البيان في أسباب استغناء الأمريكان عن ‘آل سعود’ في اليمن

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2133
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

أحمد الشرقاوي
ما من شك أن فشل الرئيس أوباما في إحداث التغيير في الشرق الأوسط وفق الرؤية الأمريكية لنشر الديموقراطية الصورية تمهيدا لعولمة الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، يعود لعاملين أساسين: الأول، تجاهل آمال الشعوب وطموحاتها المشروعة في بناء نموذجها التنوي والحضاري انطلاقا من خصوصياتها الثقافية.. الثاني، دعم الأنظمة المستبدة الفاسدة والعميلة لتكون صمام أمان لحماية المصالح الأمريكية بالوكالة في ما يشبه العلاقة بين العبد والسيد.
ومرد ذلك، يعود بالأساس إلى تأثير الرؤية “الإسرائيلية” على السياسة الأمريكية في التعاطي مع أوضاع المنطقة، لأن الخطاب الرسمي “الإسرائيلي” الموجه للشعوب الغربية، يروج لمقولة أن “إسرائيل” هي الدولة الديموقراطية الوحيدة القائمة وسط غابة من الديكتاتوريات المعادية، في حين أن الحقيقة هي شيئ آخر معاكس تماما لهذا الخطاب، ومؤداها، أن وجود دول ديموقراطية تتمتع فيها الشعوب بالحرية والإرادة، وحق تقرير المصير، ورسم السياسات العامة التي تخدم مصالحها وتطلعاتها المستقبلية.. يشكل خطرا جسيما على مصالح الغرب الاستعماري من جهة، وأمر مناقض لوجود “إسرائيل” نفسها في المنطقة من جهة أخرى، لما يمثله من تحدي لأحلام الصهيونية الوردية في التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة على منطقة الشرق الأوسط الغنية، وبالتالي، فتمتيع الشعوب العربية بالحرية والديموقراطية من المحرمات الصهيونية والغربية، هذه حقيقة لا يجادل فيها إلا جاهل أو مستلب عقليا.
وقد ساهمت بريطانيا التي زرعت هذا السرطان الخبيث في جسد الأمة قبل سبعين سنة، في ترسيخ القناعة لدى الدولة العميقة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، بضرورة دعم دور “إسرائيل” كقوة إقليمية ضاربة للحؤول دون قيام وحدة عربية قد تغير المعادلات الجيوسياسية والإستراتيجية في المنطقة، وذلك بموازاة دعم ‘آل سعود’ ليكونوا أسياد المشرق، للحؤول دون قيام أية مقاربة لوحدة إسلامية جامعة قد تشكل البديل للحضارة الغربية المادية.
وهذا ما حدث زمن القائد عبد الناصر الذي كان يسعى لتحقيق رؤيته التقدمية على أساس الوحدة العربية، فتكالبت “إسرائيل” والغرب الأطلسي والأنظمة العربية العميلة على مشروعه إلى أن أجهضوه ودفنوه معه بعد رحيله، وتحول بعده إلى مجرد ذكرى لشعار لم يعد قابلا للتطبيق بسبب المتغيرات في البنية السوسيوثقافية للعالم العربي، وبروز مكونات إثنية وطائفية ومذهبية تتصارع على السلطة والثروة.
لكن ما أن هزم مشروع الوحدة العربية حتى قيد الله للأمة مشروعا أضخم وأعظم وأجدى، ألا وهو مشروع الموحدة الإسلامية الذي بدأت تباشيره تطل على المنطقة مع نجاح الثورة الإيرانية المجيدة سنة 1979، وبسببه تحديدا تحولت إيران إلى عدو و”إسرائيل إلى حليف في عرف الأنظمة العربية الخائنة لربها ودينها وشعوبها المقهورة.
وقد تجلت بوادر هذا المشروع الرباني العظيم من خلال رؤية الإمام الخميني (ق س)، الذي قيد نجاحه بشروط ثلاثة:
* الأول، تحرير العقول من الجهل الذي علق بها عبر ثورة ثقافية تعيد بناء الإنسان العربي والمسلم وفق المفاهيم القرآنية والقيم الأخلاقية المحمدية والمبادئ الإنسانية الكونية، تمهيدا لثورة معرفية علمية وتكنولوجية تنقله من حالة المستهلك والمفعول به إلى حالة المنتج والفاعل في الحضارة الكونية.
* الثاني، تأسيس حركات مقاومة شعبية لتحرير الأرض ومحاصرة “إسرائيل” للحد من عربدتها وطموحاتها التوسعية واستنزافها من الداخل لإشغالها بهواجس الخوف والرعب والقلق الدائم في انتظار تحسن الظروف للمواجهة الشاملة في يوم الله الأكبر، انطلاقا من حقيقة تقول، أن المجتمع الصهيوني الهجين لا يستطيع أن يعيش بأمن وسلام من دون افتعال حروب وفتن وصراعات خارجية تشغله وتشد من عضده وراء أسطورة جيشه الذي “لا يقهر”، وهي المقولة التي أسقطها رجال حزب الله الجبار في حرب تموز 2006 فكرت السبحة مع حروب غزة الثلاثة.
* الثالث، تحرير الشعوب المستضعفة من نير الظلم والفساد لتستعيد شرعيتها المسروقة وتقرر مصيرها بنفسها وتبني أنموذجها التنوي والحضاري الخاص بها في إطار الرؤية الوحدوية الجامعة للأمة، وهو ما رأيناه يتجسد واقعا عمليا على الأرض على امتداد محور الممانعة والمقاومة الذي يواجه اليوم أشرس حرب كونية لإجهاض نواة هذه التجربة الرائدة على مستوى المنطقة.
وهذا المشروع هو الذي غير المعادلات بالمنطقة وقلب الأولويات رأسا على عقب، وبدأ يتمدد إلى اليمن والبحرين والمنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية، فكان من الطبيعي أن تتكاثف الجهود الصهيونية والأطلسية والعربية لمواجهة إيران بهدف إجهاض ثورتها في مهدها، وحين فشلوا في ذلك من خلال الحرب زمن صدام، قرروا مواجهة إيران بالتضليل الإعلامي والحصار الاقتصادي والمقاطعة السياسية والحروب بالوكالة من مدخل تشويه الإسلام بالإرهاب وتنفير الناس من التفكير بنظام إسلامي فدرالي جامع، فخلقوا لهم “خلافة داعش” الإسلاموية المتوحشة، وكان لـ”السعودية” المعادية لتحرر الشعوب وطموحاتها الفضل الكبير في تشويه الدين وقتل المسلمين تمهيدا لإقامة شرق أوسط جديد مقسم جغرافيا وعرقيا ودينيا إلى غابة من الإمارات الطائفية والكانتونات المذهبية المتصارعة والمرتبطة بالقوى الإقليمية والدولية ما يصب في مصلحة “الدولة اليهودية” العنصرية.
غير أن تدخل الله في التاريخ بحكم أنه في السماء إله وفي الأرض إله، أفشل كل هذه المساعي وأسقط أوهام أحلام إمبراطورية روما الجديدة وأحلام “إسرائيل” وأوهام ‘آل سعود’ في مستنقع الشرق الأوسط القديم..
وقد تبين أن إسقاط صدام حسين لم يحمي أمن “إسرائيل” ولم يمكن “آل سعود” من الهيمنة على العراق، بل نجحت إيران في بسط نفوذها في هذا البلد من دون إطلاق رصاصة واحدة.
وتبين أن حرب “إسرائيل” على حزب الله سنة 2006 لم تنهي المقاومة في لبنان ولم تبعد إيران عن حدود فلسطين المحتلة، كما أن حروب “إسرائيل” الثلاثة على غزة لم تنجح في اجتثاث المقاومة الإسلامية في القطاع ونزع ورقة فلسطين من يد طهران.
وتبين اليوم أن الحرب الكونية التي شنت على سورية لم تنجح في إسقاط هذا البلد العربي الممانع والمقاوم لكسر محور المقاومة وعزل إيران عن عمقها العربي وامتدادها الإسلامي الطبيعي في المنطقة.
كما تبين أيضا أن حرب “آل سعود” وتحالفهم الصهيو – أعرابي المجرم على اليمن لم تنجح في تركيع شعبه المؤمن الفقير والمجاهد، وتحويل اليمن إلى حديقة خلفية لـ”السعودية” والإمارات و”إسرائيل” خدمة لمصالح إمبراطورية روما الجديدة.
*** / ***
وبسبب هذه الانتكاسات المتتالية، وصل الرئيس أوباما إلى قناعة حاسمة مؤداها، أن استمرار أمريكيا في شن حروب في المنطقة دعما لرؤية “إسرائيل” التوسعية وأوهام “السعودية بالنفوذ أرهق الولايات المتحدة واستنفذ قواها العسكرية البشرية والمالية وأثر على سمعتها ومكانتها في العالم وخلق لها من الأعداء ما لا تطيقه، وأن مصلحة الولايات المتحدة هي في التحالف مع الأقوياء لإرساء الأمن والاستقرار في المنطقة وضمان مصالحها الإستراتيجية دون مواجهات عسكرية مباشرة أو بالوكالة، فالوضع لم يعد يحتمل، والأمور قد تنفلت من عقالها وتنتهي بحرب عالمية لا يرغب فيها أحد، خصوصا بعد دخول الروسي المدعوم من الصين ودول البريكس إلى المنطقة.
وقد بدأ هذا التحول الكبير في السياسة الأمريكية يظهر من خلال معطيين تم التأسيس لهما بالاتفاق النووي مع إيران، ثم بالاستدارة نحو آسيا والانتقاد اللاذع الذي وجهه أوباما لـ”السعودية” وسياساتها الفاشلة التي ورطت أمريكا في حروب أضرت بها ولم تحقق أي من النتائج المتوخاة منها، ورفض واشنطن تمتيع ‘آل سعود’ ومشيخات الخليج بالغطاء الأمني الاستراتيجي في لقاء كامب ديفيد، وقول أوباما أنه لم يعد مقبولا أن تركب “السعودية” ظهور الجنود الأمريكان لتحقيق أوهامها في المنطقة، وأن عليها الاعتماد على مقدراتها للدفاع عن نفسها، وأن الخطر الحقيقي لا يتمثل في إيران بقدر ما هو كامن بداخلها بسبب طريقة تعاملها مع شعبها وانسداد الآفاق أمام شبابها.
*** / ***
وبذلك، يكون الرئيس أوباما ولأول مرة في التاريخ، حرر السياسة الأمريكية من ثوابتها التقليدية، فرفع الغطاء عن ‘آل سعود’ وبدأ يتعامل معهم من موقع الوسيط الذي يهدف إلى تحقيق مصالحه، دون صدام مع من كانوا يعتبرون بالأمس القريب أعداء لبلاده، ودون حماية لمن كانوا يعتبرون إلى وقت قريب حلفاء تاريخيين لأمريكا.
هذا التحول الإستراتيجي الكبير الذي أملته الواقعية الأمريكية، تجسد من خلال مجموعة قرارات سرية قد تبدو للوهلة الأولى غامضة، لكنها تمثل في العمق مؤشرات لتغيير جوهري يريد أوباما إرسائه كثوابت جديدة في السياسة الأمريكية قبل رحيله.
وللإشارة، فالواقعية السياسية الأمريكية لا تعني التخلي عن الأهداف الكبرى، بل القبول بالواقع في انتظار تغييره بطرق أخرى، وهذا هو معنى أن الأهداف تبقى ثابتة في ما تتغير الإستراتيجيات من إدارة إلى أخرى.
*** / ***
وتعود أسباب هذا التحول في الموقف من إيران و”السعودية” إلى مجموعة أسباب ذاتية وموضوعية، سبق وأن تداولها الإعلام العربي والغربي والصهيوني بشكل مركز زاد من قلق ‘آل سعود’ وخوفهم مما يخبئه الدهر لهم من تقلبات لا تبدو في صالحهم كما كانوا يأملون.
لعل أولاها، أن أمريكا قررت التقرب من إيران من خلال الاتفاق النووي لإعادتها إلى حضن المجتمع الدولي بعد أن فشلت كل استراتيجياتها القديمة من النيل من نظامها، شريطة أن تتعاون مع واشنطن في قضايا المنطقة بما يخدم مصلحة الجميع، وهو ما لا تزال ترفضه طهران برغم كل الوعود والمغريات الأمريكية، لأن لإيران قناعة بأن هدف أمريكا في النهاية هو النفاذ إلى الداخل الإيراني بهدف تفجير الجمهورية الإسلامية بثورة ملونة ناعمة، ونذكر جميعا الرسائل السرية التي بعث بها الرئيس أوباما إلى الإمام الخامنئي طلبا للتعاون بشأن المنطقة، والتي رفضها الإمام بحجة أنه لا يمكن الوثوق في نوايا أمريكا الخبيثة بحكم التاريخ والتجربة.
ويعود هذا التحول إلى فشل الأدوات في عزل إيران والحد من نفوذها، ونجاح طهران في ترسيخ موقعها ودورها في المنطقة بسبب سياساتها العقلانية والخيارات العديد التي تمتلكها وتمكنها من مواجهة الخطط المعادية دون الانغماس مباشرة في الصراعات والحروب كما كان يتوقع أعدائها لاستنزافها، بل العكس هو الذي حصل حين غرقت “السعودية” في المستنقع اليمني بشكل مباشر أصبح الخروج منه أمر مستحيل من دون قرار إيراني ما دامت الحرب تجاوزت جغرافية اليمن لتنتقل إلى الداخل “السعودي”.
كما وأن من أسباب هذا التحول فشل الإرهاب الوهابي في القيام بدوره الوظيفي لتحقيق الأهداف المرسومة إليه من قبل الأمريكي، وتحوّله إلى أداة في يد الدول الإقليمية في صراعاتها على النفوذ في المنطقة، ونقصد بذلك الحروب التي نشبت بين المجموعات التكفيرية في سورية والتي جاءت انعكاسا للتناقضات القائمة بين “السعودية” من جهة وقطر وتركيا من جهة ثانية، أو بين السلفية الوهابية والسلفية الإخونجية لنكون أكثر تحديدا، في حرب خفية عنوانها “أحقية تمثيل السنة في العالم الإسلامي” بين “خادع الحرمين” و”سلطان الإخونج”.
هذا الواقع، جعل أمريكا تدرك أنه يستحيل توحيد من تسميهم بـ”المعارضة المعتدلة” التي لا وجود لها على الأرض السورية إلا من حيث التسمية، في ظل غياب مشروع موحد يجمعهم، وفي المقابل، فوجئت أمريكا بوحدة وتماسك وصلابة وشجاعة وثبات محور المقاومة الذي يتكلم لغة واحدة، ويعمل من أجل أهداف واضحة وموحدة في إطار مشروع إقليمي كامل ومتكامل يسعى إلى تحرير شعوب المنطقة من الجهل والتبعية.
ونتيجة هذا التضارب في الرؤى والمصالح بين أدوات أمريكا، تحول الإرهاب إلى خطر داهم يهدد العالم أجمع، وأصبح من المستحيل ضبطه والتحكم فيه لتوجيهه الوجهة التي فرّخ من أجلها، وبالتالي، بدل أن يكون الإرهاب هو الحل والبديل العملي الناعم عن الحروب المباشرة المكلفة كما كانت تعتقد إدارة أوباما، أصبح هو المشكلة، بدليل ما قاله أوباما لمجلة “أتلنتيك”، من أن الخطر الذي يتهدد العالم هو من الإرهاب “السني”.. لكنه قبل ذلك بفترة، سبق وأن أشار إلى أن العالم الغربي يخشى القنبلة النووية “السعودية”، موضحا ماهيتها بالقول، إنها “الحركات الجهادية” التي تتحكم فيها “السعودية”.
ويتبين من سياق التصريحات والأحداث خلال ولاية أوباما الثانية، أنه كان يسعى لوضع قدرات ‘آل سعود’ قيد الاختبار في هذا المجال للاستفادة منها إن أمكن أو معرفة قوتها وحدودها لغاية تفكيكها بعد ذلك ونزع شوكتها من يد ‘آل سعود’.. وقد شكلت الحرب في وعلى سورية فرصة ذهبية للإدارة الأمريكية لاكتشاف أن “السعودية” نفسها لا تستطيع تهديد العالم بالإرهاب، خصوصا بعد أن أدرك العالم الإسلامي قاطبة اليوم أن المملكة الوهابية شوهت الإسلام وسمعة المسلمين ودمرت البلدان العربية ومزقت شعوبها وبددت مقدرات الأمة وخيراتها في تمويل حروب عبثية ضدها، وبالتالي، فقدت الدعم العربي والإسلامي الذي كان يمكن أن يشكل القنبلة النووية التي كان الغرب يعتقد أن “السعودية” تتحكم بها وقد تشكل خطرا عليه ما جعله يحتويها ويصنع لها أعداءا وهميين لاستنزافها.
وها هو مؤتمر غروزني الأخير يخرج الوهابية من وعاء أهل السنة والجماعة وينزع عن ‘آل سعود’ شرعية تمثيل المسلمين السنة والتحدث باسمهم، فأصبحوا منبوذين مطرودين من الحاضنة العربية والإسلامية، وما زاد الطين بلة هجوم إيران غير المسبوق على ‘آل سعود’ بسبب الجرائم المنظمة التي ارتكبوها في حق الأمة، ووصفهم بـ”الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن” هو طرد لهم من إسلام الرحمة والمحبة والاعتدال الحقيقي دون تكفيرهم، وها هي الأصوات بدأت ترتفع بقوة في العالم العربي والإسلامي مطالبة بنزع إدارة الحج من يد ‘آل سعود’ المجرمين وإقامة إدارة إسلامية مشتركة تتولى تنظيم هذه الفريضة المقدسة، لأن مكة والمدينة أراضي أوقاف إسلامية لا يحق للمهلكة الوهابية الاستمرار في احتلالهما إلى ما لا نهاية، وفي حال قررت المقاومة الإسلامية السنية والشيعية تحرير الحجاز بدعوى من علماء الأمة الشرفاء، فلن يجد ‘آل سعود’ من يدافع عنهم، لأن المسألة دينية بين المسلمين ولا علاقة للغرب بها.
*** / ***
وما تجب ملاحظته في هذا السياق، هو أن قدرة إيران على استخدام أوراقها القوية في التفاوض مشهود لها بها من قبل العالم أجمع، فهي لا تقدم شيئا يذكر دون الحصول على الأثمان المناسبة عندما يتعلق الأمر بمصالحها ومصالح محور المقاومة، لكن عندما يتعلق الأمر بمستقبل المنطقة ومصيرها فالأمر يختلف، لأن التحالف في إطار محور المقاومة لا يعني أنها تمتلك الحق للتحدث باسم مكوناته المستقلة، هذا ما حصل بالنسبة للملف السوري والعراقي واللبناني حيث رفضت التفاوض بشأنهم مع الأمريكي والفرنسي وغيرهما من المبعوثين الدوليين، وهذا لعمري قمة الإحترام.
اليوم يتكرر الإصرار الأمريكي على التفاوض مع طهران بشأن الملف اليمني، هذا ما كشفته وكالة فارس للأنباء الخميس، حيث قالت إن الإدارة الأمريكية بعثت برسالة سرية إلى طهران تدعوها للتفاوض حول اليمن من دون ذكر أي دور للرياض. ووفق ذات الوكالة، فإن الرسالة مررّت عبر مسقط وتتضمن اقتراحاً لمفاوضات ثلاثية روسية إيرانية أميركية على مستوى الخبراء حول اليمن.. وهو ما رفضته طهران التي أكدت أن الجهة المخولة بالتفاوض حول الشأن اليمني هو المجلس الأعلى الممثل لسلطة الشعب وشرعيته الثورية.
وفي خبر عاجل، ذكرت وكالات الأنباء أن الوزير محمد ظريف سيلتقي بالوزير كيري الجمعة في واشنطن لمناقشة العلاقات بين البلدين وتطبيق مخرجات الاتفاق النووي، خصوصا ما له علاقة برفع العراقيل الأمريكية الموضوعة على المبادلات التجارية والمالية الإيرانية التي تعيق الأبناك الدولية من ولوج الأسواق الإيرانية. وهو الأمر الذي جعل الإمام الخامنئي ينتقد الولايات المتحدة ويشكك في نواياها ويهدد بإجراءات مقابلة في حال استمر هذا الوضع غير القانوني.
والحقيقة أن لا أحد يستطيع التنبؤ بخيارات إيران في هذا الإطار، لكن، حيث أن المر يتعلق بتوجه عام في السياسة، ففي اعتقادي أن فشل حكومة روحاني في حلحلة مسألة العقوبات، ستفتح الطريق رأسا أمام مقدم الجنرال قاسم سليماني إلى سدة الرئاسة في الانتخابات المقبلة، وهذا ما تخشاه أمريكا والغرب و”إسرائيل” و”السعودية”، ويحسبون له ألف حساب وحساب، ولا نريد أن نستفيض هنا في الشرح ونترك الموضوع لوقته المناسب.
ما من شك أن الرسالة الأمريكية لطهران حول اليمن تؤكد المخاوف “السعودية” من أن الولايات المتحدة قررت الانفتاح على إيران القوية والتعامل معها كقوة إقليمية لها قدرات وإمكانات وخيارات وازنة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها بحال من الأحوال، وأن مصالح أمريكا في المنطقة أصبحت رهن هذه العلاقة الجديدة التي تشك الرياض وتل أبيب وأنقرة من أن تطويرها يعني عودة إيران للعب دور “شرطي المنطقة”، وهو أمر غير صحيح لأن إيران وإن كانت تقبل بالتعاون مع كل دول العالم على أساس الندية والاحترام وتبادل المصالح والمنافع باستثناء “إسرائيل”، إلا أنها ترفض أن تتحول لأداة في يد أي قوة دولية أمريكية كانت أم روسية أو غيرها.
فعلى سبيل المثال، طهران يربطها حلف إستراتيجي مع موسكو، وتتعاون معها في قضايا الشرق الأوسط بندية واحترام، لكن فقط في الملفات التي يوجد تقاطع للرؤية وتوافق في الرأي بشأنها، وهي تختلف مع روسيا جملة وتفصيلا في قضايا عديدة لعل من أبرزها قضية “إسرائيل” و”السعودية” وإلى حد ما بين الدولتين خلافات بشأن اليمن.
ومرد ذلك، أن السياسة الإيرانية تأخذ بالاعتبار مصالح الشعوب بغض النظر عن طبيعة الأنظمة، فيما تراعي موسكو مسألة الشرعية الشكلية للأنظمة حتى لو لم تكن في مصلحة الشعوب، ولعل اليمن يمثل المثال الصارخ على هذا الفرق في السياسات ومصر إلى حد ما، هذا في ما هناك توافق شبه تام بشأن سورية واختلاف طفيف بشأن لبنان، حيث ترفض إيران التدخل في قضية الرئاسة احتراما لقرار حليفها حزب الله فيما تميل روسيا إلى اعتماد مرشح وسطي للخروج من حالة الجمود التي فرضها تيار المستقبل تنفيذا لتعليمات ‘آل سعود’ الذين يعتبرون حزب الله حزبا “إرهابيا” ويرفعون الفيتو في وجه حليفه الجنرال عون الأحق بالمنصب من غيره.
*** / ***
والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: – هل قررت واشنطن تحويل ‘آل سعود’ إلى مزبلة التاريخ بعد كل ما سبق ذكره؟..
ما من شك في ذلك، فالرسالة السرية الأخيرة بشأن اليمن تعتبر دليلا قويا على ذلك، ومؤداها، أن واشنطن مستعدة لتقديم ‘آل سعود’ على مذبح العلاقات الأمريكية الإيرانية الجديدة في حال وافقت طهران على التعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة بشأن قضايا المنطقة، وأولها اليمن.
وإذا أضفنا إلى ما سلف قانون الكونجرس بشأن السماح لعوائل ضحايا 11 شتنبر/أيلول 2001 بمقاضاة “السعودية” للحصول على تعويضات، نكون أمام مشهد جلي يقول، أن المسألة مسألة وقت، لأنه بمجرد تجميد مذخرات “السعودية” في الولايات المتحدة وتحويل جزء كبير منها كتعويضات لضحايا الإرهاب، فلن يكون لـ’آل سعود’ من دور مستقبلي في المنطقة، وسيتم استبدالهم بنظام مدني منفتح على إيران، لإنهاء الوهابية في معقلها وحرمان من يفرخون هذا الشر من مقدراتهم المالية، وهذا هو السبيل الوحيد لتجفيف منابع الإرهاب والقضاء عليه من جذوره.
هذا الأمر قد يحتاج إلى بعض الوقت بسبب الإجراءات البيروقراطية والقضائية، والقرار في جوهره هو قرار الدولة الأمريكية العميقة، وأوباما كما من سيأتي بعده ليسوا سوى منفذين، ولا يمكنهم تغيير قرار استراتيجي كبير من هذا النوع والحجم، لأن مصالح أمريكا أصبحت في خطر، ولا حل لمعضلتها في المنطقة إلا بالتوافق والتعاون مع طهران التي وصل الجميع في واشنطن إلى قناعة مفادها، أنه يستحيل القضاء على نفوذ إيران في الشرق الأوسط وآسيا أيضا، وقد نبّه بوتين أوباما مؤخرا بالقول، أنه لن يكون في مقدور واشنطن عزل إيران عن محيطها الإقليمي.. ويبدو أن واشنطن وصلت إلى نفس هذه القناعة.
لكن السؤال الذي يبقى معلقا في هذا الإطار هو: – هل تبحث أمريكا عن مدخل للتوافق مع الإيراني والتنازل له عن مجموعة قضايا وصلاحيات في المنطقة، لتجنب الاعتراف بروسيا كقطب دولي فاعل وشريك في حل الأزمات الإقليمية والدولية، ما يمكنها من تركيز جهود حلفها الأطلسي على محاصرة روسيا حد استنزافها؟..
لا شك في ذلك، لكن إيران وكما قال الإمام الخامنئي للرئيس بوتين في طهران، إن سياسة إيران تقوم على المبادئ قبل المصالح، وهي لا تخون حلفائها، وتمنى على الرئيس الروسي أن يكون كذلك بالمثل.
وهو كذلك بالفعل كما نعتقد، وإن اختلفنا معه في بعض التفاصيل.

بانوراما الشرق الأوسط