ثُنائية السلطة والدعوة في السعودية بين الأمس واليوم

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2515
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

إحسان الفقيه
 أطاح بن سلمان بالدعوة ورموزها لإخلاء الساحة من فكر يخالف توجهاته نحو التغريب وفرض النموذج الأمريكي أسوة بالإمارات.
طال بطش واعتقالات بن سلمان رموز تيار الصحوة، بل حتى الدعاة المؤيدون للنظام لم يسلموا من بطش النظام.
سلطة آل سعود بتهميش وإقصاء الدعوة والدعاة تفقد أبرز مقومات وجودها وشرعيتها واستقرارها.
كانت الدعوة بدعاتها في السعودية تمثل القوة الناعمة للنظام التي تؤثر في الشعوب الإسلامية والعربية وتنقل لهم ثقافة المجتمع السعودي.
حدثت هوة عميقة بين السلطة والدعوة فالسلطة أرادت الانفصال عن الدعوة بدءا بتمكين الليبراليين والتغريبيين من الآلة الإعلامية الضخمة.

* * *
يُحكى أن امرأة قرشية من مكة يقال لها ريطة بنت ‎سعد، كانت بها حماقة تحملها على أن تغزل طيلة نهارها بمغزل كبير، حتى إذا جاء المساء أمرت جواريها بنقض ما غزلت، وقال بعض المفسرين أنها المعنية بقول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها).
المتتبع لتاريخ ثنائية السلطة والدعوة في المملكة العربية السعودية، يدرك في نهاية المطاف أن الأسرة المالكة تنقض غزلها من بعد قوة وإحكام، وتلتهم بنفسها مقومات وجودها.
منذ بزوغ الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، وهي تمثل قوائم عرش الأسرة السعودية، حيث قام حكم آل سعود على هذه الدعوة، ابتداءً من عهد محمد بن سعود في الدرعية، وأعطت دعوةُ ابن عبد الوهاب هذه الأسرةَ وأخذت منها.
فأفرز هذا التواؤم دولةً قويةً غنيًة متراميةَ الأطراف، قامت على منهج الدعوة التي عمادُها الكتاب والسنة، دولة لها مكانتها العظيمة في العالم الإسلامي، تضم في أراضيها الحرمين الشريفين، ومنهجًا امتد تأثيره إلى كل بلاد المسلمين.
وكما قام مُلك آل سعود على تلك الدعوة أولًا، كانت هي أيضا أبرز مقومات واستمرار هذا المُلك إلى اليوم، فعلى الصعيد الداخلي، جمعتْ الناسَ على حكام الأسرة باعتبارهم أولي الأمر الذي يُحكِّمون شريعة الإسلام، ويستمدون منها قوانينهم المُسيِّرة لحياة السعوديين.
فاستفاد آل سعود من تلك الصبغة الدينية التي صبغتها الدعوة للبلاد، فمن ثم كانت السعودية أبعد البلدان عن الثورات والانقلابات، وحركات التمرد ومحاولات القفز على الحكم، حتى لدى الذين لا يروق لهم هذا النموذج من الحكم الملكي وينشدون الخلافة، فرأوا أن الأمور في السعودية أفضل بكثير من غيرها، وأن التغيير ينبغي أن لا يتم بالعنف.
وعلى الصعيد الخارجي، منحت هذه الدعوةُ السعوديةَ مكانة كبيرة في العالم الإسلامي، حيث أنها صارت أرض العلم والعلماء والفقهاء، وأصبحت الوطن الثاني لكل مسلم على الأرض، وتأثر بهذه الدعوة جمع كبير من العلماء والدعاة والشعوب أيضا.
وأحدثت جامعاتها تأثيرا عظيما في البلدان الإسلامية، حتى في إفريقيا، خاصة الجامعة الإسلامية التي ترأسها مفتي الديار السعودية الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز.
وبهذا نالت السعودية تعاطف جموع المسلمين في كل قضاياها، وأصبحت الدعوة بدعاتها في السعودية تمثل القوة الناعمة للنظام، التي تؤثر في الشعوب الإسلامية والعربية وتنقل لهم ثقافة المجتمع السعودي.
وفي ظل هذه الثنائية، قدمت السعودية الكثير للأمة الإسلامية، مما لا يستطيع خصومها إخفاءه، بصرف النظر عن الأهداف السياسية ولغة المصالح، ابتداءً بحرب فلسطين، ومرورًا بالجهاد الأفغاني ضد السوفييت، والأعمال الإغاثية والإنسانية والخيرية في شتى البلدان الإسلامية.
وحتى الإسلاميون أصابهم من هذه التوجهات الطيبة، فلا ننسى جماعة الإخوان المسلمين، الذين نكّل بهم عبد الناصر كيف آوتهم أرض المملكة، وتركت لهم المجال لينخرطوا في المجتمع السعودي. وكذلك الرموز من الدعاة والعلماء، الذين استوعبتهم في كل مكان، وكثيرٌ منهم درَس في جامعاتها الإسلامية وعمل بالتدريس فيها.
وبين الماضي والحاضر، بين الأمس واليوم، حدثت هوة عميقة بين السلطة والدعوة، وبدا أن السلطة أرادت الانفصال عن الدعوة، بدؤا بتمكين الليبراليين والتغريبيين من الآلة الإعلامية الضخمة، التي تُشكل وتُوجّه الرأي العام؟
وفي حين تركت للإسلاميين مجال التعليم ومناهجه، لم يستمر استئثارهم به طويلًا حيث نازعتهم فيه الزمرة العلمانية والليبرالية، والنظام المتماهي مع السياسات والتوجهات الأمريكية الرامية إلى تغيير مناهج التعليم في السعودية، وفق متطلبات العولمة.
تشهد السعودية اليوم حالة من التنافر الشديد بين السلطة والدعوة، منذ تولي ابن سلمان زمام الأمور والحكم الفعلي في المملكة، بغطاء شكلي للملك الوالد.
التصفية والاعتقالات والقمع والملاحقة، هي شارة السلطة السعودية في مواجهة العلماء والدعاة، الذين هم على اختلاف توجهاتهم، كانوا نتاج هذه الدعوة، فطال بطش ولي العهد محمد بن سلمان، العديد من رموز تيار الصحوة، بل حتى الدعاة المؤيدون للنظام لم يسلموا من بطش النظام.
لقد أطاح بن سلمان بالدعوة ورموزها لتبقى له الساحة خاوية من كل ذي فكر مخالف لتوجهاته في مسيرة العولمة والتغريب، والاستجابة لفرض النموذج الأمريكي، أسوة بولي عهد الإمارات، فبدأ عصر تنويري جديد لا يحمل من التنوير سوى اسمه المضلل، وهو في حقيقته تذويب لهوية المجتمع السعودي.
السلطة التي تناصب الدعوة الآن العداء، وتعتقل علماءها ودعاتها، وتلجم أفواه المتكلمين، فقدت رأس الحربة في المواجهة الفكرية مع المشروع الإيراني، الذي تدعي أنه الخطر الأكبر الذي يحدق بأمنها الوطني، في الوقت الذي تُحسن إيران استغلال أذرعها في العديد من بلدان المنطقة، بما يخدم أجندتها ومشروعها المُحمّل على رأس طائفي.
لم تعد السلطة ترغب في وجود وجوه الدعوة إلا من قَبِلَ منهم أن يكون سيفًا للنظام مسلطا على رقاب الخصوم، فحتى الصامتون الذين لا ينطقون للسلطة أو ضدها لم يسلموا من البطش والاضطهاد.
وفي رمضان الجاري نشهد تطبيقا عمليا لتلك التوجهات، فأحد دعاة الصحوة البارزين وهو الشيخ عائض القرني، خرج في مطلع الشهر الفضيل، لكي يعلن تبرؤه من الصحوة ومنهجها، ويؤكد على تشددها، ويعتذر نيابة عنها للشعب السعودي، ويُروج للإسلام المعتدل الذي يتبناه بن سلمان، وكأن السعودية طيلة العقود السابقة كانت في ضلال مبين حتى أتى ولي العهد. وليس لنا التدخل في مراجعات القرني فهي شأن خاص به، لكننا نعيب قبوله بأن يكون أداة في يد النظام لضرب خصومه.
ثم يطالعنا داعية آخر في الشهر نفسه عاش يحصر أحاديثه الدعوية في الرقائق وتفسير القرآن والأخلاق، ولم نعهده يتطرق للجوانب الفكرية والسياسية، وهو الشيخ صالح المغامسي، الذي برز فجأة للحديث عن جماعات التيار الإسلامي، ويُبرز كوارث الإخوان المسلمين، وينتقد فيهم البحث عن تحقيق أهداف سياسية.
وكأن الشيخ يجهل أن الإسلام دين شامل لجوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع، وغيرها من مناحي الحياة، ثم لا ينسى أن يُعرّج على تيار الصحوة العدو الحالي الذي يتتبعه بن سلمان لتجفيف منابعه، ويُشغب المغامسي على ذلك التيار عبر بوابة أولي الأمر، الذين هم في حِسّه ذوو قدسية، متجاهلا عمل الصحابة والتابعين والأئمة في الإنكار على الولاة وقول الحق بطريقة سلمية، وأن هذا لا يعتبر من الخروج على الحكام.
سلطة آل سعود بتهميشها وإقصائها الدعوة والدعاة، فإنها تفقد أبرز مقومات وجودها وشرعيتها واستقرارها، فشرائح من المجتمع السعودي التي ألِفت صبغة الدعوة وتشبّعت بها سوف تبقى في حالة غليان مستتر، ربما يطفو على السطح، وسوف تذهب هالة الإجلال للنظام التي استمدها من ثنائية السلطة والدعوة.
أما خارج حدود المملكة سيفقد حكام السعودية التعاطف والتأييد من قِبل الشعوب التي باتت تدرك أن بلاد الحرمين تغير وجهها، وصارت تتجه بقوة صوب التغريب وذوبان الهوية.
وأُشهد الله أني لا أتمنى للسعودية وشعبها إلا الاستقرار، لكن النظام السعودي الحالي يتجه نحو السقوط الذي بات وشيكا إن لم يصحح مساره، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

* إحسان الفقيه كاتبة أردنية
المصدر | القدس العربي