من دعم ترامب إلى حملات الكونغرس.. دليل للنفوذ السعودي بواشنطن
في هذه المرحلة، يبدو أن الأدلة حول تورط ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان" في التصريح بقتل الصحفي "جمال خاشقجي"، باتت واضحة على الأرجح.
وبعد شهادة مديرة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "جينا هاسبيل" أمام الكونغرس في وقت سابق من هذا الأسبوع، قال السيناتور "بوب كوركر" للصحفيين إن أي هيئة للمحلفين سوف تدين بن سلمان "في غضون 30 دقيقة".
ولا يزال التحفظ الوحيد قادما من الرئيس "ترامب" الذي لا يزال متمسكا بموقفه الداعم للقضية السعودية، حتى في مواجهة معارضة من وسائل الإعلام والكونغرس ووكالات الاستخبارات الخاصة به.
في الواقع، يزداد تركيز المحقق الخاص "روبرت مولر" على أموال الخليج، ومع دعم ترامب المتكرر للسعوديين والإماراتيين في الشؤون الإقليمية والدولية، ربما يقودنا التفكير أن هذه الدول - وليست روسيا - هي التي لديها نفوذ لا مبرر له على الرئيس مع وجود إشارات حول روابط مشبوهة بنيت خلال وبعد انتخابات عام 2016 وضمت شبكة من التدفقات المالية والروابط الشخصية أنتجت الإدارة الأكثر تأييدًا للسعودية في تاريخ الولايات المتحدة.
لطالما اتبعت الولايات المتحدة سياسة موالية للسعودية في الشرق الأوسط، وهي من بقايا إرث الحرب الباردة عندما اعتمدت الولايات المتحدة بشدة على السعوديين لمواجهة النفوذ السوفييتي.
وكثيرا ما قادت الأهمية الجيوسياسية للمملكة العربية السعودية ومكانتها كمنتج للنفط في العالم، صناع القرار في الولايات المتحدة إلى الحد من الانتقادات الموجهة إلى المملكة العربية السعودية، حتى عندما ظهر أن 15 من الخاطفين الـ19 في 11 سبتمبر/أيلول كانوا مواطنين سعوديين.
وعلى سبيل المثال، فإنها دفعت إدارة "جورج دبليو بوش" للحفاظ على العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة والسعودية في حين انتقدت سرا دعم السعودية للتطرف الديني.
ومع ذلك، فإن إدارة "ترامب" قد تبنت رؤية شديدة الانتقائية بشأن المملكة العربية السعودية.
في مايو/أيار 2018، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن تحقيق "مولر" في التأثير الأجنبي في انتخابات عام 2016 لم يكن ينظر إلى التدخلات الروسية فقط، بل إلى التأثير المحتمل لدول الشرق الأوسط حيث بدا أن وسطاء إماراتيين سهّلوا اللقاءات بين مسؤولون روس، وأعضاء فريق ترامب الانتقالي، سرعان ما اتسعت العدسة لتشمل مستشارًا للحكومة الإماراتية يدعى "جورج نادر"، وهو رجل أعمال لبناني - أمريكي ساعد في إقامة اجتماعات في برج "ترامب" مع مبعوثين للقادة السعوديين والإماراتيين، ومسؤولين رئيسيين في فريق "ترامب" من بينهم "ستيف بانون"، و"غاريد كوشنر".
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المستشار الخاص مهتم بعمل "نادر" بالنيابة عن القادة السعوديين والإماراتيين، حيث قام بتوجيه مبلغ 2.5 مليون دولار على الأقل من أموال الخليج إلى المتبرع الجمهوري "إليوت برودي"، ويبدو أن البعض منها قد استُخدم للضغط على المناهضين لحصار قطر.
وقد أشار تقرير منفصل لصحيفة "نيويورك تايمز" في مايو/أيار 2018 إلى مؤتمرين في واشنطن العاصمة عرضا وجهات نظر مناهضة لقطر من قبل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD)، ومعهد هدسون.
كما يقوم المحامي الخاص بالتحقيق في رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بـ"جون هانا"، وهو مستشار كبير في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، ومستشار سابق لـ"ديك تشيني"، ومسؤول انتقالي عمل لدى "ترامب" ورتب علاقاته مع "نادر" ودول الخليج.
وخلال الفترة التي قضاها في الفريق الانتقالي، ساعد "هانا" في ترتيب اجتماع لمناقشة إمكانية تغيير النظام في إيران بين "نادر" ومستشار الأمن القومي السابق "مايك فلين"، والجنرال السعودي "أحمد عسيري".
بناء النفوذ
وحتى الآن، هناك القليل من الاتهامات بالتواطؤ الانتخابي أو المقايضة (من النوع الذي يتخيله النقاد مع روسيا) بين دول الخليج وحملة "ترامب"، على الرغم من الأنباء حول ذلك الاجتماع أبلغ فيه "نادر" نجل الرئيس "دونالد ترامب الابن" أن "محمد بن سلمان" و"محمد بن زايد" - الحكام الفعليين للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة - كانا حريصين على رؤية والده يفوز في الانتخابات، لكن لا يوجد دليل على أي مساعدة.
ومع ذلك، هناك نمط واضح من الجهود لشراء النفوذ، غالبًا ما كان سريا، وهناك أيضا شبكة من الوثائق التي تربط السعوديين والإماراتيين بالإدارة، وداعميها الوثيقين، وعائلة "ترامب".
بعض ذلك النشاط كان نشاطا تجاريا مشروعا، فعلى مر العقود، حقق "ترامب" بلا شك الملايين من المضاربين العقاريين في دول الخليج حتى أنه أشار لذلك علنا خلال حملته الانتخابية قائلا: "إنهم يشترون الشقق مني، ينفقون 40 مليون دولار، 50 مليون دولار هل من المفترض أن أكرههم؟".
وكانت دول الخليج من بين أكبر المنفقين في فنادق ومنتجعات "ترامب" منذ انتخابه.
وفي أغسطس/آب من هذا العام، عكس فندق "ترامب" في نيويورك أخيرا اتجاه الانخفاض في الإيرادات الذي استمر لمدة عامين عندما دفع "محمد بن سلمان" وحاشيته أسعارا متميزة للإقامة، كما كانت الحكومة السعودية من بين أكبر المنفقين في فندق "ترامب" في واشنطن العاصمة، حيث أنفقت 270 ألف دولار في عام 2016 وحده.
وعلى الرغم من أن مؤسسة "ترامب" قد وعدت بأن جميع الأرباح المستلمة من الحكومات الأجنبية في هذه العقارات سيتم التبرع بها إلى الخزانة، فإن الخبراء يعارضون هذه الطرق في جني المال، مؤكدين أن الرئيس سيستمر في جني الأرباح من الإنفاق الأجنبي.
ويستفيد العديد من مؤيدي "ترامب" الأكثر نفوذاً -مثل "برويدي" أو المستثمر "توم باراك"- بشكل جيد من العلاقات التجارية والمصالح في دول الخليج.
وتجعل السرية التي تحيط بشؤون "ترامب" المالية من الصعب معرفة مدى اتساع هذه الروابط.
وخلال العاصفة التي تلت وفاة "خاشقجي"، قال "ترامب" إنه ليس لديه مصالح مالية في المملكة العربية السعودية.
وكما لاحظ العديد من الصحفيين، يمكن أن يكون الادعاء صحيحًا من الناحية الفنية، وبعبارة أخرى، لا توجد استثمارات فعلية لـ"ترامب" داخل حدود البلاد، ومع ذلك يبقى ادعاء "ترامب" مضللا بالنظر إلى أن الكثير من عملاء شركات "ترامب" هم من السعوديين.
وكالعادة، يزيد أفراد عائلة "ترامب" من تعقيد الصورة، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية على سبيل المثال، حاولت عائلة "كوشنر" إعادة تمويل أو بيع ممتلكاتها العقارية الكارثية في نيويورك عبر استثمارات قطرية، ولكن الدوحة رفضت الاستثمار في عقارات "كوشنر"، وهي حقيقة يصعب اعتبارها غير ذات صلة عند تقييم عداء صهر "ترامب" غير المعتاد تجاه الدوحة.
العلاقات الشخصية
لا شك أن المال ليس هو الشيء الوحيد الذي يربط إدارة "ترامب" مع دول الخليج، وكما هو الحال مع أي إدارة، تلعب العلاقات الشخصية دورًا.
وقد منح السعوديون "ترامب" معاملة خاصة خلال رحلته إلى الرياض العام الماضي، وهو عنصر أساسي في الفوز بمزاج الرئيس الزئبقي، وبحسب ما ورد قام "كوشنر"، صهر الرئيس، ببناء صداقة مع "محمد بن سلمان".
علاوة على ذلك، كان هناك تقارب سياسي حقيقي بين الجانبين، ومن "مايكل فلين" إلى "جون بولتون"، كانت إدارة "ترامب" مليئة بذلك النوع من صقور إيران الذين يبهجون صانعي السياسة في الخليج.
في هذه الأثناء، كان موقف الإدارة الموالي لـ(إسرائيل) والمؤيد لحزب الليكود مفيدا في الوقت الذي تحاول فيه دول الخليج بناء شراكة إقليمية أقوى مع (إسرائيل) ضد إيران.
ويبقى أن نرى ما إذا كان تحقيق "مولر" سيحل طلاسم شبكة الأموال التي تربط إدارة "ترامب" بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لكن الشبكة أنتجت بوضوح فوائد للسياسات الخليجية عبر إدارة أمريكية تدافع بشكل واضح عن كل أولوية رئيسية للسياسة الخارجية السعودية.
خذ إيران على سبيل المثال، حيث سحب "ترامب" الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وأعاد فرض العقوبات رغم أن القرار لاقى معارضة من قبل حلفاء أمريكيين آخرين، ومن الصين، روسيا ، ومن معظم المتخصصين في مجال التسلح والمتخصصين الإقليميين، وحتى وزير دفاعه ووزير خارجيته.
ومع ذلك، نال القرار دعم القادة السعوديين والإماراتيين الذين يعارضون نفوذ إيران الإقليمي ، وكانوا مستعدين لملء الفراغ من خلال تعزيز إنتاجهم النفطي ردا على العقوبات المفروضة على النفط الإيراني.
وقد انحاز "ترامب" إلى السعودية أيضا خلال أزمة مجلس التعاون الخليجي التي اندلعت في عام 2017، ومع قيام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بحصار قطر، قام "ترامب" بالتغريد مؤيدا الحصار.
ومرة أخرى، كان مسؤولو الإدارة الأبرز أمثال وزير الدفاع "جيمس ماتيس" معارضين للحصار، وسعوا للتوسط لإنهاء الأزمة. وتدخل وزير الخارجية "ريكس تيلرسون" في محاولة لمنع الغزو السعودي لقطر.
وفي وقت لاحق، أشارت رسائل البريد الإلكتروني التي تسربت إلى أن السعوديين استخدموا نفوذهم مع الرئيس (ومع "كوشنر").
وأظهرت الإدارة دعمًا لا يتزعزع للحرب التي قادتها السعودية في اليمن، وهي كارثة إنسانية مستمرة، وهي تواصل تسليح ودعم التحالف الذي تقوده السعودية رغم التقارير المتكررة عن جرائم الحرب السعودية.
حتى القرار الأخير بإنهاء دعم التزود بالوقود للحملة لم يتحقق إلا بعد ضغط متواصل من الكونغرس، وفي الواقع، عملت الإدارة بنشاط مع قيادة الكونغرس لإغلاق مشاريع القوانين التي من شأنها إنهاء الدعم الأمريكي للصراع.
وتعد مبيعات الأسلحة مجالا آخر استفادت فيه دول الخليج خلال إدارة "ترامب"، على الرغم من أن الرئيس نفسه يحب تصوير هذه المبيعات باعتبارها حيوية لاقتصاد الولايات المتحدة، إلا أن الفوائد المالية والوظائف الفعلية ضئيلة.
وبدلاً من ذلك، فإن هذه المبيعات مفيدة بشكل كبير للحكومة السعودية، مما يسمح لها بالوصول إلى الأسلحة المتقدمة وتجديد مخزونات التسلح، وتشير التقارير الأخيرة إلى أن "كوشنر" تعمد تضخيم القيمة المعلنة لمبيعات الأسلحة إلى المملكة من أجل تعزيز الشراكة.
ولعل الإشارة الأكثر لفتا للاستعداد المفرط الذي أبدته الإدارة للانحناء أمام المصالح السعودية يتمثل في رفضها انتقاد مقتل "خاشقجي"، وهو كاتب عمود واشنطن بوست ومقيم أمريكي قتل في القنصلية السعودية في إسطنبول. ومع أي إدارة أخرى، كان من شأن هذا الإجراء أن يثير إدانة واضحة واستجابة سياسية، أما في عهد "ترامب"، فأبدت الإدارة شكوكها تجاه تقارير وكالات الاستخبارات الخاصة بها، بينما حافظت على دعمها للقادة السعوديين.
مدى التأثير
إلى أي مدى كانت أي من هذه القرارات نتيجة مباشرة للأموال والنفوذ من دول الخليج؟ قد لا نعرف أبدا مدى الروابط المالية بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وأعمال "ترامب"، وأسرته، والمانحين.
وعلى الرغم من أن تقرير "مولر" قد يوضح في النهاية بعض هذه الأسئلة، فإن معظمها يقع خارج النطاق المتوقع للتحقيق.
والأهم من ذلك، أنه من الصعب التمييز بين التأثيرات التي وقعت أثناء إدارة "ترامب" وبين المحاولات العامة من قبل هذه الدول لشراء نفوذ صنع القرار هنا في العاصمة.
وكما يتضح من تقرير حديث صادر عن مركز السياسة الدولية (CIP)، فإن الضغط السعودي في واشنطن قد ازداد بشكل كبير في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة حيث كلف 27.3 مليون دولار في عام 2017 وحده، وبالإضافة إلى الأموال التي تذهب إلى جماعات الضغط التقليدية، يذهب التمويل السعودي أيضا إلى مراكز الأبحاث والجامعات والمؤسسات الأخرى التي يمكن أن تؤثر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
على الرغم من القواعد المتعلقة بتمويل الانتخابات، فإن بعض هذه الأموال على الأقل تذهب إلى السياسيين: يشير تقرير مركز السياسة الدولية إلى أن أكثر من ثلث أعضاء الكونغرس تم الاتصال بهم من قبل شركات الضغط التي تعمل نيابة عن الحكومة السعودية مثل "Glover Park Group" أو "DLA Piper".
وكما يشير التقرير "في حين أنه من المحظور على المواطنين الأجانب تقديم مساهمات في الحملات السياسية، فقد استخدم السعوديون لوبيات محلية للقيام بذلك من أجلهم".
إن وجود هذا المال الأجنبي المتدفق في واشنطن يثير مخاوف جدية بشأن استقلال السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وقد وعد "آدم شيف"، الرئيس القادم للجنة الاستخبارات في مجلس النواب، بالتحقيق في هذه العلاقات، على الرغم من أنه من المستحيل معرفة المدى الذي تؤثر به الأموال والعلاقات على السياسية الأمريكية.
ورغم ذلك، لا أحد يستطيع أن ينكر أن المال يلعب دورًا، وعندما ينتهي "مولر" من عمله، فإن هناك أمرًا واحدًا أصبح واضحًا؛ هو أنه ليس التدخل الروسي فقط في السياسة الخارجية الأمريكية هو ما يجب أن يثير القلق في واشنطن.