يُمكن تلخيص المشهد الحالي في المنطقة العربيّة في بضع كلمات، انتهت الحرب الدمويّة في اليمن، أو أوشكت على الانتهاء وبدأت الحرب في السودان، ومن المُفارقة أن ما يفصل بين البلدين هو البحر الأحمر والقاسم المُشترك في هاتين الحربين، أنهما حربان “بالإنابة”، تلعب التدخّلات الإقليميّة (الخليجيّة تحديدًا) والدوليّة، الدّور الأكبر فيهما.
نشرح أكثر ونقول إن أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي اتّصل هاتفيًّا بنظيريه السعودي والإماراتي طالبًا منهما لعب دور كبير من أجل التهدئة في السودان، وإيقاف هذه الحرب التي انفجرت يوم السبت الماضي بين الحليفين اللّدودين، أيّ الفريق ركن عبد الفتاح البرهان وخصمه الفريق ركن أيضًا ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي حصل على هذه المرتبة العسكريّة العالية جدًّا دون أن يتخرّج من أيّ جامعة مدنيّة أو كليّة عسكريّة، ولكنّه يملك مُؤهّلات عُليا في العمل الميداني على الأرض، ويتزعّم ميليشيا (الدعم السريع) المعروفة بخبراتها العسكريّة والميدانيّة (حرب دافور) في القتل والقمع، وينخرط فيها أكثر من مئة ألف مُقاتل، ويتربّع قائدها (حميدتي) على تِلال من الذّهب المسروق.
***
هُناك مُؤشّرات يُمكن أن تُحدّد خريطة وهُويّة الأطراف الداخليّة المُتقاتلة على السّلطة في السودان، والأطراف الخارجيّة الدّاعمة لها، إقليميّة كانت أو عربيّة أو دوليّة:
أوّلًا: اقتحام قوّات الدعم السريع لقاعدة عسكريّة تتواجد فيها قوّات مِصريّة (قاعدة مروي) والاعتداء على الجُنود المِصريين، وأخذ أعداد كبيرة منهم كأسرى يُوحي بأنّ السّلطات المِصريّة مُتّهمةٌ بدعم الرئيس عبد الفتاح البرهان والجيش السوداني الذي يتزعّمه.
ثانيًا: العلاقات القويّة التي تربط بين “الفريق” حميدتي المُهيمن على تجارة الذهب السودانيّة ومناجمه، مع مجموعة فاغنر الروسيّة ومُمارسة أمريكا ضُغوطًا على الرئيس البرهان لطرد هذه المجموعة من السودان، بحُجّة أنها، أيّ مجموعة فاغنر، الشّريكة في التنقيب عن الذهب وتجارته ليس في السودان فقط، وإنّما في دُولٍ إفريقيّة مُجاورة أيضًا، تُموّل من خِلالها الحرب الروسيّة في أوكرانيا، وتُشكّل رأس حربة للنفوذ الروسي في إفريقيا وقرنها، وتُمهّد لإقامة قاعدة روسيّة على البحر الأحمر.
ثالثا: تلعب دولة الإمارات دورًا استثماريًّا هو الأضخم في السودان، واشترت قبل أيّام ما قيمته مِليار ونِصف المِليار دولار من الذهب السوداني الذي يُسيطر عليه “الجنرال” حميدتي، علاوةً على ملايين الهِكتارات من الأراضي الزراعيّة ممّا يُؤكّد وجود علاقة قويّة بين الجانبين، وربّما يُفيد التّذكير بأن قوّات الدعم السريع “الحميدتيّة” كانت الوحيدة التي قاتلت إلى جانب الإمارات والسعوديّة في حرب اليمن بإرسالها الآلاف من مُقاتليها.
رابعًا: الموقف السعودي يتّسم حتى الآن بالغُموض ويتأرجح بين المُعسكرين المُتقاتلين، وما يزيد من هذا الغُموض، إن العلاقات السعوديّة “ليست جيّدة” مع كُل من مِصر والإمارات الدّاعمين الرئيسيّين لطرفيّ الصّراع حتى الآن، وكان لافتًا أن الإمارات أرسلت الدكتور أنور قرقاش المُستشار الدبلوماسي لرئيسها الشيخ محمد بن زايد، وليس وزير خارجيّتها الشيخ عبد الله بن زايد للمُشاركة في اجتماع وزراء الخارجيّة الذي انعقد في جدة الجمعة الماضي، بدعوةٍ من الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، والحاكم الفعلي للمملكة، لبحث عودة سورية إلى الجامعة والعمل العربي المُشترك، أمّا علاقات مِصر مع السعوديّة ليست في أفضل أحوالها، فزيارة الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي الخاطفة الرمضانيّة لجدة لم تُحقّق مُعظم أهدافها في الحُصول على دعمٍ ماليّ سعوديّ سريع مثلما كشفت العديد من التّسريبات الإخباريّة، وربّما يقف هذا الحِياد السعودي “الغامض” حتى الآن وراء دفع قيادتها لدعوة كُل من البرهان وحميدتي إلى الرياض للانخِراط في مُفاوضاتٍ لوقف الحرب.
الوقائع النظريّة على الأرض تقول إن الجيش السوداني الرسمي الذي يحتلّ المرتبة 75 على قائمة أقوى الجُيوش عالميًّا حيث يبلغ تِعداد قوّاته 205 آلاف جندي ويملك 191 طائرة حربيّة (قديمة)، و170 دبّابة، تُرجّح كفّته في حسم هذه الحرب لصالحه، وهزيمة قوّات خمصه ونائبه المُتمرّد حميدتي، ولكنّ الوقائع النظريّة شيء، والتطوّرات الميدانيّة شيءٌ آخَر مُختلفٌ تمامًا في ظِل التدخّلات الخارجيّة المُتصاعدة.
هذه الحرب لا يُمكن أن تنتهي إلا بانتِصار طرف على الآخر وسحقه، وليس بالوِساطات والبيانات الإنشائيّة التي تُطالب بوقفها فورًا، وكُلّ المُؤشّرات تقول بأنّها قد تطول وتتحوّل إلى حربٍ أهليّة أو مناطقيّة تُؤدّي إلى فوضى السّلاح في البلاد.
فإذا كانت حرب اليمن التي كان من المُفترض أن تُحسَم في ثلاثة أشهر استمرّت ثماني سنوات، والحرب الأهليّة اللبنانيّة طالت لـ 15 عامًا، فكم عام قد تستمرّ الحرب الأهليّة السودانيّة إذا اشتعل فتيلها؟.
***
نحن لا نتمنّى أن تطول هذه الحرب التي أدّت حتّى الآن إلى مقتل مئة شخص وإصابة المِئات نسبة كبيرة منهم من المدنيين، ونأمل أن يتم التوصّل إلى وقفٍ سريعٍ لوقف القتال، ولكن ما يُقلقنا، ويُصيبنا بالتّشاؤم، هذه التدخّلات الخارجيّة التي تآمرت لتفجير هذه الحرب، وتصعيد الخِلافات بين طرفيها، وصبّت، وما زالت، البنزين على نارها.
الظّاهرة الإيجابيّة الوحيدة التي ربّما يُمكن رصدها من بين أكوام الأنباء المُتضاربة عن سير الحرب، أن الشعب السوداني الطيّب لا يدعم أيًّا من طرفيها، لأنّه يعتبرهما مسؤولين عن حالة الانهيار الاقتصادي، وانعدام الأمن والاستقرار، وتفاقم الجُوع في البلاد (ثُلُث السودانيين تحت خطّ الجُوع حسب برنامج الغذاء العالمي)، والأهم من ذلك إجهاض اتّفاق نقل السّلطة إلى القِوى المدنيّة التي خاضت الثورة على النظام العسكريّ وانقِلاباته المُتعدّدة الرّؤوس.
السودان، ونقولها بكُلّ حسرةٍ، بات ضحيّة مُؤامرة كبيرة، مفتوحة نتائجها على كُلّ الاحتِمالات، ابتداءً من التّفكيك وانتهاءً بالحرب الأهليّة، ولا نتردّد مُطلقًا في اتّهام مُؤسّسته العسكريّة المُخترقة بلعبِ دورٍ كبيرٍ في إيقاعه في هذه الكارثة بسبب صِراع جِنرالاتها وقِياداتها على السّلطة، من مُنطلقاتٍ ذاتيّة، ودُون أيّ اعتبارٍ لوحدةِ البلاد الترابيّة ومصالح شعبها في الحدّ الأدنى من العيْش الكريم.
هذه هي نتائج التطبيع والخدعة الأمريكيّة الكُبرى التي وعدت الشعب السوداني بالرّخاء والمَنْ والسّلوى إذا ما صافح بُرهانه بنيامين نِتنياهو، وذهب حميدتي إلى تل ابيب زاحفًا ومُتوّجًا لها كدولةٍ صديقةٍ ستُخرج السودان من جميع أزماته.
ما نخشاه أيضًا أن يكون الهدف من حرب الجِنرالات السودانيّة هذه هو مِصر وجيشها وشعبها وأمنها المائي، وجرّها إلى حربِ استنزافٍ قد تُؤدّي إلى إشغالها عن المَلء الرّابع لسدّ النهضة الإثيوبي، وبِما يُؤدّي إلى تجويع خمسة ملايين من فلّاحيها.
باختصارٍ شديد نحن أمام كارثة كُبرى جديدة لا نتردّد في اتّهام وقوف أمريكا ودولة الاحتِلال خلفها، وتَواطُؤ أنظمة عربيّة فيها بقصدٍ أو بِدونه.. والقادم أعظم.