الخليج العربي.. القبيلة والدولة وغرق الأزمة

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2428
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

مهنا الحبيل

 صعّدت قضية توظيف القبيلة في الأزمة الخليجية، بصورة غير مسبوقة، منعطفا تاريخيا منذ تحوّل دول مجلس التعاون الخليجي إلى نشأة الدولة القُطرية، والتي في الأصل كانت تُقدّم أوراقها للأمم المتحدة، والرواق الدولي، وبيانها الثقافي التعليمي لأجيالها، بأنها دولة سياسية وسيادية، لا تجمّع عشائر.

وبقي طرح دولة المواطنة الدستورية في مساحة محدودة، لم تكرّس مرجعية دستور المواطنة، بل التبعية للسلطة، أساسا للحصول، أو البقاء، على جنسية هذه الدولة أو تلك، وإن كان هناك تفاوتٌ كبير بين بعض دول الخليج العربي في هذا الملف.

ولقد شُوهت صورة القبيلة، وجُعلت عنصر توظيف ذاتي، وهذا ليس حقيقيا، فالقبيلة مكون اجتماعي وطني واسع في تاريخ الجزيرة العربية، ولا يُمكن لعلم الاجتماع السياسي أن يتجاوز فهم هذا المكون من دون إنصافه، ولقد أوجدت رحلتها المعاصرة أفواجا من النخب العلمية والتطور المدني، والشراكة التقنية والتخصصية.

بل كان هذا المكون حاضراً ضمن التيارات الفكرية العميقة، بما فيها اليساران القومي والشيوعي، فضلا عن فصائل القوميين المتعدّدة، وشارك بعض أبنائها في مشاريع الحراك الديمقراطي الإصلاحي، أو المقاومة المدنية الفكرية للتطبيع مع المشروع الصهيوني المركزي.

وهذا لا يُسقط إشكالية سهولة توظيف القبيلة، عبر التفويج التهييجي، من خلال بعض المشيخات القبلية، لكن هذا التفويج السياسي هو الأساس الذي أظهر بعض نماذج إنسان الخليج العربي، من عرب الحاضرة وعرب القبيلة، بهذا المستوى من الانحطاط، وكيف حُوّل بعضهم من مدارج العلم والسلوك الإسلامي والأخلاق الحضارية، بل والاختراق العلمي والتفوق الأكاديمي، إلى مجرد هتّيف للكراهية، لعّانٍ لأشقائه العرب، بل والخليجيين المختلفين، بكل لغةٍ بذيئة، فهذا إنتاج للمشروع السياسي للأزمة لا القبيلة، وإن برزت هشاشةٌ فظيعةٌ لا أحسبها خاصة بأهل الخليج العربي، فتفويج الشعوب في الصراعات القُطرية في المغرب العربي، أو بين مصر الرسمية ومن يختلف معها، منذ "كامب ديفيد" في 1978، شهد دورات انحطاط واسعة، أسقطت كل عرفٍ أخلاقيٍّ جمع العرب بذواتهم، والعرب بالعالم الآخر، كما أن إسقاط أكبر انتفاضة عربية حقوقية، تحققت في مصر في ثورة يناير في العام 2011، شهدت تحشيدا بشريا، نجحت فيه المخابرات المصرية في تحويل تلك التيارات الثقافية العربية إلى قبائل وطوائف، كانت ترساً في "30 يونيو" لتدمير حلم الشعب المصري، وتزامن ذلك في بسط لغة انحطاطٍ وضيعة، وُجهت إلى "الإخوان المسلمين" ابتداءً، ثم شملت كل من انتقد النظام المصري.

ولكن بقيت سلطة المشيخة القبلية ذات تأثير واسع، في الحالة الخليجية، خصوصا حين فوّجت ككيانات بديلة، ودفعتها الرياض إلى إعلان العزم على الغزو القبلي لقطر. وهذا يقود إلى بحث عميق بشأن ما إذا كان لهذا المستوى من التفويج أصول أوصلت إلى هذه الحالة، وما هو موقف الدولة ذاتها، خصوصا في الحالة السعودية، من التفويج القبائلي.

فقد قدّمت الدولة السعودية، في مناهجها وتاريخها الذي سطّره رجال المؤسسة الرسمية، مفهوما يركّز على أن مشروع التأسيس السعودي وحد القبائل في إطار الوطنية الجديدة، وحماها من إرث الصراع القبائلي.

بل كان الملك سلمان شخصياً، حين إمارته الرياض، المسؤول في الأسرة السعودية الحاكمة لمراسلة القبائل وتحذيرها، فور وصول معلومةٍ بتناقلهم هجائيات الحرب القبلية التي عصفت بالجزيرة، حين عاد الغزو الجاهلي في القرون الأربعة الماضية قبل تأسيس الدولة السعودية الثالثة، وهو ما عاد صخبه اليوم، وارتدّ على الداخل السعودي.

ولا شك أن الأدوار السعودية استغلت القبيلة (ووظفتها) في صراعاتها. وهناك جدل عميق وحسّاس في قضية عسكرة القبيلة، عبر الأيدولوجية الوهابية.

وشارك في الصراع في هذا الجدل الشيخ عبدالعزيز التويجري المستشار الخاص والمقرّب من الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وتحميله مشايخ الدعوة الوهابية توريط القبائل في بعض الحروب، في محاولةٍ منه للدفاع عن موقف الملك عبد العزيز، خصوصا في مذابح الطائف الشهيرة. (كتابه "لسراة الليل هتف الصباح").

وقد لعبت مرافعة الشيخ عبد العزيز التويجري، الملقب بالشايب، وهو شخصية من أسرة حضرية عريقة من منطقة المجمعة السعودية، وأفكاره دوراً مركزياً في مواقف الملك عبدالله، وخلافه مع أشقائه عن صورة السعودية الجديدة. وكانت من مسائل الخلاف فكرة تحالف المشايخ والدولة، وهي فكرة كان الطرف الآخر يستخدمها ضدّه.

ظل التويجري يُدافع عن الدور السعودي في مضمار العروبة، محاولاً تقديم نموذج مختلف في مهرجان الجنادرية، باستضافةٍ مكثفةٍ لمثقفين عرب يساريين وقوميين، على أمل أن يُثبت أن الخلاف التاريخي مع الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر لا يقلل من العروبة السعودية، والتي سقطت في الأزمة الخليجية، حين لُعن العرب، في مساحات إعلامية واسعة، باسم التحالف مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومشروعه الإسرائيلي.

وهناك مدار، لا يُمكن أن يُفهم في مسألة تموضع أسر الحكم في الخليج وشرعيتها الاجتماعية، والعرف الذي أُسقط في الأزمة الخليجية أيضا، فشرائح شعوب المنطقة تتوزّع على ثلاثة أصول:

- عرب القبيلة في البادية والضواحي،

- عرب الحاضرة،

- الأسر القبلية للحاضرة.

وكل أسر الحكم في الخليج تنتمي للشريحة الثالثة، وهي الأسر التي تحضّرت، ولديها انتماء قبائلي، فيما الأولى هي قبائل البادية، والتي لا يعني وصفها هذا خلوّها من التحضر المدني، والثانية هي أبناء الانتماء العربي للأرض والحضر المدينيون (المدينة).

وكان من عناصر الشرعية الاجتماعية أن تستشعر الشريحتان، الأولى والثانية، بانتماء خاص من طرفها لأسر الحكم التي تشمل الجميع، إلا أنه في الأزمة الخليجية صدرت حروب إعلامية عنصرية فتّاكة، للتحريض والتقليل من عرب الحاضرة والطعن فيهم، وبأسماء رسمية كبرى.

وهو ما أعاد الطرح من جديد: هل انتقلت الدولة إلى المواطنة السياسية، أم أن كل ذلك التاريخ كان محطةً أسدلت غشاءً وهمياً، يعطي انطباعاً بالتقدّم المدني، ولا يلبث أن يسقط في الأزمات، فالتقدم الحضاري، أخلاقي قبل أن يكون عمرانيا ماديا؟

  • مهنا الحبيل - كاتب عربي مستقل مقيم في كندا
المصدر | العربي الجديد