"التجحيش" ودور "المحلل" السياسي
حلمي الأسمر
تحدّيات أمام غوتيريس.. المدير الجديد للعالم
كثر المحللون السياسيون والكتّاب، حتى باتت "مهنة" المحلل السياسي تصرف بغير علم ولا فهم، لكل من هبّ ودب، وخصوصاً في قنوات الحوار والأخبار، حيث تحتاج ساعات البث الطويلة، وتلاحق الأحداث إلى "محللين" سياسيين، يقرأون الحدث ويعلقون عليه ويستنبطونه، بعلم أو بغير علم، بل إنك صرت تقرأ أن فلاناً "خبير" بالشؤون الإيرانية، وهو لم يصل يوماً إلى طهران، ولا يعرف ولو كلمة من اللغة الفارسية، وقل مثل هذا عن "الخبراء" بالشأن الإسرائيلي أو التركي. وأكثر ما يغيظك من يسمون خبراء في "الجماعات السلفية والجهادية"، وأغلب هؤلاء أدعياء يهرفون بما عرفوا من علم قليل سطحي عن هذه الجماعات، ويزعمون أنهم عالمون ببواطن الأمور، طلبا للاسترزاق من هذا العلم المُدّعى.
سؤال "شو في ما في؟" في بلاد العرب مثلا، سؤال طُرح على جهاز الكمبيوتر، في سياق نكتة تُروى، فانفجر الجهاز ولم يحتمل السؤال، ولم يقم بدور المحلل أو المحرِّم السياسي. والحقيقة أن هذا السؤال دائم الطرح ممن يتطلعون إلى معرفة ما يجري، خصوصاً حينما يقابلون إعلامياً، أو شخصاً "يفك الحرف"، ويتابع الأحداث، بزعم أنه "محلل سياسي"، وتختلف الأجوبة عادةً، وفقا لمستويين من المتابعة. الأول، من يعتبرون أنفسهم جزءاً من الحدث السيار، ويتعقبون القصص الإخبارية من خلف الستار ومن أمامه، ويعملون على التواصل الحار(!) مع من يلعبون على المسرح وخلف الكواليس، وهؤلاء أشبه ما يكونون بآلات التسجيل الصمّاء، فهم جزء من "اللعبة"، وعادة ما يُلقنون ما يُراد أن يصل إلى جمهور القراء أو "السميعة"، بل ربما يتم تسخير هؤلاء لكي يسعوْا بين الناس بما يجب أن يسود من علم، وما يجب ألا يعرفه أحد. المستوى الثاني هم من ينأون بأنفسهم عن الاستغراق في التفاصيل، وإرخاء السمع للقيل والقال في دواوين السياسة والنميمة التي يحلو للمتقاعدين من الفعل، ومن الحياة ربما، أن يرتادوها. ويحاول هؤلاء عدم الغرق في تفاصيل الأحداث، كي يتمكنوا من تحليلها، والخروج برؤىً أقرب ما تكون الى الاستشراف، والتنبؤ بالمستقبل.
يبدو المثل الأكثر تمثيلا لهذا التنظير، بشكل جلي، لمن تصدّوا للحديث أو الكتابة عن ظاهرةٍ اصطلح على تسميتها "الثورات العربية" أو "ثورات الربيع العربية"، ولا أجد قضيةً اختلف الناس في تقويمها، ووصفها، مثل هذه الظاهرة، بل إن القوم ليختلفون على التسمية ذاتها، فهم بين ساخرٍ منها ولاعن، وبين مادح ومستبشر، ولعل سبب هذا التباين في موقف الناس من هذا الملف أن جميع من تحدّث فيه كان غارقاً في الحدث، على نحو أو آخر، بمعنى آخر. إننا
"أغلب من يسمون خبراء في "الجماعات السلفية والجهادية" أدعياء يهرفون بما عرفوا من علم قليل سطحي" جميعا كنا جزءاً من هذه "الثورات"، سواء من شارك أو وقف متفرجاً، من استبشر ومن ابتأس، من وقف ضد أو مع، من قاومها ومن سحقت جمجمته لأنه جزء منها، كل هؤلاء كانوا، على نحو آخر، جزءاً من العملية. لذا، يصعب على أيّ منهم أن يقوّمها على نحو محايد، وعلمي، بل إن تفاعلات هذه الثورات لم تزل قائمة، ونتائجها لم تحسم بعد. لذا، من الصعب على أي مستشرفٍ أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأحداث في المآلات النهائية لهذا الحدث الضخم الذي لم ينته بعد، ولن ينتهي في القريب العاجل، بدليل أن الساحات التي ضربها هذا الحدث لم يزل بعضها مثل كرةٍ من لهب، فيما لم تستقر الأوضاع في بعضها الآخر، ولم تأخذ شكلها النهائي بعد، كما أن من قاومها بقوة لم تزل أصابعه على الزناد، مستنفراً خشية أن يتجدّد أوارها.
ما يغيب عن ذهن من يسارع إلى الحكم على تلك الظاهرة الفريدة، سلباً أو إيجابا، أنها كانت "حراكاً" سياسياً واجتماعياً معقداً جدا، ويلزم لتحليله ودراستها واستشراف مآلاته الحقيقية أن يمرّ وقت طويل، لتبرد الرؤوس التي تفكّر فيها، أو كانت جزءاً منها، مشاركةً أو مقاومة، ولكل حساباته ومصالحه. ولكن، ما لا خلاف عليه لدى أي من هذه الأطراف، أنها كانت حدثاً كبيرا، يحمل من الأسرار أكثر بكثير مما يحمل من المعلومات المعروفة.
وبمناسبة حلول فصل الخريف، يثور السؤال مجدّدا: هل كانت الثورات العربية ربيعا أم خريفا أم شتاء؟ أم مزيجا معقدا من كل هذه الفصول؟ المؤكد أنه لا وجود لـ "موجةٍ" وحيدة تعبر البحر لتستقر على الشاطئ، من دون أن تتلوها موجاتٌ أخرى، إنه قانون البحر الذي يُخفي عادة أكثر بكثير مما يُظهر، وكذا هي المجتمعات البشرية. ويجتهد المفكر العربي بشير نافع، ويقول لوكالة الأناضول التركية للأنباء إننا الآن في مرحلة ثانية (من ثورات الربيع العربي)، فهناك موجة أولى من الثورة، ثم هناك موجة ثورة مضادة. ويعتقد أن عملية التغيير مستمرة عشرة أو خمسة عشر عاماً، والقصة التي بدأت في 2011 لم تصل إلى خاتمتها بعد؛ لكن الأمور ليست في صالح الثورة المضادّة، ويلاحظ أنه لم يعد بالإمكان إعادة توليد دولة ما قبل 2011، ولا النظام الإقليمي لما قبل العام نفسه؛ فلا يمكن العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الثورات، وصناعة استقرار على هذا الأساس، لأن ذلك الوضع انتهى وأفلس، ولهذا اندلعت الثورات. وكـ "محلل حقيقي"، يرى نافع أن "من الصعب التنبؤ بمآلات الأمور في الدول العربية؛ حيث أننا نعيش في منطقةٍ متغيرة باستمرار، منطقةٍ بالغة القلق، تلعب فيها قوى محلية ودولية وإقليمية متعددة، ودخلت في مجال تعقيد غير مسبوق. فلا أحد لديه تصور دقيق عمّا يمكن أن يحدث فيها؛ وفي الوقت نفسه لا يجب استبعاد الحراك الثوري الشعبي من المشهد".
هذا نموذج لرؤيةٍ غير مرتهنةٍ لجهة ما، وخالصة للمشهد التاريخي، على عكس من يسارعون إلى الفتوى والجزم بـ "الحتميات" التي تخدم دوائر صنع الحدث وتوجيهه، و"تبليع" الناس حبوب الغيبوبة. وبالتالي، الامتثال لمشيئة الاستبداد، وهو ما يفعله "محللون" هم أقرب إلى مهنة المحلل بالمفهوم الشرعي الذي يُؤتى به زوجاً صورياً، لتمكين من طلق زوجته ثلاثاً للعودة إليها، أو ما يعرف بالتجحيش، في بعض المجتمعات العربية.