استحقاقات السياسات المحلية والإقليمية تهدد الرياض
د. سعيد الشهابي
بعد عقود من الخوف والتردد والحيطة المفرطة، قررت مجموعات عديدة من الشباب إعادة تحريك مطالب الاصلاح والتغيير في الجزيرة العربية.
هذه المنطقة التي كرمها الله بمحمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة والسلام ترفض ان تبقى متخلفة عن ركب الحرية التي كانت الشعار الاول لخاتم الانبياء الداعي للتوحيد الخالص ونبذ ثقافة الاصنام او الاستسلام لأصحاب المال والسلطان.
لكن شاءت الاقدار ان تكون آخر من يلحق بركب الحضارة خصوصا في مجال الحكم والعلاقات العامة خصوصا مع الجيران، ولكن هل هذا قدر هذه المنطقة من العالم؟ وهل التاريخ يعيد نفسه؟
في عهد الرسالة انقض تجارها على الدعوة المحمدية للحرية والانعتاق والتوحيد وخاضوا حروبا عديدة لوأدها. وفي الوقت الحاضر لم يتردد حكامها الحاليون في الانقضاض على شعوب العرب التي انطلقت قبل ثمانين شهرا لتكسر القيود والاغلال.
بل لم يخف هؤلاء الحكام تحالفهم مع اعداء أمة محمد عليه افضل الصلاة والسلام للتصدي لدعوات التحرر من الظلم والاستبداد وانهاء الاحتلال. فما اشبه الليلة بالبارحة وما أتعس حظوظ الملايين الذين يئنون تحت وطأة الظلم والديكتاتورية والتخلف.
إن من غير المنطقي والانصاف اتهام أبناء جزيرة العرب بالجبن او الاستسلام للقمع والاستبداد، ومن يفعل ذلك فانه يتجاهل حقائق التاريخ الحاضر على الأقل. فالسجون المكتظة بقاطنيها تؤكد ان هناك قلوبا مفعمة بحب الوطن والحرية تحركت ضد الظلم فكان نصيبها التنكيل والتعذيب.
أكثر من 20 الف سجين سياسي في جزيرة العرب، و اكثر من أربعة آلاف في البحرين، والمئات في سجون الامارات، واكثر من ستين ألفا في مصر. ألا يعني ذلك ان ضمائر شعوب تلك البلدان لم تمت؟
صحيح ان هناك من باع نفسه للشيطان وتحالف مع الظالمين وتصالح مع المحتلين ورضي ان يكون اما اداة للسجانين والمعذبين، او صوتا منافقا ينطق بمجاملة الطغاة والتعدي على ضحاياهم.
عندما اطلقت الدعوة قبل اسابيع لحراك جديد في الجزيرة العربية في 15 سبتمبر، لم يكن ذلك الا تعبيرا عن حالة احتقان واسعة، وإحباط من قيام نظام الحكم بإصلاح نفسه.
هذه الدعوة اطلقها شباب الجزيرة برغم علمهم ان حكامهم انفقوا مئات المليارات في الشهور الاخيرة فحسب لشراء موقف امريكا ودعمها، واستيعابهم للخطر الذي يداهم من يطلق اية دعوة للتمرد على الوضع الراهن الذي يتميز بالقمع المفرط.
ويكفي ان عدد الذين قطعت رقابهم في 30 عاما (1985 ـ 2016) حسب احصاءات منظمة العفو الدولية تجاوزت 2000 شخص. وبموازاة ذلك فان ما أهدر في هذا العام من أموال البلاد في تمويل الحروب والعنف والتآمر على الدول المجاورة والتآمر ضد بلدان اخرى يتجاوز الموازنة السنوية للدولة كلها.
في الوقت نفسه يعاني المواطنون أوضاعا إقتصادية صعبة خصوصا بعد رفع الدعم في الأعوام الثلاثة الأخيرة عن الكثير من السلع الأساسية.
ويدرك الشباب الداعون للحراك الميداني أن عائدات النفط وجزءا كبيرا من الاحتياطات المالية الخارجية قد سخرت للتصدي لمن تسول له نفسه ليس بمحاربة نظام الحكم بل من يجرؤ على انتقاده او الاحتجاج ضده.
وتحقيقا لذلك، تمت إعادة صياغة العديد من المفاهيم والقيم والمبادئ كما يلي:
أولا: تمت هيكلة الوضع الديني بما يتيح للنظام استحصال اية فتوى يريدها. فما ان اعلن عن حراك 15 سبتمبر حتى صدرت الفتاوى من علماء البلاط بالتقول على الدين وتحريم الاحتجاج والتظاهر. فقبل يومين من الحراك المزمع اطلق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، رئيس هيئة كبار العلماء الفتوى فتوى بثتها وسائل الاعلام بتحريم ذلك قائلا:
«يا أيها المسلم والمسلمة، اعلم أن هذه الدعوات ضدك، وضد أمنك ودينك وعقيدتك وأخلاقك.. واعلم أنها من دعوات الجاهلية والضلال؛ فيجب تأييد الدولة في ما تقوم به من أجل الأمن والاستقرار، وما تبذل من جهود في سبيل راحة المواطن».
هنا تتحول الفتوى الدينية إلى اداة قمع فاعلة لتحييد قطاعات واسعة من الشعب وتخديرهم بمقولات تنسب إلى الدين بدون دليل شرعي على ذلك. هذه الفتوى شبيهة بالفتوى التي اصدرها 500 من العلماء الذي جمعتهم السعودية بعد اجتياح القوات العراقية اراضي الكويت في 1990 واصدروا فتوى بجواز الاستعانة بالقوات الاجنبية لـ «تحرير» الكويت.
ثانيا: تسعى السعودية وحليفاتها لفرض تعريفات جديدة لمفهوم الإرهاب، لتبرير استهداف معارضيها. وذكرت صحيفة «التايمز» البريطانية يوم الجمعة الماضية بعض تعريفات الإرهاب في القاموس السعودي. فقد بث المدعي العام رسالة تعرف الإرهاب بأنه «النية لعرقلة النظام العام وتعريض الوحدة الوطنية للخطر».
ثم اعاد بث التعريف موسعا ليشمل «تعريض الوحدة الوطنية للخطر، إعاقة النظام الاساسي للحكم أو بعض مواده، تشويه سمعة الدولة او موقعها، أي عمل يرتكب من قبل شخص مجرم او مجموعة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بهدف التأثير على النظام العام او تقويض امن الدولة او المجتمع».
وما أبعد هذه التعريفات عن الشائع في اذهان البشر عن ظاهرة الإرهاب وتعريفها. انه تجريم للعمل السياسي المعارض الذي يهدف، كما هو في النظام الديمقراطي، لاسقاط الحكومات المنتخبة القائمة واستبدالها بحكومات اخرى يتم انتخابها عبر صناديق الاقتراع.
إن تشويش المبادئ وتعريفها بهذه الاساليب لا يخدم الامن والسلم الدوليين، لأنه يستثني الإرهاب الحقيقي ويحول دون العمل السياسي المعارض الذي يهدف للتغيير واصلاح أوضاع البلدان اما بتعديل القوانين او تغيير الحكومات او البرلمانات.
ثالثا: ادركت السعودية منذ زمن اهمية الاعلام في التأثير على الرأي العام وتوفير حماية لنظام الحكم، فأسست اكبر امبراطورية إعلامية في الشرق الأوسط لتحقيق ذلك. ووفرت الحرب الاهلية اللبنانية في منتصف السبعينيات فرصة لبناء تلك الامبراطورية انطلاقا من لندن التي زحف اليها الاعلاميون اللبنانيون بأعداد كبيرة هربا من جحيم الحرب الاهلية.
هذا الاعلام وفر وسيلة تأثير واسعة على الرأي العام خصوصا داخل الجزيرة العربية. مع ذلك اثبت الوعي الجمعي للشعوب العربية في البداية انه يستعصي على محاولات التضليل او التزييف او التخدير، فرفض استقدام القوات الاجنبية لشن حرب على القوات العراقية في الكويت في 1990 ـ 1991 وانطلقت التظاهرات والاحتجاجات في اغلب العواصم العربية ضد التدخل الاجنبي بقيادة امريكا، ولم تحقق الامبراطورية الاعلامية اهدافها.
لكن الامر تغير بعد عقدين من الزمن. فكان من وسائل قوى الثورة المضادة للتصدي لثورات الربيع العربي تغيير مساراتها لتتحول إلى أعمال عنف وإرهاب دمرا المجتمعات التي انتفضت ضد الديكتاتورية، فتغير المزاج العام سلبا وحدثت سباقات من أجل استرضاء الولايات المتحدة لتوفير الدعم العسكري للاطاحة ببعض الانظمة.
اليوم أصبح ذلك التدخل وسيلة لاستهداف الحركات السياسية المعارضة للحيلولة دون تحقق التحول الديمقراطي المنشود. وتغير المزاج العام بعيدا عن المبدئية خصوصا في ما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي.
السعوديون اعادوا قراءة الربيع العربي وايديولوجية المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، مستعينين بالخبرات الاجنبية خصوصا الاسرائيلية، ليصلوا إلى نتيجة مفادها ضرورة استهداف التيار الإسلامي المتشبث بالقضية الفلسطينية ويعتبر المسجد الأقصى مصداقا لذلك التشبث.
وعلى مدى الثمانين شهرا الماضية ركزوا استراتيجيتهم الامنية لتحقيق ما يلي: تقوية الأمن الداخلي بالاستعانة بخبرات اجنبية، توجيه ضربات استباقية للاتجاهات الديمقراطية والتحررية، استهداف التيارات الإسلامية التي تمثل تهديدا للاستبداد والقمع وما يمثله نظام الحكم السعودي من عداء للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، تمتين الروابط بالقوى المعادية للتغيير في المنطقة خصوصا «اسرائيل» والتحالف الانكلو ـ امريكي.
الحفاظ على ثقافة تشويش الاذهان وخلط المفاهيم وتداخل القيم، لينشغل دعاة الاصلاح والتغيير بحوارات وسجالات عبثية لا تستطيع التوصل لنتائج تمثل مشروعا سياسيا فاعلا.
أخيرا تعميق ظاهرة القمع السياسي للمعارضين على تعدد انتماءاتهم المذهبية واعادة تشكيل بيئة شعبية وجماهيرية عامة ترفض اي حراك ميداني من اجل التغيير اما نتيجة الجهل او الخوف.
٭ د. سعيد الشهابي كاتب بحريني
المصدر | القدس العربي