بصدد تفكيك مفهوم «الإقطاع السياسي»

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1986
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

عبد الفتاح نعوم
يمكن القول إن «الإقطاع السياسي» شبهة باتت لصيقة بواقع تداول السلطة في العالم العربي. لكن لدى الحديث عن هذا المفهوم للوهلة الأولى، يبدو وكأن ثمة فرقاً في حيّز التنظير بينه وبين مثيله الاقتصادي. وواقع الأمر أن حقل «الاقتصاد السياسي» يكاد لا يدرس الإقطاعَين (السياسي والاقتصادي) إلا في سياق الوجود المشروط لكل منهما بالآخر. ذلك أن الإقطاع الذي عاشته أوروبا في عصورها الوسطى، لم يميز بين واجهتي السياسة والاقتصاد، لدى توزيعه الفاعليات الاجتماعية. وهو ما يستدعي بعض التفكيك، إن على صعيد تكوين المفهوم وتداوله، أو على صعيد واقعنا الراهن.
تشير لفظة الإقطاع في اللغة العربية إلى ما يقابل اللفظ الانكليزي feudalism، واللفظ الفرنسي féodalité. وهما معاً آتيان من اللفظة اللاتينية feudalis، وتعني قطعة الأرض، أو منطقة النفوذ. وتختزل تلك العبارة الإشارة إلى نظام اجتماعي ساد أوروبا وأجزاء من آسيا لقرون طويلة، وانبنى على تقسيم ملكية الأرض الزراعية على أسلوب يعطي لفئة «النبلاء» امتيازات تجعلهم يمتلكون الأراضي، ويحولون الفلاحين الصغار إلى «أقنان» يعمل الواحد منهم في أرض صغيرة وأدوات إنتاج خاصة به، مقابل تسليم «سيده النبيل» حصة من الإنتاج، والقيام بـ»أعمال السخرة» خدمة للسيد إياه، مقابل توفير الحماية لـ «القن».
وبتفحّص حمولة مفهوم الإقطاع في التجربة الدولتية العربية الإسلامية في العصور الأولى، يتبين أن الممارسة اختلفت بعض الشيء، والمضمون الاجتماعي أيضاً كان مختلفاً. فإذا كان الحديث عن الإقطاع الأوروبي لا يرد في أي متن منذ القرن الثامن عشر، إلا ويكون مقترناً بقدر من الاستهجان، فإن المتون التي تناولت «الإقطاع الإسلامي» غالباً ما احتفت به، باعتباره نمطاً من أنماط تدبير الأملاك العامة للأراضي، وتفويت ملكيتها إلى الأفراد المستحقين لها. وهو ما يشير إلى قيام الفرق بين هذا النمط من الإقطاع وبين مثيله في أوروبا، حيث في الثاني كانت التحالفات بين الملكيات، وبين البابوية الكنسية، وبين كبار الملاك، هي الناظمة لأركان الحياة السياسية، والراسمة لمعالم الوجود الاجتماعي.
لذلك فقد كان واقع الإقطاع ذاك لصيقاً إلى أبعد الحدود بمعضلة «التوريث»، حيث توريث المِلكية العينية (الأرض)، والسياسية (السلطة) للأبناء والأحفاد، هو مبدأ الأمر برمته. لكن مع نهاية الإقطاع في أوروبا الغربية، ثم إنهائه بالتجربة الشيوعية في مناطق أوراسيا وغيرها، والتي انتهت هي الأخرى، استتب الأمر في النهاية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وحدث التمييز بين السلطة السياسية، التي لم يعد ممكناً في ظل تلك النظم تداولها بمنطق التوريث، اللهم إذا تعلق الأمر بملكيات عريقة موروثة، لا تقوم بأي مهام تنفيذية، بل تحتفظ برمزية الاستمرارية فقط.
في الوقت نفسه، استمر منطق التوريث حاضراً على صعيد الملكية الاقتصادية في الإنتاج الرأسمالي، برغم أن الأمر تجاوز الإنتاج الزراعي التقليدي، واحتواه في سيرورة عبرت عنها الليبرالية بصيغتيها الما قبل والما بعد كينزية، حيث هامش القطاع العام اتسع بفعل تزايد هوامش تدخل الدولة، لكن الملكية الفردية بقيت هي الوحدة الأساسية، والتوريث بقي واقعاً. ولذلك جرى استهجان توريث السلطة في بعدها التنفيذي في تلك البيئات، ومع الوقت تكونت أركان مفهوم الإقطاع السياسي، وإعماله كوحدة تحليل لوصم تداول السلطة الذي لا يقوم على معيار الكفاءة، ويقوم على الانتساب للحاكم، سواء أكان ملكاً، أم رئيساً، أم وزيراً. وجرى حل مشكلة التناقض بين الرغبة في الحفاظ على الملكيات العريقة، وبين منطق السلطة الجديد، بابتكار «الملكيات البرلمانية».
حينما يستحضر المرء هذا السياق التاريخي لتشكل مفهوم الإقطاع السياسي، ويحاول قياس واقع تداول السلطة في سياقنا العربي الراهن، فإنه يصطدم بالكثير من الحالات التي يمكن وصفها بأنها تنتمي إلى حيز الظواهر التي يطالها المفهوم. فالملكيات في العالم العربي كلها تنفيذية، وفي أحسن الأحوال يتم النص على صلاحياتها في دستور مكتوب، أو تتقاسم معها حكومات منتخبة بعض الصلاحيات التنفيذية، لكنها تبقى ملحقة بها في آخر المطاف. أما الجمهوريات العربية، فلم تتخلص من بقايا الإقطاع السياسي إياه، ولولا الدينامية التي شهدتها مصر لربما كان توريث جمال مبارك قد تم، مع كل الاستهجان الذي رافق الحديث عنه.
لكن الأمر ليس جامداً بالقدر الذي يمكن تصوره، فقد بات عند الكثير من النخب الليبرالية العربية ميل كبير إلى استهجان التوريث، حتى لو تم من خلال أقنية الانتخابات والعمل الحزبي، وحتى لو كان أبناء الرؤساء ذوو كفاءات في مقابل تسامحها مع تولية ملك جديد لبلاد عربية من دون كفاءة، باعتبارها مَلَكية لها أعرافها. ذلك أن ثمة بنية قيمية عميقة في المجتمعات العربية، تجعل واقع توريث المنافع والمكاسب والمناصب أمراً مرغوباً ومستهجناً في الآن نفسه. ولذلك فالتوريث إياه حاضر في معظم البنيات السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا، من الجمعيات المدنية إلى الأحزاب والدول، والأمثلة كثيرة.
إن أنظمة ما بعد الاستعمار التي حكمت معظم بلدان العالم العربي، لم يكن في مقدورها التخلي جذرياً عن بقايا الإقطاع، لا على صعيد الاقتصاد، ولا على صعيد السياسة والقيم والوقائع الاجتماعية. وبالتالي لم تنجح محاولات التنمية والاستقلال الوطني، ولم تجد الديموقراطية بأي صورة من الصور الطريق إلى التبيئة بشكل سليم، فحافظ الإقطاع إن في السياسة أو في الاقتصاد على وجوده، وبات يتمظهر من خلال الأطر والإجراءات التي تبدو ديموقراطية كالانتخابات والهيئات التمثيلية وغيرها.
اجتهد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في محاولة معالجة معضلة السلطة في العقل السياسي العربي، وانتهى إلى أن هذا العقل يتحدد بمحددات من أهمها أنه لا يزال يرى في السلطة غنيمة، وهذا ما يجعل اقتصادنا متخلّفاً، وأشكال تداول السلطة لدينا خارج الزمن. أما المفكر اللبناني ناصيف نصار، فيرى أن منطق السلطة الذي طغى على المجال السياسي العربي حوّل فكرة «المجال العام» إلى حيز «المُلك». وبالتالي لم يتأسس مجال عام قابل لأن تتوطن قيمُ الديموقراطية داخله. أما الفرص التي يجود بها الزمان لخلخلة بنية الإقطاع السياسي، كالأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، فقد أدت إلى إعادة إنتاج الواقع نفسه، أو جرت البلدان العربية إلى ما هو أقبح من «الإقطاع السياسي».