دول الخليج بين (ايرانفوبيا) و (ترامبفوبيا)
السعودية تسعى، تحت الرعاية البريطانية، ومشاركة مشيخات الخليج، باستثناء عمان،
إلى توظيف لهجة ترامب في العداء الى إيران بتلبيد الأجواء في المنطقة بخطاب
ايرانفوبيا، وتصعيد مستوى الاحتقان بين طهران وواشنطن
محمد قستي
بإمكان دول الخليج أن تخفي أسرارها كافة خلف «التهديد الايراني»، فلا شيء سواه يمكن أن يستر الاستراتيجيات الحقيقية لدى السعودية وحليفاتها في مجلس التعاون الخليجي.
أن تكون إيران وراء شد العصب الخليجي، والمزيد من التعاون والتنسيق بين دول المجلس، وأن تتضاعف صفقات التسلح مع الغرب (أوروبا والولايات المتحدة على وجه التحديد)، وان تكون المبرر ايضاً لفتح علاقات مع اسرائيل شبه علنيّة.. فتلك أمور لا تحمل جديداً للرأي العام ولا للمراقبين. فقد كانت هذه خصائص السياسة الخليجية على مدى ثلاثة عقود، وازدادت وتيرتها بشكل غرائزي منفلت في عهد سلمان بن عبد العزيز (تولى 23 يناير 2015).
نعم، قد يجادل البعض بأن التطوّرات الميدانية في العراق وسوريا لصالح محور ايران، وانسداد الأفق في الحرب السعودية على اليمن والذي يصب أيضاً لصالح إيران، وتزايد نفوذ الأخيرة بعد توقيع الإتفاق النووي مع الغرب، رغم العقبات الكؤودة التي يواجهها، تدفع السعودية، قبل غيرها بوصفها الدولة المحورية خليجياً، الى التفكير في استراتيجيات صد فاعلة لمواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق، نتوقف عند ما نشرته صحف سعودية عدّة حول جولة سلمان الخليجية في ديسمبر الجاري. فقد أجمعت الصحف السعودية الصادرة في 4 ديسمبر على أن الجولة تأتي في وقت تتزايد فيه التهديدات العسكرية الإيرانية، وقد تكون الجولة مقدّمة لإعلان اتحاد خليجي، أو تحالف عسكري ودفاعي واسع.
صحيفة (عكاظ) في تقرير لها بعنوان (الملك سلمان.. حراك فاعل لمعالجة قضايا المنطقة)، وضعت للجولة هدفاً كبيراً يتجاوز الإطار الجغرافي، وقالت بأنها تأتي «في إطار دوره الفاعل والمحوري، ومبادراته الخلاقة لتعزيز التضامن العربي، وتوحيد صف العرب والمسلمين لمواجهة التحديات المهدّدة للمنطقة»، تقول عكاظ هذا بالرغم من خلافات السعودية مع كثير من الدول العربية، بل وحتى خليجياً، حيث استثنى سلمان سلطنة عمان من جولته الخليجية. الصحيفة عمدت الى لغة تمجيدية لشرح أبعاد الجولة السلمانية، وأنها تؤكّد «الدور المحوري للسعودية في قيادة المنطقة وحفظ أمنها واستقرارها والدفاع عن قضايا الأمتين العربية والاسلامية بدءاً بالقضية الفلسطينية، ومرورا بالملفين السوري والعراقي، ووصولاً إلى الوقوف بجانب الشعب اليمني في التصدي لمحاولات إيران ودعمها للحوثيين رغبة في تحويل اليمن إلى ثكنة إيرانية تكون بمثابة خنجر في خاصرة دول المنطقة، خصوصاً أن السعودية استطاعت الوقوف أمام المد الإيراني في العديد من الدول العربية.”
حسناً، هذه أهداف تبدو مثالية الى حد كبير، وليست بالضرورة مدرجة على جدول أعمال الجولة، رغم وصف الصحيفة لها بـ»التاريخية». الصحيفة عادت لتقترب من الواقعية في حصر الهدف من الجولة في «تعزيز العمل الخليجي المشترك، ودعم أمن واستقرار دول المنطقة، والتصدي بقوة للتدخلات الإيرانية، وتعزيز التعاون الأمني والعسكري بين دول المجلس» وتنفيذ رؤيته في سوق مشتركة وتكتل اقتصادي خليجي.
قبل مناقشة ما كتبته الصحيفة، نطالع ما كتبه تركي الصهيل في «صحيفة مكة» في 4 ديسمبر بعنوان (جولة الملك سلمان الخليجية تمهد لقمة القرارات المصيرية.. وأنباء عن اتحاد عسكري دفاعي). وانطلاقاً من المدخل النمطي بتوظيف التهديد الايراني في الجولة استغلالاً لتصريحات حمقاء تصدر من بعض القادة العسكريين الايرانيين، يرى الصهيل بأن فكرة تشكيل اتحاد عسكري دفاعي بات لها ما يبررها. بل هناك من ذهب بعيداً الى إمكانية الاعلان عن ولادة الاتحاد الخليجي في قمة البحرين الأخيرة مع استدراك «ولو جزئياً» ما يشير الى أنه لن يكون اتحاداً كامل الدسم، بل سوف يبدأ بـ «اتحاد عسكري دفاعي يكون مقره البحرين».
الصحيفة أعادت رصف مبررات الاتحاد الخليجي، بصرف النظر عن شكله ومستواه، وفي السياق جولة سلمان الخليجية والمتمثلة في «التصعيد الإيراني غير المسبوق الموجه للدول الخليجية، والوضع في اليمن، والحرب على الإرهاب، وتزايد أعداد التشكيلات المسلحة في دول الجوار، وردع خطر الصواريخ الباليستية، ومجابهة ارتدادات تهجير السنّة في الدول المجاورة».
في حقيقة الأمر، ليس في أقوال الصحف السعودية ما يقنع، أو بالأحرى يكشف، عن الأسباب الحقيقية لزيارة سلمان.
ما تداولته الصحف السعودية والخليجية عموماً، لم يختلف عن بيان قمة المنامة لمجلس التعاون الخليجي السابعة والثلاثين في 7 ديسمبر الجاري. 17 بنداً في بيان القمة كان مخصصاً لإيران وتهديداتها، ومخططاتها، ومؤامراتها.. الخ.
في الشكل، فإن توظيف البعبع الإيراني في تبرير سياسات أمنية ودفاعية ليس جديداً، ويتم ذلك في الأحوال كلها، ودول الخليج، والسعودية بدرجة أساسية، ليست بحاجة الى تصريح إيراني هنا أو هناك، فقد باتت إيران ضرورة خليجية لتبرير قمعها لشعوبها، وخنوعها للغرب، وتحالفها مع «اسرائيل»، وحتى مشاغلة شعوبها إزاء الأخطاء الفادحة الاقتصادية والسياسية.
في الشكل أيضاً، فإن التعاون العسكري والأمني بين دول مجلس التعاون الخليجي قائم، سواء عبر قوات درع الجزيرة أو الاتفاقية الأمنية الخليجية، ولا يحتاج تحقيق التعاون الى جولة يطوف فيها سلمان على قادة الخليج فرداً فراداً لإقناعهم بأمر قائم، فذلك لزوم ما لايلزم. ويقول العارفون بأن طرح فكرة تشكيل اتحاد خليجي دفاعي عسكري وأمني، فيما لو تمّ، فسوف يكون بمثابة اعتراف غير مباشر بفشل تجربة مجلس التعاون الخليجي الذي شهد ستة وثلاثين قمة (باستثناء القمة الأخيرة السابعة والثلاثين في المنامة). ومن المعلوم، أن دوافع تشكيل مجلس التعاون الخليجي كانت أمنية بدرجة أساسية، وإن الملفات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها جاءت في مرحلة لاحقة.
ومن الطريف أن تشكيل المجلس جاء عقب انتصار الثورة الايرانية، وللرد على ما كانت تعتقده دول الخليج «تصدير الثورة»، الأمر الذي يجعل إعادة استخدام التهديد الايراني مجرد تكرار بلا طائل.
وأما الشق الأمني في مجلس التعاون فليس هناك مراقب لشؤون الخليج لديه أدنى ريب في أن مبدأ «التعاون» بين دول المجلس كان حصرياً في الأمن، ولا سيما أمن النظم السياسية، ولذلك لم تنل أي اتفاقية بين دول مجلس النجاح المأمول كما نالته الاتفاقية الأمنية.
في النتائج، صحيح أن هناك قلق خليجي من ايران، بفعل المعطيات الواردة أعلاه، وهي للتذكير: انهيار الجماعات المسلّحة في سوريا، واستعادة المحور الايراني لزمام المبادرة، دخول تنظيم داعش مرحلة حرجة بعد معركة الموصل، والتقدّم السريع للقوات العراقية والحشد الشعبي في محافظة نينوي بطريقة فاقت التوقعات، وفي ذلك أيضاً انتصار للمحور الايراني، وفي اليمن حيث استمرار الحرب العبثية التي وجدت السعودية نفسها عاجزة عن تحقيق نصر عسكري حاسم، وجاء اعلان تشكيل الحكومة في صنعاء مباغتاً للسعودية وحلفائها.. هذه العوامل وغيرها لا شك بعثت مخاوف لدى الرياض، وعدد من دول الخليج من تزايد النفوذ الإيراني.
يضاف الى ما سبق عوامل داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية. فالسعودية التي تشهد تبدلات سريعة على مستوى ادارة الدولة، بعد استبدال وزراء المال والبترول العريقين، وتغيير وزراء العمل والإسكان والصحة والتعليم لأكثر من مرة في غضون أقل من عامين، ما يشير الى أزمة حقيقية في النظام البيروقراطي للدولة. وأيضاً، التحديات الاقتصادية التي تعاني منها الدولة السعودية بفعل انهيار أسعار النفط، وأن الاتفاق الذي تمّ في فيينا في آواخر الشهر الفائت للدول الأعضاء في منظمة أوبك والذي وافقت فيه السعودية على تخفيض انتاجها يعبّر عن حراجة الوضع الاقتصادي، فيما لم يطاول التخفيض حصة إيران المستهدفة سعودياً من الحرب النفطية في آواخر عام 2014.
تقليص التقديمات الاجتماعية، والغاء البدلات، وخفض الانفاق الحكومي، واستمرار العجز الفلكي في الموازنة العامة، والانكماش الاقتصادي بصورة عامة، وتآكل الرصيد النقدي.. باتت مؤشرات تثير هلع صنّاع القرار في الرياض من بلوغ حافة الهاوية الاقتصادية، في ظل تحذيرات من إمكانية دخول السعودية مرحلة الافلاس التام في العام 2017.
كل ما ذكر أعلاه صحيح، ولكنه لا يمثل الهدف الحقيقي من جولة سلمان، ومن قمة المنامة، فما هو الهدف الحقيقي؟
لنعيد تركيب المشهد الخليجي، منذ بدء الربيع العربي، وخصوصاً بعد سقوط نظام حسني مبارك، حين شعر الملك عبد الله بأن واشنطن قد تخلّت عن حليف قوي لها في الشرق الأوسط، ما تسبب في صدمة مصحوبة بقلق عارم انتاب السعودية ومعها دول الخليج، بسبب سرعة تبدّل الموقف الاميركي من حسني مبارك في غضون أيام، من ترقّب الى التحذير من العواقب، وصولاً الى احترام إرادة الشعب المصري في تغيير رئيسه، واختيار شكل الحكم الذي يريد.
حينذاك، بتنا أمام مشهد خليجي مختلف تماماً، فقد توارت الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما بين السعودية والامارات، والسعودية والكويت وعمان. وقرّرت السعودية أن تقود مبادرة لم الشمل الخليجي، وتمتين الأواصر بين دول المجلس، فتكثّفت اللقاءات على مستوى القمة وما دونها، ولذلك لم تتردّد السعودية في القيام بخطوات فورية وطارئة لمواجهة تداعيات الربيع العربي، فأرسلت قوات درع الجزيرة في 15 مارس 2011 لقمع الحراك الشعبي في البحرين تحت شعار حماية المنشآت الحيوية، وتبنّت مبادرة خليجية في إبريل 2011 لاحتواء الثورة الشعبية في اليمن، وبدأت تقود ثورة مضادة لتقويض تداعيات الربيع العربي. حينذاك، كان الجميع في مجلس التعاون على استعداد لأن يمنح الرياض صوتاً أعلى للحديث بالنيابة عنه حفاظاً على عروشهم من موجة الربيع العربي التي كانت تنتقل بوتيرة سريعة وغاضبة.
اطمئن قادة الخليج نسبياً الى الموقف الأميركي بعد اندلاع الثورة السورية، إذ بدا أن هناك قاسماً مشتركاً بين الطرفين الخليجي والأميركي. ارتفع مستوى التعاون: التخطيط العسكري الأميركي، تجنيد وتمويل سعودي وقطري، تسهيل تركي، واشتعلت الحرب الأهلية في كل أرجاء سورية، تمهيداً لحرب على النظام السوري وعلى المحور الايراني الروسي. أوجد بندر بن سلطان، الماسك بملف المعارضة السورية منذ صيف 2012، مبرر الحرب، بافتعال كيماوي الغوطة، ولكن الخدعة لم تمرّ، وكشف عسكريون واستراتيجيون وسياسيون أميركيون عن تفاصيل مكتومة عن خدعة بندر بن سلطان، ونشرت تفاصيلها في الصحف الاميركية. لقاء سان بطرسبوغ بين أوباما وبوتين في 6 سبتمبر 2013 على هامش قمة العشرين شكّل انعطافة في مسار الأحداث، إذ مهّد لنهاية فصل من التوتّر الذي كاد أن يودي الى حرب إقليمية وربما دولية.
منذاك، سيطر الريب مجدّداً على مناخ العلاقات السعودية الأميركية، وأصيبت الرياض ومعها الدوحة بخيبة أمل شديدة لأن الحرب التي كانا ينتظرانها لإنهاء الكابوس الايراني لن تقع.
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، تصاعدت الآمال السعودية بأن فارساً جديداً سوف يمتطي صهوة الرئاسة الأميركية ليشعل البيت الأبيض بقرارات نارية. وضعت الرياض رهانها على هيلاري كلينتون، التي لقيت من أموال النفط الكثير لإدارة حملتها الانتخابية، وقد حسم هذا المعسكر أمره بأن هيلاري قادمة لامحالة، وأنها مجرد مسألة وقت قبل أن تطأ أقدامها المكتب البيضاوي.
خسرت السعودية الرهان مجدّداً، وخسرت معها الحرب المأمولة في سوريا، وأن الرئيس القادم دونالد ترامب ليس خيارها، فهو ضد الحرب في سوريا، ومع العلاقة مع روسيا، ومع إلزام الدول التي تتمتع بالحماية الأميركية بدفع فاتورة الحماية من نفطها، وأموالها، وإن اضطر الى استغلال كل أدوات القوة والنفوذ لتحقيق ذلك.
مع اقتراب موعد تسلّم ترامب مقاليد الرئاسة في واشنطن، هناك استحقاقات صعبة وقاسية تنتظر العالم، والخليج على وجه الخصوص. بالتأكيد، لن تفصح السعودية ولا أي من دول الخليج عن مخاوفها، وهي التي ألجمت أحد ألسنتها الحداد، أي جمال خاشقجي، لأنه صرّح بأن السعودية قلقة من سياسات ترامب. وعليه، فإن من الطبيعي أن توجّه الأنظار الى الخصم التقليدي السهل، أي ايران، فيما العمل جار على صوغ سياسة خارجية لمواجهة تحديدات مرحلة ترامب، وهذه تستحق جولة بل جولات سلمانية على دول مجلس التعاون، كما تستحق ان تخصص القمة الخليجية لمثل هذا الملف.
قلق السعودية من ترامب شديد، وإن أوهمت العالم بغير ذلك، خصوصاً وأنها تدرك بأن لا شيء صلب يجمع بين الرياض وواشنطن، وحتى النفط ليس هو، الآن، بالعنصر المؤثر في معادلة التحالف، وقد صرّح ترامب بأننا لسنا بحاجة الى النفط السعودي.
في ظل متغيرات جيواستراتيجية إقليمية ودولية، وتبدّل في وجهة واشنطن في المرحلة القادمة، وصعود المعسكر الايراني الروسي، تجد دول الخليج نفسها مضطّرة للبحث عن خيار حمائي يكفل لها الاستقرار، ولأنظمتها البقاء، وهذا ما دفع للماما تيريزا ماي، رئيسة الحكومة البريطانية للقدوم على الفور والمشاركة كعضو غير رسمي في قمة المنامة، والمشاركة في سيمفونية ايرانفوبيا، طمعاً في المال والنفوذ وإعادة انتاج الدور الاستعماري بشكل جديد. أوروبا الأخرى التي راهنت السعودية عليها تتجه الى اليمين المتطرّف، وإن تصريحات فرانسوا فيون تبعث برسالة فزع الى الرياض، مفادها بأنه لا يمكننا أن نسكت عن الارهاب الذي يصل الينا من مناطق الشرق الأوسط، وترعاه مشيخات النفط، وتبرّره العقيدة الوهابية المشرعنة للنظام السعودي.
خلاصة الأمر، إن السعودية تسعى، تحت الرعاية البريطانية، ومشاركة مشيخات الخليج، باستثناء عمان، إلى توظيف لهجة ترامب في العداء الى إيران، بتلبيد الأجواء في المنطقة بخطاب ايرانفوبيا، وتصعيد مستوى الاحتقان بين طهران وواشنطن في محاولة لتوجيه إدارة ترامب نحو عدو مشترك، والتغافل عن شعاراته الانتخابية وكلامه عن تدفيع المستفيدين من الحماية الاميركية، ومعاقبة الرياض وفق قانون جاستا.