هل بَدأت الجولة الأُولى من المُفاوضات المُباشرة بين القِيادتين السعوديّة والحوثيّة؟ وكيف نُقيّم فُرص النّجاح والفشَل؟
ولماذا نتمنّى أن يتوقّف التّطبيع عند تهنئة اليهود برأس سنَتِهم ولا تتطوّر إلى “عيد” قِيام دولتهم وإجراء مُراجعات شاملة لكُل الرّهانات على “الحِمايتين” الأمريكيّة والإسرائيليّة؟
عبد الباري عطوان
بغضّ النّظر عن مدى صحّة المعلومات المُتواترة هذه الأيّام عن وجود اتّصالات مُباشرة بين الأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع والسيّد مهدي المشاط ورئيس المجلس السياسي الأعلى في حركة “أنصار الله” الحوثيّة وحُلفائها، فإنّ المملكة العربيّة السعوديّة لم تعُد قادرةً على مُواصلة الحرب في اليمن بالزّخم نفسه بعد المُتغيّرات الكُبرى التي طَرأت على موازين القِوى في الأرض والسّماء، في العامِ الأخير على وجه الخُصوص، ولهذا فإنّ الحِوار مع الخصم الذي صمَد على الأرض هو الخِيار الأكثر نجاعةً للخُروج من هذه المِصيدة الباهِظة التّكاليف.
التّغريدة التي كتبها الأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع، وقال فيها “إنّ عرض التّهدئة الذي أعلن عنه السيّد المشاط تنظُر إليه المملكة بإيجابيّة، كَون هذا ما تسعى إليه دومًا وتأمل أن يُطبّق بشكلٍ فِعليٍّ”، جاءت نتيجة مُراجعات أجرَتها القيادة السعوديّة توصّلت في نهايتها إلى قناعةٍ بحتميّة التّفاوض مع نظيرتها في حركة “أنصار الله” الحوثيّة من ناحيةٍ، وإيران من ناحيةٍ أُخرى، بعد أن أدركت أنّه لا الولايات المتحدة ولا الدولة العبريّة قادرةٌ على توفير الأمن والحماية لها، وترجيح كفّتها في هذه الحرب.
القلق الأساسي لهذه القيادة السعوديّة لم يعُد مَحصورًا في مسألة النّصر أو الهزيمة في الحرب اليمنيّة، وإنّما مُستقبل حُكم آل سعود بالدّرجة الأولى، واستمراره، وقد عبّرت وكالة أنباء “رويترز” العالميّة عن هذا القلق عندما تحدّثت في تقاريرٍ مُوثّقةٍ لها عن وجود حالة غضب مُتفاقمة في أوساط هذه الأسرة تُجاه السياسات التي يتّبعها الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي والحاكم الفِعلي، ليس تُجاه اليمن فقط، وإنّما في ملفّات إقليميّة عديدة على رأسِها المُبالغة في العَداء لإيران ومِحورها بتَحريضٍ أمريكيٍّ.
***
الحوثيّون أدركوا مُبكّرًا هذا القلق السعودي في القمّة والقاعِدة معًا، وأرادوا وربّما أخذوا بنصيحة حَليفيهما في طِهران وبيروت، أو أطراف غربيّة مُقرّبة من الرياض، تقديم السّلم للأمير بن سلمان للنّزول من على قمّة شجرة الأزمة اليمنيّة، وتجنّب مُحاولات داخليّة مُتوقّعة للإطاحة به، من خِلال العرض بالتّهدئة من جانبٍ واحد، لوقف الغارات الجويّة السعوديّة أوّلًا، والحُصول على اعتراف بشرعيّة حُكمهم في صنعاء ثانيًا، ودق إسفين الخِلاف بين السعوديّة والجَماعات اليمنيّة الأُخرى المدعومة من قبلها، وخاصّةً الحُكومة الشرعيّة التي يُمثّلها الرئيس عبد ربه منصور هادي وأنصاره ثالثًا، ويبدو أنّهم في طريقهم لتحقيق جميع هذه الأهداف دُفعَةً واحدةً، وبالتّنسيق المُريح.
تفاوض السلطات السعوديّة مع حركة “أنصار الله” بشكلٍ مُباشرٍ للتوصّل إلى وقف لإطلاق النّار يعني سُقوط “الشرعيّة” اليمنيّة المُمثّلة بالرئيس هادي، وخُروجها من المُعادلة السياسيّة اليمنيّة وربّما الإقليميّة أيضًا، وتكريس الاعتراف بالشرعيّة الحوثيّة الجديدة “المُنتصرة” في هذه الحرب بعد صُمودٍ استمرّ حواليّ خمس سنوات تقريبًا.
بالقِياس إلى مُعظم التّجارب السابقة، تبدأ المُفاوضات لإنهاء الحُروب بكيفيّة تكريس التّهدئة ووقف إطلاق النار في ميادين القتال جُزئيًّا أو كُلِّيًّا، ثم تنتقل في المرحلة الثانية إلى خطوات التّطبيع وتعزيز الثّقة بين الطّرفين المُتحاربين، وفي المرحلة الثّالثة يتم الانتقال إلى بحث الحُلول النهائيّة، السياسيّة والاقتصاديّة (التّعويضات) وتبادل العلاقات الدبلوماسيّة، والاعتراف المُتبادل.
في العادة يتم الانتقال من المُواجهات العسكريّة إلى مرحلة التّفاوض للتوصّل إلى الحُلول السلميّة النهائيّة بعد التوصّل إلى قناعةٍ بأنّ الحسم العسكريّ ليس مُمكنًا من قبل الطّرفين المُتحاربين، بعد وصولهما إلى مرحلة الإنهاك الكامل، وعدم قُدرتهما على تحمّل الخسائر البشريّة والماديّة، ولكن في حرب اليمن، الصورة تبدو مُختلفةً، فالطّرف الذي بات أكثر إنهاكًا، وتوجد لديه رغبة أكثر في إنهاء الحرب، هو الطّرف المُهاجم الذي بَدأها، أيّ التحالف السعوديّ الإماراتيّ، بينما الطّرف المُدافع، أيّ تحالف حركة الحوثيين، بات أكثر قوّةً وصلابةً، ويملك القُدرة على المُفاجآت، مع أنّ الحرب أوشكت على إنهاء عامها الخامس، ويتّضح هذا التطوّر من هجماته الصاروخيّة والجويّة المُسيّرة الثّلاث الأخيرة على المُنشآت النفطيّة الأضخم في المملكة، ونجاحه في تحرير مُعظم المناطق في محور نجران وأسر حواليّ 3000 شخص والاستيلاء على مِئات العربات المُدرّعة وقتل وإصابة 500 جندي سعودي ويمني من الطّرف الآخر وتهديده باستهداف المزيد على الأهداف السعوديّة والإماراتيّة، والانتقال من مرحلةِ الدفاع إلى مرحلةِ الهُجوم بشَراسةٍ.
الرّد السعوديّ الرسميّ على مُبادرة السيّد المشاط المُتمثّل في عرضٍ جزئيٍّ لوقف إطلاق النّار قُوبِل بالرّفض في البداية، ولكنّه رفضٌ غير قاطع، وجرى التّراجع عنه خاصّةً من قبل الجناح المُعتدل في الحركة الحوثيّة، الذي بات أقدر على تفهّمه لأنّه جاء في إطار “التدرّج”، وكمُقدّمة لفتح الحِوار الجدّي، وامتداده كُل الجبهات، سعيًا لتجنّب إهانة الخصم وتسهيل مسيرة تراجعاته.
***
مرّةً أُخرى نقول إنّ قواعد الاشتباك تغيّرت، ليس في الحرب اليمنيّة فقط، وإنّما في مِنطقة الشرق الأوسط برمّتها، لأنّ محور المُقاومة بات يملك اليَد العُليا سِياسيًّا وعَسكريًّا بعد فشل العُقوبات الأمريكيّة في تركيع إيران، وغِياب الرّد على هجَمات “أنصار الله” القويّة في قلب العُمق النّفطيّ السعوديّ، وانهيار التّحالف السعوديّ في مِحور نجران.
في ظِل انشغال مِصر في أزمةٍ وجوديّةٍ بدأت تَطُل برأسها بقوّةٍ من الجنوب مُتمثّلةً في إصرار إثيوبيا على المُضي قُدمًا في تشغيل سد النّهضة ومِلء خزّاناته في غُضون ثلاثة أعوام ممّا يُهدّد ملايين الفلّاحين المِصريين بالمَجاعة، وفشل بنيامين نِتنياهو في الفوز الحاسِم في الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة، وازدياد شدّة خِناق حبل العَزل حول رقبة دونالد ترامب، وتراجُع احتمالات فوزه في الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة، وتعاظُم قوّة إيران ومحورها العسكريّة، وإعادة فتح “خط الحرير العسكريّ” الذي يمتَد من الصين حتى الضاحية الجنوبيّة في بيروت على ضِفاف المتوسّط، يجب أن تضع “المُراجعات” السعوديّة كُل هذه التطوّرات في عَين الاعتبار، وتتخلّى عن مُعظم، إن لم يكُن كُل السّياسات السّابقة التي أوقعتها في هذا الوضع الحَرِج.
نتمنّى أن يتوقّف التحالف السعوديّ الإماراتيّ عن تهنئة اليهود بعيد رأس السنة اليهوديّة، ولا يمتد إلى تهنئة إسرائيل بذِكرى “عيد” قيامها، أو بالأحرى، اغتصابها للأراضي العربيّة المُحتلّة، فهل تجِد تمنّياتنا هذهِ آذانًا صاغيةً؟ نأمل ذلك لأنّ البديل الآخر، أيّ المُضي قُدُمًا في هذا الطّريق سيَكون كارِثيًّا.. والأيّام بيننا.