تنافر السياسة السعودية - القطرية .. استراتيجي أم مؤقت؟

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 3110
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

محمد الجرمن
 ليس من المبالغة اعتبار المواجهة الحالية بين قطر ودول الحصار حدثا كبيرا بكل المقاييس التاريخية، فلم يسبق أن تصادمت السعودية مع قطر بهذه الطريقة المباشرة والعلنية، وينتاب المراقب شعور بحالة حرب، حين يرى محسوبين على السعودية يطالبون بتغيير نظام الحكم في قطر، وتنصيب شخصية أخرى من «آل ثاني» خاضعة للإرادة السعودية.

تساؤل مشروع
بدأت الملحمة التصادمية بـ«أوركسترا إعلامية شرسة» من الجانب السعودي-الإماراتي ضد قطر، وكان ظاهرا عليها التنسيق المسبق منذ اللحظة الأولى، وهو ما ثبت بعد ذلك بالدليل الموثق. انطلقت الحملة باختراق وكالة الأنباء القطرية، ثم سلسلة من التقارير والتحليلات العدائية لقطر، ثم تحول الأمر إلى حصار شامل كاد أن يتطور إلى مواجهة وغزو مسلح، لولا الاحتياطات القطرية، وكانت ضخامة الحدث مفاجئة لمعظم المراقبين، نظراً لما كان يبدو ظاهريا قبل ذلك من انسجام وأخوة وتفاهم بين دول الخليج، خاصة بين السعودية وقطر.
كانت هذه المفاجأة الصادمة باعثة لسؤال مهم: هل هذا الموقف العدائي المتطرف حالة عابرة واستثناء من علاقة أصلها التفاهم والانسجام بين قطر والسعودية، أم هو انفجار حتمي لاحتقان وتنافر كان مستوراً بغطاء الضغوطات المحلية والعالمية، وكان سيحصل في وقت لاحق لو لم يحصل حينها؟

الإمارات ليست رقما صعبا
قبل الإجابة على السؤال لا بد من الإشارة إلى أن الإمارات، رغم دورها الكبير في الأزمة الحالية، فهي ليست الرقم الصعب في المعادلة الاستراتيجية، بمعنى آخر ليست السعودية بحاجة للإمارات ولا البحرين لتكون المواجهة خطيرة على المنطقة كلها، والعكس غير صحيح، فمواجهة الإمارات لقطر لوحدها، أو مع البحرين دون السعودية، لن تغير كثيرا من التوازنات الاستراتيجية في المنطقة.
وبهذا المنطق، فإن الإجابة على السؤال تستدعي تهميش الإمارات والتركيز على العلاقة السعودية القطرية والتأمل في حال الدولتين سياسيا واستراتيجيا وتاريخ علاقتهما، خاصة بعد أزمة الخليج، وهل هي علاقة انسجام أو تنافر.

أين الاتفاق والتنافر؟
صحيح أن قطر والسعودية تشتركان في الحاجة لأمريكا في الحماية، ويتفقان على علاقة جيدة مع الغرب، ولكليهما موقف متحفظ من إيران، لكنهما يختلفان في أمور أكثر جوهرية.

السياسة القطرية
اشتملت السياسة القطرية الخارجية، منذ استلام الشيخ «حمد بن خليفة آل ثاني» مقاليد الحكم عام 1995 على قدر كبير من الاستقلالية الذاتية المتجردة من التبعية للسعودية بعد أن كانت أيام الشيخ خليفة بمثابة امتداد للسياسة السعودية.
بدأت ملامح التغيير سريعة في دولة قطر بإنشاء محطة «الجزيرة» الفضائية عام 1996 والتي كانت حدثاً استثنائيا في الوطن العربي بسبب مساحة الحرية غير المسبوقة المتاحة لها، سببت قناة الجزيرة لدولة قطر الكثير من المشاكل مع العديد من الدول العربية، ومنها السعودية، التي لا يقبل كيانها السياسي هذا النوع من المتنفس التعبيري في الرأي.
كان لتوسيع هامش التعبير وتحمل الصوت المخالف في قناة الجزيرة دور كبير في تحقيق نقلة ثقافية وإعلامية في الوطن العربي، وهو مضاد لما تريده السياسة السعودية التي تفضل تجهيل الشعوب.
في سياستها الخارجية، تقف قطر مع حريات الشعوب العربية و تطلعاتها، وتدعم القضية الفلسطينية وحركات المقاومة، بما فيها حركة حماس، ويعتبر كثير من المراقبين الموقف القطري الحكومي الرسمي مطابقاً لموقف شعبها في هذه القضية، وإضافة لوقوفها مع الحريات، فقد دعمت قطر حركات التحرر في مختلف الدول العربية، وكان ذلك بارزا بشكل واضح في مسيرة الربيع العربي، وقد أصرت قطر على مواصلة هذا الدعم، رغم الصعوبات التي لاقتها بعد الثورات المضادة.
من جهة أخرى، استضافت قطر الكثير من الشخصيات الإسلامية والفكرية ذات التأثير العلمي والتربوي، كما تعاطفت السياسة القطرية مع بعض التيارات الإسلامية السلمية واستعانت بكوادرها وتجربتها التربوية والفكرية.
وباستقراء شامل لسياسة دولة قطر بشكل منهجي يمكن الخروج باستنتاج أن توجه الدولة محكوم في الجملة بمسؤولية عربية وإسلامية وحرص على رفع الوعي السياسي وتقليل المظالم والاستبداد في العالم العربي والإسلامي.

السياسة السعودية
في الجانب الآخر تتبنى الحكومة السعودية منذ نشأتها محاربة حرية الرأي وإقفال هامش التعبير، سواء داخل المملكة أو في أي منبر إعلامي عربي يدعو للثورة على الاستبداد والفساد والظلم، وكانت السعودية -ولا تزال- تتبنى موقفا مناهضا لحركات التحرر ضد الاستبداد، وتبذل نفوذها الديني والمالي والإعلامي والسياسي وربما العسكري ضد أي حركة تحررية.
في الستينيات من القرن الماضي، وقفت السعودية ضد الثورة في مصر واليمن، وحديثا شنت حربا ضروسا ضد الربيع العربي وضد كل من يقف أو يتعاطف معه، ومن فضول القول أن السعودية هي الممول الرئيسي لنظام السيسي في مصر والداعم لـ«حفتر» في ليبيا، وهي التي أفسدت ثورة اليمن ودعمت «علي صالح» والحوثيين قبل أن تنقلب عليهم، كما أفسدت الثورة السورية واعترفت أخيرا برغبتها في بقاء «بشار الأسد» وأنه أقل خطرا من الثوار.
في نفس السياق يأتي موقف السعودية ضد الجماعات الإسلامية السلمية، وخاصة الإخوان المسلمين، وبذلها جهودا ضخمة سياسيا وإعلاميا لشيطنتهم وربطهم بالإرهاب، وفي نفس السياق كذلك كان موقفها المؤيد لقمع جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، والداعم لـ«قرنق» ضد الحكومة السودانية في التسعينيات، بسبب توجهها الإسلامي، إضافة لموقفها المتحفظ حاليا من تركيا بسبب تصنيف «أردوغان» من الإخوان.
فيما يخص القضية الفلسطينية، ذهبت الحكومة السعودية شوطا بعيدا في التضييق على المقاومة، سواء في سياستها الخارجية أو الداخلية، خارجيا ضغطت الحكومة السعودية على حركة فتح إلى أن تخلت عن الكفاح المسلح، وشنت حملة عنيفة على حماس لإجبارها على نفس الموقف واعتبرتها أخيرا حركة إرهابية. داخليا، منعت السعودية أي دعم إعلامي أو ديني أو جمع تبرعات للقضية الفلسطينية، وأعلنت تصنيف من يدعم حماس إرهابيا.
هذه السياسة القائمة على إقفال هامش التعبير ومحاربة حركات التحرر ومعاداة الجماعات الإسلامية السلمية لا يستغرب أن يوازيها حملة مشابهة في الداخل في قمع حرية التعبير وحرب شرسة على الشخصيات الدعوية والتيارات الإسلامية داخل البلد.
وباستقراء شامل للسياسة الخارجية السعودية يمكن الخروج باستنتاج أن التوجه العام لهذه السياسة هو نشر الأمية السياسية ومحاربة الوعي وحركات التحرر ودعم المستبدين الدائرين في فلكها، وخذلان الهوية العربية والإسلامية.

تحت الرماد وميض نار
هذه المقارنة بين السياستين تجعل المراقب المدقق يخرج باستنتاج طبيعي أن المواجهة بين السعودية وقطر ليست حتمية فحسب، بل كانت موجودة حقيقة قبل الحصار، لكنها مستترة خلف الكواليس، وكان الذي منع انفجارها طول هذه المدة مجموعة عوامل في مقدمتها الموقف الأمريكي - قبل «ترامب» - الرافض لأية خلخلة في استقرار الخليج .

تاريخ التفاهم والتنافر
كانت قطر خلال فترة حكم الشيخ «خليفة بن حمد آل ثاني» لا تخرج عن الفلك السعودي، بل ربما لم يكن لديها أي سياسة خارجية ذي بال، بسبب تأثير الدوحة المحدود جدا تلك الأيام، بعد استلام الشيخ «حمد بن خليفة آل ثاني» مقاليد الحكم عام 1995 أطلقت دولة قطر سياسة إعلامية وخارجية بمنهجية مستقلة مبنية على ما ذكر أعلاه من توجهات مصادمة للتوجه السعودي. لم يرق ذلك للقيادة السعودية التي حاولت في غير مرة قلب نظام الحكم في قطر، وإعادة الشيخ خليفة إلى العرش. وكانت أبرز هذه المحاولات الفاشلة عام 1996 الذي أسهم فيها عدة أطراف إقليمية، على رأسها السعودية.
واستمر التنافر السعودي - القطري بعدها لسنوات طويلة في ظل صدام استراتيجي كان يتمظهر بعض الأحيان في حملات إعلامية واتهامات خفيفة ثم يقوم الطرفان بستره بتفاهم على مضض.
تفاقمت حدة هذا الاصطدام عند قيام الربيع العربي عام 2011، حيث أجبر الربيع العربي الدولتين على أن يكونا طرفي نقيض في سياستهما الخارجية والإعلامية والأمنية. رأت قطر في الربيع العربي موجة مباركة من الوعي العربي وفرصة للخلاص من الاستبداد يجب أن يدعم بكل وسيلة.
في الجانب الآخر، رأت السعودية في الربيع خطراً كبيراً يهدد عرشها ووجودها السياسي. كان من الطبيعي أن يؤدي الربيع العربي إلى انحسار الغطاء الذي كان يستر حالة التنافر، ويكشف حقيقة التناقض والصدام بين السياستين.
حاولت قطر تفادي أي صدام مع السعودية، لكن الأحداث التي صاحبت انقلاب «السيسي» ووقوف قطر ضد الانقلاب ووقوف السعودية مع الانقلاب أدى لتأجيج المشكلة.
وربما كان هذا هو الباعث للصدام السعودي القطري عام 2014 في عهد الملك «عبدالله»، حيث تحالفت السعودية مع الإمارات، التي تنسجم معها في سياستها تجاه الربيع العربي، وأقدمت على سحب سفيرها من قطر للمرة الأولى في تاريخ البلدين و هددت بالمزيد من التصعيد. غير أن التهيئة الدولية في ذلك الوقت لم تسمح بالتصعيد، و كان الرئيس الأمريكي «أوباما» وقتها صارماً في منع ما يمكن أن يزعزع الاستقرار السياسي والأمني بالخليج.
بعد أزمة 2014 توجهت السياسة القطرية في خطين متوازيين، الأول وضع خطة اقتصادية سياسية أمنية عسكرية لحماية قطر لو تكرر ما حصل وتطوره لحصار أو لمواجهة مسلحة، والثاني المزيد من المجاملة إعلاميا وسياسيا للسعودية.

خطة طوارئ شاملة
في خدمة الخط الأول كلفت القيادة القطرية مختصين بإعداد خطة شاملة، جاهزة للتنفيذ فيما لو تكررت المواجهة وصاحبها حصار وتهديد عسكري، اشتملت الخطة على برنامج تمويني بإعادة ترتيب إقليمي لعلاقاتها، وتدشين خطوط بحرية وجوية مبنية على وجود الحصار، إضافة إلى برنامج دفاعي يتضمن تفعيل برنامج الخدمة الوطنية، والاستعانة بتركيا لو ترددت أمريكا في ردع السعودية والإمارات. أعدت الخطة فعلا وجرى تفعليها بسرعة فائقة بعد انطلاق أزمة الحصار الأخيرة.

مجاملة ومداراة
في خدمة الخط الثاني، تبنت قناة «الجزيرة» المبالغة في مجاملة السعودية والتكلف في تغطية الأخبار الإيجابية ومنع أي خبر سلبي عن السعودية، بل غيرت القناة لهجة تقاريرها حتى عن أحداث العالم العربي بما لا يغضب السعودية. ووصلت هذه المجاملة ذروتها قبل الحصار بأيام قليلة، حين كانت تغطية قناة «الجزيرة» لزيارة «ترامب» للرياض على هامش القمة الإسلامية الأمريكية، أكثر إيجابية وتجميلا من تغطية قناة العربية.
وسرت المجاملة على الإعلام الرقمي، حيث كانت الحسابات والمعرفات القطرية في «تويتر» على نفس الخط الحكومي، حيث امتلأت بوابل من المجاملات للحكومة السعودية في مختلف المناسبات.
على الصعيد الأمني والسياسة الإقليمية، قدمت دولة قطر للسعودية في «عاصفة الحزم» مالم تقدمه لها دول خليجية أخرى، مثل الكويت و عمان، إذ أرسلت - رغم محدودية قدراتها العسكرية - فصيلا من أفضل مقاتليها، مع قناعتها أنها حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل. هذا مع أن نظام «السيسي» الذي تلقى عشرات المليارات من الدولارات من السعودية لم يرسل جنديا واحدا للمشاركة في هذا التحالف.
وكان لدى المسؤولين القطريين، مثل وزيري الخارجية والدفاع، تكليف بالمبالغة في مجاملة السعودية، حتى وصل الحال بوزير الدفاع القطري «خالد العطية»، قبل فترة وجيزة من الحصار، أن وصف السعودية بأنها قوة «أخلاقية» في مجلس التعاون الخليجي. وقد تبين من خلال تصريحات الوزير بعد الحصار، أن تصريحاته كانت معاكسة لقناعاته، حيث تحدث عن تاريخ «الكيد السعودي» لقطر، وهو أمر يتعارض مع كونها قوة أخلاقية.
هذه المبالغة في المجاملات الإعلامية والمواقف السياسية وتخفيف دعم الربيع العربي ودعم حركات التحرر وإرسال أفضل مقاتليها لليمن لم يكن كافيا لإقناع السعودية بأن قطر لا تريد مواجهة، وانطلقت أزمة الحصار بطريقة مفتعلة، بعد مؤامرة تبينت تفاصيلها لاحقا.

لماذا الأزمة الأخيرة تحديدا؟
لكن يبقى السؤال لماذا تجرأت السعودية «والإمارات» على هذا الموقف الآن، رغم توبيخها من قبل أمريكا في 2014؟ الإجابة تجدها في أمريكا نفسها، حيث تغير الرئيس ووصل البيت الأبيض «ترامب» الذي له علاقة شخصية بصاحب القرار في السعودية الأمير «محمد بن سلمان». وتبين لاحقا أن «ترامب» أعطى ضوءا أخضر ل«محمد بن سلمان» بإطلاق خطة الحصار، مخالفا لرأي كل المؤسسات الأمريكية التي ترى في الأزمة إضعافا لمصالح أمريكا في المنطقة. ولهذا فإن توفر شخصية مثل «ترامب» بهذه العلاقة الخاصة مع الأمير «محمد بن سلمان» كان بمثابة العامل الأهم الذي رفع الحجاب وكشف حقيقة التنافر الاستراتيجي بين السياستين.
ولعل الجانب السعودي قد أكد بعد الأزمة ما كان يخفيه من سوء الظن بقطر وقيادتها، وصار يردد في إعلامه وعلى لسان من يتبعه من الكتاب والمثقفين اتهام قطر بالكيد للسعودية منذ عقود.
وبنفس النغمة لم يكتف الجانب السعودي بالحملة على القيادة القطرية الحالية، بل أشرك القيادة السابقة بالمسؤولية وهو ما يدعم نفس التفكير.

خلاصة
التنافر في العلاقة السعودية - القطرية منهجي وبنيوي وقديم وليس مرتبطا بوجود ملك أو شخص معين في السلطة، وسبق أن تجلى في عدة أشكال، لكنه بعد دعم «ترامب» ظهر بهذه الطريقة السافرة والصريحة. بل إن الصدام بين الدولتين، سواء على شكل حصار أو مواجهة عسكرية أو ملاسنة إعلامية وسياسية، كان سيحدث عاجلاً أم آجلاً. وبنفس المنطق لا يمكن لهذا التنافر أن ينحسر، حتى لو رفع الحصار، إلا أن تغير دولة قطر سياستها بالكامل بما يشتهيه النظام السعودي، أو يتغير النظام السعودي نفسه.

المصدر | الخليج الجديد