السعودية بين العمى والرؤية

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 1807
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

يمكن المجادلة بأن السعودية بلغت درجة متقدمة من “الشعور بالقوة” خلال العامين الماضيين يتطلب مزيد من الحذر وكثير من الإنضباط السياسي. ظهر ذلك واضحاً من خلال السياسة الخارجية والخطاب السياسي الحاد، بدليل دخول السعودية حزمة من التحالفات السياسية والعسكرية خلال عام واحد: التحالف العربي؛ التحالف الدولي؛ والتحالف الإسلامي. يجدر القول بأن الشعور بالقوة أمر، والقوة أمر آخر مختلف تماماً. يقول مايكل هوارد، أستاذ التاريخ السياسي: “تتنامى القوة للدولة حتى تصاب بالعمى، عندها يكون كل شيء مفاجئاً”. الشعور بالقوة اذا لم يستند على تقييم حقيقي وواقعي وعقلاني، ويتم توظيفه بالشكل الجيد يصبح ذلك الشعور مدمراً في السياسة. في المقابل، إنطلقت السعودية في رؤية جديدة تتمحور حول إعادة هيكلة الإقتصاد والحكومة وتغيير النهج التقليدي في الإعتماد على النفط، والبدء بالإلتفات إلى بعض مكامن القوة الغير مستغلة والإنفتاح على العالم في السياحة وجذب الإستثمارات، تحت مسمى “رؤيـة 2030” في توجه نحو الداخل وبناء الإنسان والمكان. المثير، أن السعودية في بعدها الأول تتجه نحو “الشعور بالقوة” التي تصيب بالعمى، بينما السعودية في بعدها التالي تتجه نحو مكامن القوة التي تحقق الرؤية.
ظهور تركي الفيصل متحدثاً في مؤتمر المعارضة الإيرانية بباريس في التاسع من يوليو 2016 كان من ضمن منهج أو طريق “الشعور بالقوة”، كما كان مقلقاً لبعض المراقبين والمهتمين بالشأن السعودي، مما أثار العديد من الإسئلة: هل قررت السعودية الإتجاه نحو التصعيد مع خصمها السياسي إيران والدخول في نفق جديد من الحمى السياسية بتأثير “الشعور بالقوة”؟ هل تخلت السعودية عن رؤيـة 2030 التي تعني الإهتمام بالإنسان والمكان والوصول إلى القوة الحقيقية، أو تناقصت وتضاءلت أولوياتها؟ هل إستطابت السعودية وإستسهلت وإستمرأت “السياسة الصلبة” Hard Politics بصرف النظر عن مئالاتها ونتائجها حتى لو أصيبت بالعمى وتحققت مقولة مايكل هوارد؟ هل إعلان تركي الفيصل، بصفته أمير من العائلة المالكة السعودية، ورئيس سابق للاستخبارات السعودية، عن رغبته في إسقاط النظام في إيران حقيقياً أو وهمياً؟ ماهو رد الفعل الإيراني المحتمل ضد السعودية أو دول الخليج؟ والسؤال الأهم: هل يدرك تركي الفيصل تبعات سقوط النظام في إيران والنتائج المُحتملة، وهل تستطيع السعودية، أو دول الخليج، تحمُّل تلك التبعات والنتائج؟
رؤيـة 2030 تتطلب عنصرين أساسيين مبدأيين لنجاحها: (١) داخلياً، الأمن والسلام والإستقرار؛ (٢) خارجياً، الإعتماد على”السياسة الناعمة” Soft Politics وسياسة خارجية تترجم ذلك بكثير من الهدوء وقليل من الحدية. صحيح أن البعض يرى أن رؤيـة 2030 ولدت منقوصة جوانب أساسية هامة، مثل الجانب السياسي متمثلاً في: صياغة دستور (عقد إجتماعي)، ومشاركة سياسية حقيقية، وبرامج انتخابية، مع ما يتبعها من تنظيم أحزاب، وإتحادات، ونقابات، وجمعيات، ومؤسسات مجتمع مدني، لكننا نقول أن “الذي لا يدرك كله لا يترك جله”، كما يقول المثل. العودة إلى الداخل حتى لو أدى بالسعودية إلى سياسة “الإنكفاء” أو منهج “الحياد”، بات ضروريا ومطلوبا لدولة مثل السعودية عليها واجبات محلية وعالمية. فتهيئة البيئة الصحية والطبيعية والصالحة بالمقياس العالمي، وليس بالمقياس المحلي، للإنسان السعودي غاية لا يجب أن يعدلها أو يوازيها أي أمر مهما كان مغرياً وجذاباً ووقتياً.
تنزلق الدول نحو الهاوية نتيجة “العمى” الذي تحدث عنه هوارد، فقياس القوة معقداً بما فيه الكفاية بحيث يختلط في قياسه ووزنه: المجرد بالمشخص، والحقيقي بالوهمي، والملموس بغير الملموس، والمادي بالمعنوي، والصلب بالناعم، والزمان بالمكان، كما فصّل في ذلك عالم السياسة “هانز مورقنثاو”. لكن خطورته تكمن في تولّد حالة توصف بٓـ”الشعور بالقوة” بصرف النظر عما إذا كان ذلك الشعور حقيقياً أو وهمياً. فلطالما دخلت دول كثيرة حروب تؤكد مسوغاتها سرعة إنجازها ومحدوديتها وسهولة السيطرة عليها ثم إنهاءها، ولكن لا تلبث تلك الحروب والنزاعات أن تستمر أعواماً، بل عقوداً، مما يجر البلاد الى كوارث ونكسات. والتاريخ يحكي قصص كثيرة ويزخر بأمثلة عديدة. بالنسبة للسعودية، فحرب اليمن وملفها لازال مفتوحاً في الكويت، والمماحكات السياسية الصلبة لازالت في العراق وسوريا ولبنان، والمساعدات الخارجية السعودية تقترب من الطابع العسكري أكثر من المدني، والإعلام هو أقرب للتوجيه والتحفيز والتجييش منه إلى إعلام مدني. ومؤخراً، مشاركة تركي الفيصل في شأن داخلي لدولة أخرى لإسقاط النظام. مما قد يؤدي إلى إمكانية إستمرار السعودية في مجال “الشعور بالقوة” ويؤدي بالتالي إلى “العمى”، وإنعدام الرؤية.
رؤية 2030 هي خارطة طريق تتجه بالدولة والمجتمع نحو الحياة الكريمة وتتطلب السلم والأمن والإستقرار، مما يتنافى كلياً مع الحروب والفتن ماظهر منها وما بطن. فالمراجع للتاريخ يستطيع أن يجادل بأنه لم يمر عقد في تاريخ السعودية منذ إنشائها، إلا وخاضت فيه حرباً أو نزاعاً بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا مع العلم بأن السعودية التي تضم بيت الله الحرام، مراد لها من الباريء عز وجل أن “تكون مثابة للناس وأمنا”، وإذا تفكرنا في مفردة “الناس” التي تصاحب كل آية تخص البيت الحرام أو مكة المكرمة في التنزيل الحكيم، لإكتشفنا أن ذلك يعني تهيئة البلاد لكل ذكر وأنثى، شعوب أو قبائل، بصرف النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو المعتقد، يثبون اليها ويأمنون فيها. عدم تحقيق مراد الله في “جعلنا” قد يكون أمر محفوف بالمخاطر. ولذا يمكن المجادلة بأن السعودية التي تقدس وتعظّم وتفخر وتخدم بيت الله الحرام ومسجد رسول الله (ص)، مطالبة بأمرين: (١) الإنفتاح على “الناس” بالمعنى الشامل والكامل؛ (٢) عدم الدخول في مماحكات سياسية صلبة تؤدي إلى إلى الشقاق وحروب تخلق الكراهية وتبعثر الطاقات والموارد والجهود.
أخيراً، تقف السعودية اليوم أمام مفترق طريقين: (١) طريق “الشعور بالقوة” والإسترسال خلف أوهام تلك المشاعر التي يطلق عليها البعض محلياً “المهايط”، حتى تصاب الدولة بالعمى ثم تأتي الأحداث مفاجئة صادمة وقد تكون مدمرة؛ (٢) طريق الـرؤيـة 2030، حتى لو كان منقوصاً، وتهيئة مستلزمات تحقيق تلك الرؤية من أمن وسلام وإستقرار وإنفتاح على العالم بسياسة خارجية تجنح نحو السياسة الناعمة، والقوة الناعمة، لكي يكون الإنسان أثمن من المكان وكل ما كان. ختاماً، إتخاذ طريق وسط أو ثالث لا يؤدي للمراد، بل يؤدي، كما قال صديق، إلى “العمش السياسي”، ونقول أن هذا “العمش” لا يؤدي إلى السقوط، بل يتطلب المساعدة الدائمة في السير، لا كما تريده السعودية، بل كما يريده الغير. حفظ الله الوطن

كاتب، ومحلل إستراتيجي