السياسة النفطية السعودية وسط التغيرات الجوهرية في العلاقة مع الولايات المتحدة
زار الرئيس الأمريكي "جو بايدن" السعودية في يوليو/تموز الماضي على أمل إقناع العاهل السعودي الملك "سلمان" وولي العهد الأمير "محمد بن سلمان" بفعل ما في وسعهما لخفض أسعار الوقود. كما دعا المملكة لتقليص التعاون مع الصين، لكن السعوديين لم يقتنعوا على ما يبدو.
وأعلنت "أوبك+" في وقت سابق من هذا الشهر عن خطط لتخفيض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميًا بدءا من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وأثار القرار غير المتوقع غضب الكونجرس الذي طالب أعضاء فيه بمعاقبة السعودية.
كما أذهل القرار إدارة "بايدن" بالنظر إلى أن جميع الإدارات السعودية السابقة تجنبت إحراج واشنطن، حتى خلال فترات توتر العلاقات.
وقال وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكين" إن بلاده ستدرس خيارات للرد على الخطوة التي وصفها بأنها "قصيرة النظر ومخيبة للآمال".
وقال أيضًا إن الولايات المتحدة لن تتصرف ضد مصالحها، في إشارة إلى مطالبة أعضاء الكونجرس بسحب الأصول العسكرية الأمريكية المتمركزة في السعودية والإمارات، وهو مؤشر على الخيارات الصعبة التي تواجه واشنطن اليوم.
نفط الخليج في السياسة الأمريكية
شهدت العلاقات الأمريكية السعودية عدة فترات من الاحتكاكات بسبب قضية النفط. وخلال الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 1973، فرضت السعودية حظراً نفطياً على الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل.
ومع رفع الحظر في مارس/آذار 1974، كانت أسعار النفط قد تضاعفت 4 مرات، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي كانت تواجه الولايات المتحدة في ذلك الوقت. وتضمنت تلك الأزمة ركودًا وتضخمًا وفضيحة "ووترغيت".
وتشير الوثائق البريطانية التي رفعت عنها السرية مؤخرًا إلى أن الرئيس "ريتشارد نيكسون" فكر في غزو السعودية للسيطرة على أسعار النفط، لكنه قرر بدلاً من ذلك الاعتماد على شاه إيران لثني دول الخليج عن محاولة زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي مرة أخرى.
أدت ثورة إيران عام 1979 إلى تبني "عقيدة كارتر" في عام 1980 بهدف ضمان عدم وقوع حظر نفطي آخر ومنع التدخل السوفيتي في الخليج.
واعتبرت العقيدة أي محاولة من قبل قوة أجنبية للسيطرة على منطقة الخليج بمثابة هجوم على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، لذلك أنشأت قوة الانتشار السريع التي اندمجت في عام 1983 مع القيادة المركزية الأمريكية، وأسست لتدريبات عسكرية منتظمة تحمل الاسم الرمزي "النجم الساطع" وتضم عدة دول.
وتركز هذه التدريبات، والتي تعتبر الأكثر أهمية للقيادة المركزية، على مهارات القتال في الصحراء، وتدريب القوات للحفاظ على معداتهم في ظروف القتال القاسية والحفاظ على الاتصال بين القوات.
ونشهد اليوم مرة أخرى تصدعات في العلاقة بين الأمريكيين والخليجيين. وبعد قرار "أوبك+" الأخير، طالب بعض الأمريكيين واشنطن بإنهاء الوضع الخاص للسعودية وحتى شن ضربة عسكرية ضدها.
ويدرس الكونجرس الأمريكي الآن مشروع قانون "نوبك" الذي سيسمح لوزارة العدل الأمريكية بمقاضاة دول "أوبك" وحلفائها بتهمة التلاعب بأسعار النفط.
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي "جون كيربي" إن "بايدن" غير راض عن الموقف السعودي وسينسق مع الكونجرس لتحديد شكل العلاقة المستقبلية مع الرياض.
"بايدن" و "بن سلمان"
أحد أسباب عدم ثقة "بايدن" في دول الخليج عامة، والسعودية على وجه التحديد، هو غياب الديمقراطية في المنطقة العربية. وفي العام الماضي، تم تنظيم "قمة الديمقراطية" لإعادة التأكيد على التزام الولايات المتحدة بالقيم الديمقراطية في سياستها الخارجية.
وكانت الدولة العربية الوحيدة التي تمت دعوتها إلى القمة هي العراق، والتي تأمل الولايات المتحدة أن تنتقل في نهاية المطاف إلى ديمقراطية تعددية.
وحتى بالمعايير العربية، ستحتل السعودية المرتبة الأخيرة في ترتيب دول المنطقة من حيث الأوضاع الديمقراطية.
وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا أن "بايدن" يعتقد أن ممارسة الضغط المستمر على السعوديين من شأنه أن يساعد في إنهاء الصراع في اليمن وترويض "بن سلمان" بأقل قدر من الضرر لعلاقة واشنطن بالرياض.
وبالفعل، أنهى "بايدن" الدعم العسكري الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن وأزال الحوثيين من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية.
كما أبدى "بايدن" انزعاجه من اغتيال الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" حتى أنه سمح بالنشر الجزئي لتقرير المخابرات الأمريكية السري عن قضية "خاشقجي".
ويرى "بايدن" أن "بن سلمان" زعيم استبدادي وعديم الرحمة، وهو وصف أكدته العديد من الروايات عن ولي العهد.
وقال ضابط مخابرات سعودي سابق كان اليد اليمنى لـ"بن سلمان" لسنوات إن ولي العهد يشبه نفسه "بالإسكندر الأكبر" ويريد أن يصبح أقوى رجل في العالم.
ولم يرغب "بايدن" في مصافحة "بن سلمان" عندما زار السعودية في يوليو/تموز، مفضلاً استقباله بقبضة اليد بدلاً من ذلك.
وقبل الرحلة، تجنب "بايدن" التواصل مع "بن سلمان"، على عكس الطريقة التي تعامل بها الرؤساء الأمريكيون السابقون مع العائلة المالكة السعودية.
كما تجنب بعض كبار المسؤولين الأمريكيين زيارة السعودية خلال جولاتهم في الشرق الأوسط.
لذلك استخدم ولي العهد السعودي موارد بلاده النفطية للحصول على اعتراف من إدارة "بايدن" باعتباره الحاكم الفعلي للمملكة.
ومن اللافت أن الملك "سلمان" أصدر مؤخرًا مرسوما بتعيين "بن سلمان" رئيسًا للوزراء، وهي خطوة غير مسبوقة من قبل ملك سعودي في منصبه.
ويواصل "بن سلمان" حاليا مقاومة الضغط الأمريكي لضخ المزيد من النفط، بل قاد قرار "أوبك+" بالتنسيق مع روسيا لخفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميًا، مما أثار استياء واشنطن.
ويقول "بن سلمان" في اجتماعات خاصة إن "بايدن" يعرف رقمه ويمكنه الاتصال به مباشرة لمناقشة الأمر.
المنطق وراء قرار "أوبك+"
رفضت السعودية الاتهامات التي أطلقتها إدارة "بايدن" بأنها تنحاز إلى روسيا، وتصر المملكة على أن هناك أسبابا فنية معتبرة وراء قرار "أوبك+" الأخير، لا سيما بالنظر إلى حالة الاقتصاد العالمي وتراجع الطلب على النفط.
ويعد النفط هو المصدر الرئيسي لإيرادات الميزانية السعودية، وبالتالي فهو أداة سياسية أساسية في بلد به نظام ضريبي شديد التخلف.
وعلى مدى الأشهر الأربعة الماضية، انخفضت أسعار النفط من أكثر من 120 دولارًا للبرميل إلى 80 دولارًا، وخوفًا من استمرار الاتجاه الهبوطي بسبب الركود الذي يلوح في الأفق، يبدو أن السعوديين رأوا أن انخفاض الإنتاج من شأنه أن يؤدي إلى استقرار الأسعار.
ومع ذلك، وصل التقارب السعودي الروسي إلى مستويات جديدة تثير قلق واشنطن. وفي قمة مجموعة العشرين في "بوينس آيرس" عام 2018، استقبل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" ولي العهد السعودي بحرارة وصافحه بحماس بينما تجاهله معظم القادة الآخرين بسبب تداعيات قضية "خاشقجي".
وأراد "بوتين" مساعدة "بن سلمان" في تحقيق مكاسب دبلوماسية. وفي الآونة الأخيرة، توسط السعوديون في إطلاق سراح السجناء الأجانب الذين أسرهم الروس في حرب أوكرانيا.
ولم تنضم السعودية والإمارات إلى العقوبات المفروضة على روسيا.
وشكك البلدان في دوافع الولايات المتحدة لمعاقبة موسكو بأدوات مثل وضع حد أقصى لسعر صادراتها النفطية، خوفًا من أن هذه السابقة قد تحول القدرة على تسعير النفط من المنتجين إلى المستهلكين.
ويبدو أن القاعدة التي تحكم الشراكة الأمريكية الخليجية - النفط مقابل الأمن - لم تعد قائمة، كما يتجلى في الصراع لتحديد قواعد تسعير النفط العالمي.
ومن منظور سعودي إماراتي، فقدت الولايات المتحدة قدرتها على تحديد الأولويات في شراكتها.
وقد حاول الديموقراطيون تحقيق التوازن مع السعوديين، رافضين إعطاء غطاء أمريكي لسياسات "بن سلمان" الداخلية أثناء العمل معه في قضايا ملحة مثل النفط وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
التداعيات على السعودية
ردّ السعوديون بغضب على الانتقادات الأمريكية لقرارهم خفض الإنتاج والدعوات لمعاقبة الرياض. وتداول ناشطون سعوديون بيانا لوزير الخارجية السعودي الراحل سعود "الفيصل" قال فيه: "نحن في المملكة لا نخلف الوعد كما لا نقبل التهديد".
ويتعامل "بايدن" مع السعودية والإمارات وسط صعود جيل جديد من القادة أقل ثقة في الشراكة مع الولايات المتحدة وأكثر إصرارًا على اتباع نهج سياسة خارجية مستقلة بعد سنوات من عدم الثقة.
ويعتقد هؤلاء القادة أن الديمقراطيين يعملون على إضعافهم، بالرغم من الدفء الأخير في العلاقات بفضل الحاجة للنفط.
وبينما تتعمق الهوة بين واشنطن والرياض، سيستمر السعوديون في الحفاظ على علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع الصين وروسيا، التي لا تكترث بقضايا حقوق الإنسان.
ويتولى "بن سلمان" منذ سنوات مهمة رسم توجهات السياسة الخارجية للمملكة، ويبدو أنه يعتقد أن مستقبل بلاده يكمن في الصين وروسيا والاقتصادات الناشئة، وليس مع الولايات المتحدة.
المصدر | هلال خاشان/ جيبوليتكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد