الأزمة الخليجية والدروس المستقاة لمستقبل النظام الإقليمي

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 678
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

إسطنبول / الأناضول: منذ بدء الأزمة الخليجية في يونيو/حزيران الماضي، بتحريض أمريكي، وقيادة سعودية لأربع دول في المنطقة لفرض حصار على دولة قطر، اتخذت هذه الأزمة أبعادا جديدة، إلا أنها مازالت مستعصية على الحل، وعلينا ألا ننتظر إنفراجة لها في القريب العاجل. فوراء الأزمة مطالب ينتظر تنفيذها، وانعكاسات لا تقتصر على الساحة الإقليمية بل الدولية أيضا.
إن فرض الدول الأربعة عقوباتها على قطر، حتى قبل كتابة لائحة مطالبهم من جهة وعدم تدخل القوى الكبرى بشكل جدي في بدايات الأزمة أواصطفافها بشكل غير مباشر في خندق الدول الأربعة، فاقم الوضع أكثر.
أعدت حول الأزمة الخليجية منذ بدايتها إلى الآن، الكثير من التحليلات والدراسات، وغاب عنها، مكاسب وخسائر أطراف الأزمة، والدروس والعبر التي على دول الإقليم أن تعيها، وهذا شيء طبيعي في ظل أزمة مازالت حامية الوطيس، إلا أننا سنقف حول هذه المسألة على خيوط تبدو جلية لنا.
طرفا الأزمة الخليجية المباشرين واشنطن والرياض
بعد المخاض العسير الذي خرج منه دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، توجه في أولى زياراته الخارجية إلى المملكة العربية السعودية، التي عاد منها بـ 400 مليار دولار، بعد أن أوقد نار الأزمة بين دول مجلس التعاون الخليجي.
على خلاف ما هو سائد في التحليلات التقليدية بعالم السياسة، التي تقول: “إذا أردنا البحث عن مسببي أي أزمة علينا معرفة الأطراف الرابحة فيها” ففي هذه الأزمة لم تكن الولايات المتحدة الطرف الرابح فيها بل كانت الخاسر على المدى البعيد، فعلى مرأى الشارع العربي وشعوب المنطقة برمتها، لم تكن سياسة إزدواجية المعايير لواشنطن جلية بهذه الدرجة. بالضبط هذا ما استشعرته مؤسسات النظام الأمريكي، كالبينتاغون ووزارة الخارجية، وبدأت بإرسال سيل من الرسائل لتحسين صورة واشنطن عند شعوب المنطقة.
وفي خضم هذا السعي أعيد إحياء تنفيذ اتفاقية بيع منظومة الدفاع الجوي الصاروخي، وتكللت ببيع قطر- التي إتهمها ترامب قبل ايام بدعم الإرهاب- مقاتلات بقيمة 30 مليار دولار.
هذه التصرفات وبهذا الشكل في السياسة الخارجية الأمريكية، ليس لها اسم في قاموس العلاقات الدولية التي وضعت من قبل الأمريكيين أنفسهم إبان رسم خريطة النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية. ومن يعرف منطقتنا وطبائع شعوبها، يعي بأنّ هذا النمط الجديد في السياسة الخارجية الأمريكية لا تؤتي أكلها في هذا المشرق العاطفي، بل سيكون لها ردة فعل عكسية على المدى البعيد.
على مدار الأزمة ثمة سؤال يطرح نفسه، عن ماهية السبب الذي دفع السعودية لاتخاذ هذه الخطوات ضد قطر، هل كانت سياسة قطر التي تغرد خارج سرب المحور الذي تقوده المملكة في المنطقة؟ أم ثمة سبب آخر لم يسلط عليه الضوء بالشكل الكافي؟
عام 2016 ظهر قانون “جاستا (JASATA) هي اختصار لعبارة Justice Against Sponsors of Terrorism Act وتعني “العدالة في مواجهة رعاة النشاط الإرهابي”، وقد أصدره الكونغرس، لمحاسبة رعاة الإرهاب ودولهم، وفي مادته السابعة كان ينص بسكل مباشر على اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وبحسب التقارير الصادرة في محافل السياسة الدولية آنذلك، كانت كل الأصابع تشير إلى أنّ القانون يستهدف المملكة العربية السعودية.
المطلع على حيثيات قانون “جاستا” يلاحظ أنه مصمم وفقا لطبع الرئيس ترامب في خلط المساومات التجارية بالصفقات السياسة، وبعض التحليلات حول قانون جاستا، بينت أنّ هذا القانون في حال مروره، سيكلف الخزينة السعودية حوالي تريليون دولار.
وليس من الصعوبة بمكان معرفة أنّ أبرز الملفات التي بحثت على مستوى العلاقات بين الرياض وواشنطن، بعد تربع ترامب على عرش الأبيض هو قانون جاستا، وكان ذلك في زيارة ولي العهد محمد بن سلمان إلى واشنطن لتهنئة ترامب بفوزه بالانتخابات، أو في زيارة الأخير للمملكة.
إنّ تعهد المملكة بشراء طائرات ومعدات عسكرية أمريكية بقيمة 400 مليار دولار، أنقذها من ابتزاز قانون جاستا بدفع مستحقات أسر ضحايا هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، كما أنها أنقذت نفسها من عزلة دولية.
لم يخفَ على أحد التوتر السعودي القطري، الذي أصبح جليا بعد 2012، وكانت قطر هدفا لبعض الدول العربية بقيادة سعودية عام 2014.
بعد عودة ترامب من زيارته للمملكة، صرح بما يتنافى مع اللباقة الدبلوماسية، وبشكل وصفه الكثيرون بالإسلوب الفج، بأن السعوديين أشاروا له بأن “قطر تدعم الإرهاب”، الأمر الذي صب الزيت على نار الأزمة القطرية السعودية. ووجدت الدول الأربع نفسها مضطرة للمهاجمة قطر، دون مسوغات مقنعة على صعيد العلاقات الدولية، أو على صعيد الرأي العام لشعوبها، ولاحظنا أكثر من مرة عدم توافقهم فيما بينهم من خلال مواقفهم وتضارب مطالبهم من قطر.
طرفا الأزمة الخليجية غير المباشرين تركيا وإيران
إن الحزم الذي أظهرته تركيا في بداية الأزمة، واتزان سياستها الخارجية، ساهما في تبريد حدة الأزمة بتفعيلها لاتفاقاتها العسكرية مع قطر، وبغض النظر عن حملات العداء ضد تركيا ومن يقف وراءها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّ دور تركيا في التوسط وموقفها الحكيم بالأزمة الذي قوبل بالترحيب من قبل الأوساط الشعبية التركية، أعاد إلى الأذهان بأنه لا مستقبل لحل الأزمة بدون وجود تركيا.
أما الطرف الثاني فهو إيران. وعلى الرغم من أن الأزمات التي شهدتها المنطقة مؤخرا، أظهرت مدى عدوانية طهران من خلال سياسة التسلق على الأزمات، إلا أنها اتخذت موقفا عقلانيا في الأزمة القطرية. هذا الموقف الجديد لإيران لن ينساه حكام الخليج، وهو رسالة مبطنة من إيران لإمكانية التعاون في حل كثير من ملفات وقضايا المنطقة.
أبعاد الأزمة: تضارب العلاقات الإقليمية والدولية
أثبتت الأزمة الخليجية من جديد عدم انتظار أي نتائج من من تحركات الدول العظمى، على الرغم من أهميتها على صعيد العلاقات الدولية. إلا أنّ العلاقات الإقليمية تثبت من جديد أهميتها، فالعلاقات الإقليمية التي تقيمها الدولة مهما كانت صغيرة تستطيع أنّ تعيد رسم توازنات القوى في أي منطقة، ورأينا كيف أنّ قطر أعادت رسم علاقتها على الصعيد الإقليمي منذ عام 1995.
على الرغم من أن العقوبات ألحقت نوعا ما الضرر بقطر على الصعيد الاقتصادي وبسمعتها الدولية على المدى البعيد، إلا أنها كانت لأول مرة أمام تحدٍ حقيقي للسياسة التي قررت الدوحة المضي بها.
إن مجيء الأمير الشاب تميم بن حمد آل ثاني إلى السلطة في قطر عام 2013، والتفاف البيت القطري الداخلي حوله، كان مؤشرا على بقاء تميم في السلطة لأمد طويل، كما أنّ أمير قطر استطاع في فترة وجيزة كسر العرف الداخلي في مجلس التعاون الخليجي بلزوم إطاعة الشباب للكبار. ما فتح باباً جديدا من التحدي بتولية الشباب سواء في الإمارات العربية المتحدة بصعود ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى الواجهة بدلا من أميرها خليفة بن زايد، وتعيين محمد بن سلمان وليا للعهد في المملكة العربية السعودية.
ستشهد الأيام المقبلة تنافسا بين أبناء الجيل الجديد من حكام الخليج، إن أمير قطر تبدو جبهته الداخلية هي الأقوى، وفي نفس الوقت قام بتعزيز علاقاته أكثر وأكثر مع تركيا، وأعادة صياغة علاقتها مع أوروبا بما يتجاوز منطق العلاقة مع دولة ريعية.
لقنت الأزمة الخليجية دول المنطقة درسا كبيرا، حيث أثبتت من جديد، أن العالم لا يدار من واشنطن وحدها. وعلى الرغم من أن الأزمة عمقت الشرخ بين دول المنطقة إلا أنها في الوقت نفسه أزالت الغشاوة من الأعين لترى حقيقة أولئك الذي أقحموا بأنفسهم كطرف في هذه الأزمة. ونتيجة للدوافع النفسية الناجمة عن النزعة العاطفية، المهيمنة على السياسات الاجتماعية في المنطقة، فإن إنهاء الأزمة يحتاج إلى مزيد من الوقت.
مقال مترجم بتصرف للبروفسور زكريا كورشون رئيس قسم التاريخ في جامعة السلطان محمد الفاتح ورئيس جمعية باحثي أفريقيا والشرق الأوسط