القطيف ترسم بالشهادة صمود أهلها رغم العَسف السعودي

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 34
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

كميل الحسن 

على موعد مع الشهادة. هي حال القطيف، المنطقة التي لم تحيد عن مسار مقارعة الظلم والاضطهاد، منذ عقود خلت وحتى اليوم. تتبدل أشكال التعبير عن رفض سياسات الظلم إلا أن الثبات يبقى سيد الموقف. فمنذ انتفاضة المحرم المجيدة لعام 1400 للهجرة (على سبيل المثال لا الحصر) إلى انتفاضة الكرامة الثانية عام 2011م، محطات لا تزال تداعياتها مستمرة، بخاصة الأخيرة، التي لا شك أنها تؤرق النظام السعودي حتى اليوم، وخير دليل على ذلك، الإصرار على إعدام معتقلي القطيف على خلفية مشاركتهم في الحراك المطلبي السلمي. في 30 يونيو/حزيران 2024، أعدم النظام السيد محمد أسعد الشاخوري، ابن مدينة العوامية في القطيف اعتقل في يوليو 2016. ثمانية أعوام قضاها معتقل الرأي بين زنازين سجن المباحث السياسي، زج به في الانفرادية وعانى ما عاناه من تعذيب واضطهاد وتنكيل، لعل جسده لا يزال يحكي قصصا من مشاهد السياط والصعق الكهربائي والتعليق بالأيدي والأرجل إلى إطفاء أعواد السجائر، قصصا أراد منها المحققون إجباره على التوقيع على محاضر التحقيق بكل ما تحويه من اتهامات ملفقة، تهدف إلى بكليتها إلى إدانة المعتقل بغية إيجاد سبيل للنظام للخروج من جريمته أمام ما يسمى “مجتمعا دوليا”. معتقلون، مهددون بالإعدام، وشهداء الشهيد السيد الشاخوري من العوامية في القطيف. لم يكن اسمه مدرجا ضمن قوائم المعتقلين، التي وثقتها منظمات حقوقية ونشطاء ومصادر محلية، تعمل على رصد قضايا معتقلي الرأي من أبناء المنطقة التي تواجه صيغا من العَسف السعودي. وهو ابن عائلة مثابرة وصابرة ومحتسبة، تتلقى اضطهاد النظام بكل احتساب، وتقف شامخة عند كل امتحان. يتوزع أشقاء الشهيد بين معتقل ومهدد بالإعدام ومفرج عنه، حيث يقضي السيد مهدي 25 سنة في السجن، يتهدد الإعدام الوشيك شقيقه السيد عدنان، وحتى أبناءهم ليسوا بمأمن من التنكيل العسكري، مع اعتقال السلطات لنجله أسعد الذي قيّد وعدد من الأطفال في مارس 2022، خلال احتفالات ما يسمى “يوم التأسيس” المستحدث للسلطات السعودية بقيادة سلمان وابنه محمد في سياق أزمة البحث عن هوية، بعد أن احتج بعفوية الأطفال وأعرب عما بداخله من ألم وقهر وظلم جراء تهديد أبيه وأعمامه، غير أن النظام يبتكر مسوغاته، لتنفيذ جرائمه بحق العوائل، دونما اكتراث لأي معايير أساسية أكانت حقوقية أم دينية أم إنسانية. في بيان وزارة الداخلية، أعلنت السلطات عن نوع الإعدام وقالت إنه “تعزيزي”، أي أنه على أهواء ومزاج القاضي الوهابي، ولم يستند إلى أدلة إدانة، كونها لم توجد، في ظل فبركات محاكاة ضده. الجريمة، لاشك أنها استكملت، بقرار احتجاز الجثمان ومنع ذويه من تسلمه ومواراته في الثرى على الطريقة التي تتواءم وعقيدتها. فطالما اعتاد النظام احتجاز جثامين شهداء القتل، ضمن سيناريو مكرر، كان قد سبقه من أبناء العائلة ابن عمة الشهيد، السيد محمد علوي الشاخوري المعدوم ضمن مجزرة السبت 12 مارس 2022، وهي ثالث مجزرة إعدام جماعية طالت العشرات من المعتقلين، بينهم 41 من القطيف والأحساء. في 23 سبتمبر 2021، أفجعت العائلة برحيل السيد أسعد الشاخوري والد المعتقلين والمفرج عنه عقيل الذي قيّد لمدة 6 سنوات، “بجريمة التعبير عن الرأي”، وأبو الشهيد. رحل الأب الذي تجشم ضيم النظام وقهر ممارساته بحق عائلة بأكملها. رحل السيد الشاخوري ورفضت السلطات السماح لأبنائه المقيدين خلف زنازين إجرامه بالخروج للحظة وداع أخيرة، لحظة علها تخفف بعضا من لهيب الألم والفراق والوجع المفروض بقوة سيف آل سعود. “عوام” الصامدة وأهلها.. في إحدى خطب الشيخ الشهيد نمر باقر النمر التي ألقاها عام 2011، يتساءل: “ما هو هذا الوطن؟ النظام الذى يظلمني؟ النظام الذي يسلب مالي ويسفك دمي وينتهك عرضي؟”. تساؤلات تحاكي واقع عائلة الشاخوري، كما عوائل القطيف. عام 2017، في لحظة واحدة، وعلى حين غِرّة، استفاقت العائلة على تهجير عمدي انتقامي من “حي كربلاء”، الحي الذي هجر أهله وأهالي “المنيرة والمنصوري” وغيرها، إبّان اجتياح “حي المسورة” الأثري في العوامية، آنذاك، استخدمت السعودية مختلف فرقها العسكرية للتنفيس عن حقدها الطائفي الدفين بحق منطقة، انطلقت من بين أحيائها مفاهيم ثورة مستلهمة من ثورة سبط الرسول الأكرم محمد (ص) الإمام الحسين (ع)، ولا تزال تؤرق راحة النظام؛ وفرض حصار عسكري واجتياح توزعت مشهدية صمود أهل المنطقة أمامهما على امتداد 100 يوم، تعمّد الصمود بدماء نحو 30 شهيداً بينهم أطفال وعشرات الجرحى، لم تنته آثار وتأثيراته مع انتهاءه، حيث تواصلت انعكاساته ولا تزال حتى اليوم. في تلك الآونة، كان والد الشهيد محمد السيد أسعد الشاخوري يقطن منزله في “حي كربلاء”، لكن النظام أبى أن يتركه، حمل مزاعم “التطوير” وسياقات جرائم التجريف التي تمارس تباعاً مستهدفة سكان المنطقة الأصليين، وهدم المنزل. لم تنته الجريمة، فراحت الآليات التدميرية، برفقة العسكرية، وسوت مبنى آخراً كان يملكه بالأرض، وهو الذي كان يمثل باب الرزق حيث كان يضم مستودعاً وبقالة. بين لحظة وأخرى، جميع ممتلكاته أضحت ركاماً متجمعا أمام ناظريه، ومع ذاك الركام، تحطمت أحلام عائلة ترفض الانكسار، وانحنى ظهر قامة لطالما كانت مرجعاً ومعتمداً من قبل العائلة الصغيرة والكبيرة، وأيضاَ لأبناء الحي بأسره. عائلة الشاخوري..أنموذجا يحاكي شموخ النخيل ولأن الإجحاف سمة السلطات، والإجرام ديدنها، فبعد التجريف والهدم، كان التعويض الرسمي مقابل العقارات غير مجدٍ، إلى حدٍ لم يسمح للسيد الراحل الشاخوري أن يبني منزلاً بديلاً، أو حتى يؤمن له إيجار مأوى، وحولت حاله الاجتماعية من مستوى إلى آخر، دفع به للسكن متنقلاً بين منازل بناته، ما ولد حسرة وحرقة في قلبه، حرقة اتقدت نيرانها وألمها كالنار في الهشيم، وراح لهيبها يترك ندبات في روح وقلب السيد أسعد، الذي لاشك أنه امتلأ بشتى صنوف الحزن والحسرة على البنون والمال. هي حسرات زرعتها آلة الإجرام السعودية، التي حاكت بأفعالها ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق أصحاب الأرض في فلسطين المحتلة، بل وأكثر، حتى استحالت ألما وداء لا دواء له، وتسربت إلى روحه حتى قتلته ببطء شديد، ليكون السيد الراحل، ضحية من ضحايا جرائم النظام السعودي الذي ما انفك يتمادى في طغيانه، غير آبه بدعوات أو مطالبات أو مواقف دولية، أو شرعات دينية. عائلة السيد الشاخوري، حالها كحال الكثير من عوائل القطيف والأحساء بل البحرين الكبرى، استحالت أسطورة في الصمود، وخطت سيناريوهات حياة، عمادها الكرامة وشموخها شموخ سعف النخيل المتجذر في مزارعها ورامسها، أسطورة أعطت درسا كيف يغدو الإنسان، “…شبعاناً من دون طعام..ملكاً في عباءة متواضعة، وكنزاً من ركام…”، كما يوصّف جلال الدين الرومي، إن صحت الاستعارة، لواقع، يفرضه قمع وهابي همجي سعودي لا يعرف الرحمة. قتل مدعوم أميركاً إعدام الشهيد السيد محمد أسعد الشاخوري، يعد السادس بحق معتقل من معتقلي القطيف والأحساء في منذ بداية العام الحالي 2024، إعدامات تجزم بكليتها وحيثياتها بأن النظام السعودي لم يبدل جلده، ولم يغير مسار إجرامه، ولم تردعه دعوات حقيقية، ومطالبات إنسانية، عن سفك دم أبناء القطيف، خلافاً لما يروج في السنوات الأخيرة عن إرهاصات تحوّل إلى “دولة تحترم حقوق الإنسان، وتعلق الإعدامات على جرائم لا تصنف من الأشد خطورة”، بإدغام طروحات أمام المجتمع الدولي، تتواءم والمنفعة الاقتصادية والمصالح المشتركة، التي تسمح للحكومات بصرف النظر عن كل انتهاك أو الاكتفاء -عند بعض الدول- بإصدار بيانات التنديد، وفق نموذج يتماهى والمعايير التي يضعها المزاج الغربي القائم على المنفعة والمصلحة، لا على احترام القوانين وحماية الإنسان وتقديمه على كل منفعة. ولعل بعض من دعاياته الترويجية، لصورة متغيرة بفعل مشاريع غسل السمعة، أدلى بها خلال جلسات مجلس حقوق الإنسان الذي انعقدت جلساته في يونيو المنصرم خلال الدورة 56. إذا، مرة جديدة، تتزحزح السلطات السعودية عن خط الإنسانية الذي ما ألفته، وبدم بارد وفي الشهر الحرام تسفك دما من دماء الأبرياء، متخذة ضوءا أخضرا من راعيها الأمريكي، اللاهث وراء النفط والمكاسب الاقتصادي تارة وتأمين دفع للنظام نحو اتفاق تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، مقابل اتفاقية أمنية تتم عرقلتها تارة وتأجيلها أخرى، بموجب تغييرات سياسية إقليمية ودولية تنطلق من المنطقة وتنعكس عليها؛ ولكن، كل ما سلف، وما لم يذكر من وراء كواليس السياسة والمصالح، يفرض بكل تأكيد على المجتمع الدولي والمنظمات، وكل ضمائر الأحرار، التحرك لإنقاذ وحماية ما تبقى من أرواح خلف زنازين آل سعود، وتخليصها من الإرهاب، بخاصة وأن ما لا يقل عن 100 معتقل رأي من القطيف والأحساء فقط وبينهم عدد من القاصرين، يحوم فوق رؤوسهم الإعدام الوشيك. كما وأن هنالك، أرقام غير مرصودة لمعتقلين تغيّبهم السلطات في سجونها وتتكتم على مصيرهم، وتفرض محاذير ترهيب أمني على عوائلهم، وتهددهم بمخاطر الوقوع في شركها.