراكة سياسية في قمع المجتمعات المحلية. فالممول يعرف جيداً أن المشروع يواجه معارضة شعبية واسعة وأن الحكومات المعنية ترد بالقمع، ومع ذلك يختار الاستمرار. الأمم المتحدة أكدت أن الجهات الممولة تتحمل مسؤولية مباشرة عن هذه الانتهاكات، لأنها بدعمها توفر غطاءً للشركات والحكومات لتنفيذ سياساتها القمعية. تناقض الخطاب والممارسة كل ما تكشفه الوثيقتان يضع السعودية أمام فضيحة سياسية وأخلاقية مزدوجة. فمن جهة، هي تخالف شعاراتها عن التنمية المستدامة والتحول الأخضر، إذ تمول مشروعاً يتعارض مع كل معايير البيئة وحقوق الإنسان. ومن جهة أخرى، هي تضع أموال المسلمين عبر مؤسسات تحمل أسماء “إسلامية” في خدمة شركات غربية وصينية تستغل أفريقيا وتدمر بيئتها وتشرد شعوبها. الأمم المتحدة لم تترك مجالاً للالتباس. فهي أكدت أن المشروع يقوض مجموعة واسعة من الحقوق، ويزيد من تفاقم الأزمة الكوكبية الثلاثية: التغير المناخي، فقدان التنوع البيولوجي، والتلوث. ومع ذلك، لم تجد السعودية حرجاً في أن تكون المنقذ الرئيسي للمشروع بعد انسحاب عشرات البنوك العالمية. النتيجة أن النظام السعودي، وهو يتحدث في المحافل الدولية عن “الحياد الكربوني”، ينخرط عملياً في تمويل مشروع يزيد من الانبعاثات الكربونية بملايين الأطنان سنوياً، ويدمر الغابات والمياه، ويقمع المجتمعات التي تعارضه. هذا التناقض يكشف زيف الخطاب الدعائي، ويؤكد أن المصالح السياسية والاقتصادية للنظام تتقدم على أي التزام بالقيم أو بالحقوق.