دبلوماسية المال مزقت الأمة العربية

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2777
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

سعيد الشهابي
 دبلوماسية المال اصبحت نمطا ليس مقبولا فحسب، بل مطلوبا في العلاقات الدولية، وبذلك حلت محل الاعتبارات الايديولوجية الاخرى في التعامل بين الدول. وحتى الامس القريب كان للايديولوجيا السياسية دورها في توجيه علاقات الدول واقامة التحالفات.
لكن مرحلة ما بعد «الربيع العربي» وما تبعها من ظواهر خصوصا الإرهاب والطائفية والإسلاموفوبيا شهدت تطورا بنيويا على هذا الصعيد. فمثلا كانت مصر محور العمل العربي المشترك عقودا عديدة، ولم تكن تملك المال الذي تشتري به مواقف الدول.
لكنها طرحت مشروع القومية العربية الذي جذب الدول العربية الأخرى لمواقفها، وأصبحت الهوية العربية عنوانا للعمل العربي المشترك الذي تصدرته الجامعة العربية.
وطرحت السعودية في مواجهة ذلك مشروع «العمل الإسلامي المشترك» من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، واستطاعت احداث استقطاب جديد محوره الروابط الدينية بين أكثر من خمسين دولة في العالم. ولم يكن للمال دور كبير في نشوء تلك المحاور.
أما الغرب فكانت علاقاته الدولية تنطلق من شعاراته البراقة: الحرية والديمقراطية، لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفياتي الذي أسس علاقاته على المبادئ الشيوعية والاشتراكية. وكلا المعسكرين عمد لتثبيت اركانه بامتلاك ترسانة عسكرية جوهرها السلاح النووي الذي تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية.
وربما كان للمساعدات المالية بعض الدور في كسب الاصدقاء للغرب، الا ان الانتماء لأي من المعسكرين كان قائما على اساس الهوية الايديولوجية لانظمة الحكم.
في المرحلة الراهنة تغير الكثير من ذلك. وفجأة اصبح للمال النفطي دور في تأسيس انماط جديدة من العلاقات بين الدول. واصبحت دبلوماسية المال متفوقة على الانماط الاخرى بفاعليتها وتأثيرها السريع وربما المفاجئ احيانا.
وساهم في تعميق دبلوماسية المال عدد من العوامل:
أهمها ارتفاع اسعار النفط في العقد الاول من الالفية الحالية بمعدلات غير مسبوقة حيث تجاوز سعر برميل النفط 120 دولارا.
ثانيها تراجع الاوضاع الاقتصادية في الغرب خصوصا بعد الانهيار في القطاع المصرفي قبل عشرة اعوام، وتصاعد عجوزات الدول ذات النزعة التوسعية وبسط النفوذ السياسي كالولايات المتحدة وبريطانيا.
ثالثها تراجع دور الايديولوجيا السياسية في الحياة العامة. فغياب الشيوعية والاشتراكية عن المسرح السياسي اما بسقوط محور الاتحاد السوفياتي او عجز قياداته التاريخية (مثل فيدل كاسترو)، وضمور مشروع عدم الانحياز خصوصا بعد تفكك يوغسلافيا التي كان رئيسها، جوزيف تيتو، من أبرز زعماء ذلك المشروع، كل ذلك ساهم في تراجع دور الايديولوجيا في العلاقات الدولية.
رابعها تراجع الغرب عن مشروعه الديمقراطي ونزوع انظمته لسياسات الحماية الاقتصادية وجنوح الدولة للتدخل في الحياة العامة، الاقتصادية وعلى مستوى الحريات العامة وتهميش حقوق الانسان، كل ذلك اسدل الستار على حقبة الحرب الباردة التي لعبت الايديولوجيا فيها دورا بارزا في العلاقات الدولية وظاهرة نشوء المحاور.
خامسها: الرغبة في الإجهاز على مشروع «الإسلام السياسي» بتضافر جهود الغرب مع أنظمة الاستبداد العربية، الامر الذي دفع بعض الدول التي كانت رأس الحربة في محاربة ذلك المشروع للتغول والشعور بعظمة مفتعلة وقدرة وهمية على تجاوز كافة الخطوط الحمراء في التعامل مع الدول الاخرى، وكذلك مع شعوبها.
جاءت ثورات الربيع العربي محاولة اخيرة لاعادة التوازن لأمة استضعفها حكامها وفرقوا شعوبها وارتهنوها للأجانب. وهنا تساقطت كافة الايديولوجيات المذكورة، فتضافرت جهود دول الغرب مع انظمة المنطقة للاجهاز عليها بكافة الوسائل.
وهنا تشكل محور جديد مدعوم من الغرب بأجندة معقدة تشمل قضايا جوهرية عديدة. ويمكن تسمية هذا المحور الجديد بـ«تحالف 4+1» (السعودية، مصر، الامارات، البحرين + اسرائيل). تضافرت جهود هذا المحور على اربعة محاور:
- ضرب الثورات العربية قاطبة،
- منع التحول الديمقراطي باي ثمن،
- استهداف ظاهرة «الإسلام السياسي» بتجلياتها في الحركات الإسلامية ذات المشروع السياسي،
- تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي والتطبيع مع «اسرائيل».
ولتسهيل مهمة اعضاء ذلك التحالف سمح لهم بالعمل خارج «الممنوعات» تحت اشراف إسرائيلي مباشرة، وسمح لها بالعمل السياسي والأمني والاستخباراتي خارج حدودها، خصوصا في الدول المستهدفة من الغرب والكيان الاسرائيلي.
لكي يمكن تحقيق ذلك لا بد من تفتيت العالم العربي واضعاف دوله الكبرى، مصر والعراق وسوريا واليمن. وهذا ما حدث خلال السنوات السبع الماضية. فلو كانت مصر قوية لما استطاعت السعودية السيطرة على الجامعة العربية ولما تصدرت العمل العربي المشترك ووجهته لخدمة اهدافها.
ولو كانت سوريا او العراق متماسكة لما شعرت دولة الامارات بهذه العظمة الوهمية التي دفعتها لاحتلال بلدان اكبر منها وأعمق تاريخا وحضارة كاليمن.
ولو كانت الجامعة العربية كيانا فاعلا لما استطاعت «إسرائيل» ممارسة عربدتها المكشوفة، بضرب سوريا والسعي لضم الجولان واستقبال الوفود الرسمية والرياضية من دول التحالف المذكور. ولو كان الوضع طبيعيا لما تمكن وزير خارجية البحرين ان يغرد بدعم العدوان الاسرائيلي على سوريا او غزة.
دبلوماسية المال اوجدت واقعا جديدا غير مألوف. فقد استطاعت إحداث تغييرات سياسية ونفسية في العالمين العربي والإسلامي تحول دون تكرر ظاهرة الربيع العربي، وتخلق قبولا لدى الرأي العام العربي بالواقع المر الذي من تجلياته التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وشيطنة الدول العربية والإسلامية المستهدفة مثل قطر وتركيا وقوى المقاومة.
دبلوماسية المال وفرت للامارات الفرصة لتبني سياسة توسعية غير مسبوقة، واستعداء الدول الجارة مثل سلطنة عمان وقطر والكويت وإيران. دبلوماسية المال الاماراتي والسعودي استطاعت وضع مصر، الدولة العربية الكبرى ذات الحضارة والموقف والاطروحات القومية الجامعة، تحت عباءة حكام الامارات والسعودية.
هذه الدبلوماسية وفرت غطاء دبلوماسيا متينا لهذه الدول لممارسة سياسات قمع غير مسبوقة في المنطقة. فأفلت النظام المصري من المحاسبة لما اقترفته اجهزته الأمنية بحق معارضيه من الإخوان المسلمين وشباب ثورة يناير والمعارضة، فتصدر أحكام الاعدام والسجن المؤبد بالجملة، وتنتهك حقوق الانسان على نطاق هائل.
وفيما تم استهداف روسيا بدعوى محاولتها الفاشلة لاغتيال جاسوس مزدوج مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية، لم يتم استهداف عسكر مصر عندما قتل الباحث الايطالي جوليو ريجيني قبل ثلاثة اعوام. هذه الدبلوماسية ارغمت القاهرة على تسليم جزيرتين مصريتين للسعودية بدون اعتراض حقيقي من احد.
كما استطاع تحالف 4+1 اقناع الرئيس الأمريكي بكسر الاعراف الدولية بالانسحاب من اتفاق دولي استمرت المفاوضات بشأنه 12 عاما برغم اعتراض خمسة أطراف اساسية فيه على ذلك الانسحاب.
دبلوماسية المال هذه استطاعت تطويع العراق للتطبيع مع دول ساهمت مباشرة بدعم الإرهاب على اراضيه، واستخدمت المال للتأثير على سير الانتخابات الاخيرة وربما تشكيل الحكومة المقبلة.
ولكن هل هذه الانجازات مهيأة للبقاء والاستمرار؟ الامر المؤكد ان الدول العربية الاربع في تحالف "4 +1" لا تملك قدرات ذاتية على الاستمرار بالدور الذي تمارسه في الوقت الحاضر، وهو دور مدعوم من قبل «اسرائيل» وأمريكا فحسب.
فسياسات التوسع التي تنتهجها السعودية والامارات سوف تصطدم بمصالح الدول الغربية من جهة، وتؤثر سلبا على مصالح الدول العربية والإسلامية الكبرى من جهة اخرى.

د. سعيد الشهابي كاتب بحريني.
المصدر | القدس العربي