السعودية إلى أين؟
عبد الله السناوي
السعودية أمام اختبارات وجودية لا سابق لمستوى خطورتها منذ تأسيس الدولة مطلع ثلاثينيات القرن الماضى.
هذه مسألة لم يعد هناك شك فيها بالنظر إلى الأزمات التى تحاصرها بالداخل والإقليم والعالم على السواء.
طبيعة علاقاتها مع حليفتها التاريخية الولايات المتحدة موضع سؤال وشك، فما كان شبه مستقر تنتابه هواجس المستقبل.
وحجم تراجعتها الإقليمية على أكثر من ملف فى وقت واحد موضع سؤال جديد وشك آخر فى قدرتها على الخروج بسلام عند توزيع حصص النفوذ والقوة فى الإقليم، أو رسم خرائط جديدة بعد الحرب على «داعش» وأية تسوية محتملة للأزمة السورية.
بالتوقيت فإن إبطال الكونجرس الأمريكى للفيتو الرئاسى على قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب»، المعروف باسم «جاستا»، إنذار يتجاوز ما هو قانونى إلى ما هو مصيرى.
هناك فرضية شائعة ترجع إصدار القانون وإبطال الفيتو لأسباب انتخابية قبل أى شىء آخر، طلبا لدعم الناخبين وتأكيدا على الالتزام بمحاربة الدول الراعية للإرهاب وشرعية مقاضاتها أمام المحاكم المحلية من أهالى ضحايا الحادى عشر من سبتمبر.
الفرضية لها نصيب من الحقيقة لكنها لا تعكسها بدقة.
بالأرقام: سيناتور واحد فى مجلس الشيوخ أيد «الفيتو الرئاسى» على القانون مقابل (٩٧)، بينما اعترض (٧٧) فى مجلس النواب مقابل (٣٤٨).
ذلك شبه إجماع له دلالاته الحاسمة على تدهور صورة السعودية لدى الرأى العام الأمريكى الذى ينتخب نوابه.
كما أن التوافق الكامل بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى على إبطال الفيتو الرئاسى يعنى فى ترجمة سياسية أخرى أن المؤسسة الأمريكية قد تعيد النظر جذريا فى علاقاتها مع السعودية ومستقبلها نفسه عند إعادة توزيع القوى والنفوذ ورسم الخرائط.
رغم أن القانون المثير للجدل يخترق الدستور الأمريكى، الذى يلزم المشرع بقواعد القانون الدولى فى حصانة سيادة الدول ومنع مقاضاتها أمام المحاكم الأجنبية، إلا أن الكونجرس بأغلبيته الساحقة مرر ما هو غير دستورى، وفى ذلك استباحة للحليف السعودى وللقانون الدولى معا.
الاستباحة بذاتها تؤشر لمقاربات جديدة محتملة.
لسنا فى مباراة بين محامين لإثبات الحق السعودى والافتراء عليها بتهم لم ترتكبها إذ لم يثبت على أحد من مسئوليها الكبار دعم وتمويل أحداث الحادى عشر من سبتمبر ــ وفق البيت الأبيض، فجوهر المشكلة فى السياسة لا القانون، فى الحسابات المتغيرة لا علاقات التاريخ.
قد يعاد النظر فى القانون لتجنب مزالق وأخطار تؤذى الولايات المتحدة وتدفع بملفات انتهاكاتها أمام محاكم أجنبية أخرى، غير أن «رسالة جاستا» رصاصة انطلقت ودوت وآثارها لن تتوقف عند السجال القانونى، أو القانون نفسه.
بالنظر إلى السياق فإنه لم تكن هناك مفاجأة كبيرة فى إبطال الفيتو الرئاسى واعتماد القانون على كل ما فيه من شبهات.
عند الكشف عن الاتفاق النووى مع إيران أبدت السعودية ودول الخليج الأخرى انزعاجا بالغا من أن يفضى إلى ترتيبات إقليمية جديدة يصعد بمقتضاه الدور الإيرانى على حسابها.
رغم محاولات إدارة «باراك أوباما» امتصاص ما تبدى من انزعاج، وجرت اتصالات بعضها بالغرف المغلقة وأخرى على مستوى القمة تحت أضواء الكاميرات فى البيت الأبيض، إلا أن الشكوك ظلت تراوح مكانها.
وقد كشف «أوباما» تاليا فى حوار مطول مع مجلة «ذى أتلانتيك» عن موقف سلبى من السعودية ووجه إليها سيلا من الانتقادات استدعت ردودا شبه رسمية.
لم يكن الأمريكيون مرتاحين للاندفاع السعودى بالسلاح والتمويل فى أزمات الإقليم، ولديهم شعور ما أن ذلك قد يورطهم فى مستنقعاته التى يريد الرئيس الأمريكى تجنبها.
بالقرب من الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة فإن المرشحين المتنافسين على درجة متقاربة من السوء فى الحسابات السعودية، «هيلارى كلينتون» تتبنى جوهر خيارات إدارة «أوباما» و«دونالد ترامب» سوف يذهب بعيدا فى الاستباحة، بنص تصريحات «ترامب» فإنه ينبغى على السعودية دفع مقابل حمايتها، وذلك يعكس مناخا عاما فى الولايات المتحدة لا يستثنى أحدا تقريبا، فالخلاف فى كفاءة الصياغات لا عمق التوجهات.
بمعنى آخر ليس من المتوقع عودة العلاقات الأمريكية السعودية إلى سابق عهدها، فقواعد اللعبة تتغير وحسابات المصالح تتعدل.
بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بدأت العلاقات واستمرت وتعمقت حتى أخذت مداها فى سنوات الحرب الباردة، فالولايات المتحدة تضع حقول النفط، كما أمن إسرائيل، على رأس أولوياتها، والسعودية تطلب المظلة العسكرية الأمريكية لحماية مواردها ونظام الحكم فيها.
هذه الصيغة طرأت عليها متغيرات، فما كان يمكن بحسابات المصالح النفطية غض الطرف عنه كتغلغل «الوهابية» فى بنية الدولة والمجتمع بات موضوع تساؤل فى الولايات المتحدة عن مدى مسئولية السعودية عن تفشى ظواهر وجماعات العنف والإرهاب.
المعضلة الأمريكية هنا أن ما هو منسوب للسعودية من اتهامات إداراتها المتعاقبة ضالعة فيها، مثل إرسال المجاهدين إلى أفغانستان لمحاربة القوات السوفييتية.
هكذا نشأت ظاهرة «أسامة بن لادن».
بالوثائق فإن المخابرات المركزية الأمريكية أشرفت على تلك اللعبة كلها، التى تورطت مصر فيها ودفعت ثمنا دمويا باهظا ممن سموا بـ«العائدين من أفغانستان».
ورغم أن الولايات المتحدة ولاعبين إقليميين آخرين، كتركيا، شجعت وحرضت على تسليح وتدريب وتمويل «جبهة النصرة» فى سوريا، التى خرجت من عباءة «القاعدة» وتتبنى أفكارها، فإنها تكاد تحمل السعودية المسئولية وحدها.
بمعنى آخر هناك طلب على أن تسدد السعودية الفواتير كلها، فاتورة الإرهاب والمسئولية عن تفشيه، وفاتورة الأزمة السورية وما بعدها من ترتيبات فى الإقليم.
إذا ما اهتزت السعودية فى بنيتها الداخلية، فالأيدى الأمريكية سوف تمتد بسرعة البرق إلى حوافظ المال وأصوله التى تتجاوز (٧٥٠) مليار دولار.
والمعضلة السعودية، وهى تواجه أخطر اختبار فى تاريخها، أن مناعتها الداخلية محل سؤال وشك إضافيين، فالصراع المحتمل على خلافة الملك «سلمان بن عبدالعزيز» يومئ لتشققات غير محتملة فى أوضاع حرجة داخل الأسرة المالكة.
ولى ولى العهد «محمد بن سلمان» جامح، ورط بلاده فى حرب لا يمكن حسمها بالسلاح فى اليمن، واستنزف موارد مالية انهكت الموازنة العامة مع تراجع أسعار النفط، وضغط من أجل نقل السيادة على «تيران» و«صنافير» من مصر إلى السعودية كشهادة استحقاق بجدارته فى نقل السلطة إليه مباشرة وإطاحة ولى العهد «محمد بن نايف».
فى مثل هذا الاحتمال فإن وجود السعودية كدولة موحدة سوف يكون أمرا شبه مستبعد بالنظر إلى مستجدات الحليف الأمريكى والأزمات الإقليمية المتفاقمة التى تتعثر فيها بفداحة من اليمن وسوريا إلى العراق حتى لبنان.
لا وقت أمام السعودية لاستعراضات قوة لا تقدر عليها، ولا ادعاء قيادة لا تتوفر مقوماتها.
ما تحتاجه أن تتسع نظرتها لضرورات الإصلاح الداخلى، فلديها طبقة وسطى متنامية ونخب حديثة تطل على العالم، وأن تعمل على بناء موقف عربى يحمى ويصد، بالاقتناع لا بأى وسيلة أخرى معتادة.