وهَل نَتوقَّع ردًّا على هذا التَّطاول الابتزازيّ الوَقِح؟ وما هِي السِّيناريوهات المُقتَرَحة؟
اطْلع العاهِل السعوديّ الملك سلمان بن عبد العزيز جلسة مجلس الوزراء السعوديّ التي انعَقَدت ظُهْر اليوم الثلاثاء على تفاصيل اتِّصالِه الهاتفيّ المُطَوَّل مع الرئيس الريكيّ دونالد ترامب، وما تَم خلاله من بَحْثٍ للعلاقات “المُتميّزة” وسُبُل تَطويرِها في ظِل الشَّراكة الاستراتيجيّة بين البَلدَين.
وكالة الأنباء السعوديّة الرسميّة “واس” التي بثّت هذا الخبر، لم تَكشِف عن فَحوى هَذهِ المُكالَمة وما وَرَد فيها من مطالبٍ ابتزازيّةٍ وقِحَةٍ، كما أنّها تجنَّبَت ذِكر مضمون أي رد سُعوديّ عليها، إذا كان هُناك احتمال بالرَّد بالفِعل، واكتفَت بسَطرين فقط عَن هَذهِ المَسألة، وهذا أمرٌ غير مُستَغرب في الوِكالات الرسميّة الخليجيّة عُمومًا.
الرئيس ترامب لا يَكتِم سِرًّا، خاصَّةً عندما يتعلَّق الأمر بالتَّطاول على حُلفائِه السُّعوديين والخَليجيين، والسُّخرية منهم، وتَوجيهه الاتِّهامات إليهم، وبطَريقةٍ فوقيّةٍ مُتغطرسةٍ، الأمر الذي لا يَحدُث مع أي قِيادات أو شُعوبٍ أُخرَى في العالم، إلا ما نَدَر.
الرئيس ترامب تَجاوز كُل الخُطوط الحَمراء، وأُصول التَّخاطُب المُتّبعة مع المُلوك والرؤساء عِندما قال في خِطابٍ له في تَجمُّعٍ انتخابيٍّ في وِلاية فرجينيا “أنا أُحب السعوديّة، وقد أجرَيت اتّصالًا هاتِفيًّا مُطوّلًا مع الملك سلمان هذا الصَّباح، وقُلت له إنّك تَمْلُك تريليونات من الدُّولارات، واللهُ وحده يَعلم ماذا سيَحدُث للمملكة في حال تَعرّضت لهُجوم”، وأضاف “قُلت له أيّها الملك ربّما لن تَكون قادِرًا على الاحتفاظ بطائِراتِك لأنُ السعوديّة ستتعرّض لهُجوم، لكن مَعَنا أنْتُم في أمانٍ تام، لكنّنا لن نَحصُل في المُقابِل ما يَجِب أن نَحْصُل عليه”.
فإذا كان الرئيس ترامب يُحِب السعوديّة فِعْلًا، فلماذا يُعامِلها بهَذهِ الطَّريقةِ الوَقِحة، ويَكشِف أسرارها وبطَريقةٍ غير لائِقة طابَعها السُّخرِيَة والتَّهديد، وكيف سيكون حاله لو كان يَكرهها؟ ونحن نَجْزِم بأنّه لا يُحبّها، ويَستخسِر عليها الثَّروة، ويَعتقِد أنّها لا تَستَحقّها، ومِن مُنطَلقات عُنصريّته وكراهيّته للعَرب والمُسلمين.
اللَّافِت في هذا النَّص المُوثَّق ليس طابَعه الابتزازيّ الاستخفافيّ فقط، وإنّما أيضًا ما وَرَدَ فيه أكثَر من مَرّة، مِن أنّ المملكة العربيّة السعوديّة ستتعرّض لهُجوم، وأنّ أمريكا هِي الوَحيدة القادِرَة على التَّصدِّي له، وحِمايَة مُواطِنيها وطائِراتِها.
لا نَعرِف من الذي سيقوم بهذا الهُجوم الذي يَتحدَّث عنه الرئيس ترامب وكأنّه حَتميّ، ويُوحِي في الوَقتِ نفسه بأنّه وشيك، فهل يَقصِد الرئيس ترامب إيران في هَذهِ الحالة؟ وإذا كانت إيران فِعْلًا هل ستقوم بهذا الهُجوم بشَكلٍ مُباشِرٍ واستباقيّ، أم كرَدٍّ على عُدوانٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ عليها يأتِي بعد فَرضِ الحَظْر النِّفطيّ الشَّهر المُقبِل بهَدف تغيير النِّظام في طِهران؟
الأمريكيّون، والغَربيّون عُمومًا، لا يتحدَّثون عن الحُروب بهَذهِ الصَّراحة، إلا في حالِ وجود سيناريوهات جاهِزة للتَّنفيذ، ومُحَدَّد تاريخها باليَوم والسَّاعة، فَهُم لا يَبْنون سِياساتِهم وحُروبِهم كرَدِّ فِعلٍ مِثلَما هو حال العرب عُمومًا، وإنّما وِفق استراتيجيّات وبرامِج عمل مُحدَّدَة مُتّفق عليها مِن قِبَل الدُّوَل العميقة، فالعُدوان على العِراق تقرّر قبل خمس سنوات، وتغيير النِّظام في ليبيا مِن خلال طائِرات حلف الناتو اعتُمِد قبل ثمانِي سنوات، والتَّحضير لتَفجير الأوضاع في سورية وتهيئة المَناخ إعلاميًّا وعسكريًّا جاءَ قبل ثلاث سنوات على الأقَل، حيثُ بدأنا نُشاهِد ضَخًّا للمَلايين مِن الدُّولارات في قنواتٍ تلفزيونيّةٍ وصُحُف ومَطبوعات، وفَصائِل مُسلَّحة.
الرئيس ترامب حَصَل على 500 مِليار دولار من المملكة العربيّة السعوديّة أثناء زيارته للرِّياض في آيّار (مايو) عام 2016، ويبدو أنّه يتطلّع إلى ضِعفيّ هذا الرَّقم، ونَستنتِج ذلك مِن خِلال حديثه عن امتلاكِها “التِّرليونات” وليس المِليارات مِن الدُّولارات، بالقِياس مع أقوالٍ سابِقَةٍ له، تقول أنّ بلاده، أي أمريكا، يجب أن تَحصُل على “حصّة” من العَوائِد النفطيّة السعوديّة والخليجيّة، وكثَمنٍ للحِماية لأنّه لولاها لما استمرّت قِيادات هَذهِ الدُّوَل في الحُكم أُسبوعًا ولسافَر هؤلاء على الدَّرَجةِ السِّياحيّة.
لا نَعتقِد أنّ هذا التطاول الابتزازيّ من قِبَل الرئيس الأمريكيّ على المملكة ودُوَل خليجيّة أُخرَى سيَتوقّف عِند هذا الحَد، ولا نَستبعِد أن يتطوّر إلى أساليبٍ أكثَر وقاحَة إذا لم يَجِد أحدًا يوقفه عند حَدّه بقُوّةٍ وصَرامةٍ، ومِن خِلال المُعامَلة بالمِثل، فالصِّين ردّت على عُقوباتِه بفَرضِ رُسومٍ جمركيّةٍ على الصَّادِرات الأمريكيّة بالسِّلاح نفسه، وأوروبا تبنّت نِظام تبادُل تجاري لا يَعتمِد على الدولار يُؤهّلها بالاستمرار في استيرادها للنِّفط الإيرانيّ ومُعاملات تجاريّة أُخرى، والباكستان رفضت الابتزاز وتلبية مطالب الإدارة الأمريكيّة في مُكافَحة الإرهاب وِفْقًا للسِّياسات والمَنظور الأمريكيّ، وخاصَّةً في أفغانستان، رغم خَسارَتها حواليّ بِليون دولار سَنويًّا مِن المُساعَدات، وعلاقة استراتيجيّة امتدّت لأكثَر مِن خَمسين عامًا.
نُدرِك جيّدًا أنّ السعوديّة ليْسَت الصين، ولا في قُوّة الاتّحاد الأُوروبي، ولكن هذا التطاول الأمريكيّ يَزداد وقاحَةً وابتِزازًا، ولا بُد من وَقفِه، لأنّه باتَ ضخم التَّكلُفَة ماليًّا وأخلاقيًّا، ويَدخُل مَناطِق “مُحرَّمة”، ويُشَكِّل إهانَةً للسُّلطات السعوديّة.
فإذا كان هذا الابتزاز يَستَنِد إلى “الفزّاعة” الإيرانيّة، فلتَذهب السعوديّة إلى خِيارِ آخَر، وهو فَتْح قنوات الحِوار مع إيران ومِحوَرها، مِثلَما فعل ترامب نفسه مع كوريا الشماليّة، وقَبْلها إدارة أوباما مع طِهران حول أزمَة البرنامج النووي، ومِن وراء ظَهر الحَليف السعوديّ، الذي باعته صفقات أسلحة بأكثَر مِن 120 مِليار دولار استعدادًا للحَربِ الوَشيكةِ معها، أي إيران.. فهَل ستَلجَأ السعوديّة إلى “الخُطّة B”، وتَضَع حدًّا لهذا الابتزاز، مِثْلَما فَعَلت تركيا أخيرًا.. نَأمَل ذَلِك، وسَلطَنة عُمان جاهِزة كقَناةِ وِساطَةٍ سِريّةٍ إذا ما طُلِبَ مِنهَا.