رغم سأم السعودية.. لماذا أوصت بريطانيا بمواصلة الخليج دعم نظام السادات اقتصاديا؟
وجهت بريطانيا دول الخليج بقيادة السعودية، مسؤولية إنقاذ مصر، إبان الأزمة الاقتصادية التي عانت منها مصر، بعد عامين من حرب 1973، رغم "سأم السعوديين" من مشكلات مصر المزمنة.
ووفق ما ذكرت وثائق بريطانية، فقد كانت مصر في تلك الفترة تعاني مشكلات اقتصادية بالغة الصعوبة بعد حرب عام أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، كما عانت مما اعتبره البريطانيون "مشكلة أمنية" بسبب "نقص الأسلحة" التي تريدها القوات المسلحة المصرية بعد الحرب.
وكشفت الوثائق، التي نقلتها "بي بي سي"، أن جيمس كالاهان، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، طلب إجراء مراجعة شاملة للوضع في مصر عام 1975.
وهدفت المراجعة إلى الإجابة عن السؤال التالي: في ضوء مشكلات مصر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ماذا يمكن لبريطانيا أن تفعل لبقاء نظام السادات؟.
وفي تقييمه، للحال في مصر، رسم سير ريتشار بيمونت، سفير بريطانيا في القاهرة، صورة "كئيبة"، فلم يكد يمر عام بعد حرب 1973، حتى أعلن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، سياسة سُميت "الباب المفتوح" على الغرب.
وحينها وعد المصريين بأن هذه السياسة ستؤدي إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية، ومن ثم ستتغير حياة المصريين إلى الأفضل مما كانت عليه أيام نظام حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
إلا أن كل التقارير البريطانية أكدت أنه بحلول عام 1975، دخلت أزمة "خانقة"، حيث رسمت التقارير ملامح هذه الأزمة على النحو التالي: ارتفاع حاد في معدل التضخم، وما نجم عنه ارتفاع حاد في الأسعار، ظهور فئة قليلة بالغة الثراء بينما تعاني الغالبية الساحقة من المصريين فقرا مدقعا، وتفشي الفساد، وتدني الخدمات العامة بعد فشل الحكومة في الوفاء بوعود تحسينها.
وفي تقرير إلى لندن، أبلغ سير بيمونت حكومته بأن كل هذا يعني أن مصر في حاجة ماسة إلى دعم اقتصادي كبير "كي يمكن لنظام السادات تخفيف آثار المشكلات الاقتصادية الصعبة والاستياء الشعبي الذي لم يصل بعد إلى حد الخطر الداهم على بقاء النظام".
ولم يستند السفير، في تقريره المفصل، على المتابعة اليومية لما يحدث في مصر فقط، بل تحدث مع سياسيين مصريين نافذين، وقال إن حدة الأزمة الاقتصادية جعلتهم يخلصون إلى أن موقف بلادهم من الصراع العربي الإسرائيلي "ضيعها".
وقال: "لقد صُدمت كثيرا بالصراحة والحدة اللتين يتحدث بهما وزراء ومسؤولون عن فكرة عشرين عاما ضائعة"، في إشارة إلى الحروب التي خاضتها مصر.
وحسب السفير، فإن محمد محمود رياض وزير الخارجية المصري قال له في أول لقاء بينهما: "واجباتنا هي أن نكمل تحرير أرضنا المحتلة ونبني اقتصادنا، وهذا هو ما يمكننا فعله".
في السياق نفسه، قال السفير إن عسكريا سابقا آخر هو سعد عرفه، نائب مساعد وزير في وزارة الشئون الخارجية قال له : "الله يحمي الكعبة، وعلينا أن ننظر إلى إبلنا".
ورغم تنبيه السفير وإدارة الشرق الأدني وشمال أفريقيا في الخارجية البريطانية إلى خطورة الوضع في مصر، وتأكيد الحرص على بقاء نظام السادات، لم يكن لدى بريطانيا استعداد لدفع أي ثمن أو تحمل أي عبء مالي لمساعدته.
فقال السفير: "وضعنا المالي يجعل من المستحيل أن نقدم أي إسهام جوهري، ولا الضغط على آخرين كي يفعلوا ذلك. وشركاؤنا الأوروبيون لديهم موانعهم الخاصة بهم".
ووفق الوثائق، لم ير البريطانيون سبيلا لمساعدة نظام السادات سوى تدخل دول الخليج بقيادة السعودية، حيث نصح السفير بأن تلك الدول "أقدر وأحق بإنقاذ مصر" من براثن أزمتها.
لكن تقارير البريطانيين، التي تستند على معلومات من مصادر مختلفة، أثارت حينها القلق، لأن السعوديين "لم يعودوا متحمسين لإسناد مصر" بعد أقل من عامين تقريبا من حرب 1973.
وأبلغ سير بيمونت حكومته بأن "حماس" السعوديين للاستثمار في مصر "يفتر"، وأن هذا لن يتغير "حتى ترتب الحكومة المصرية بيتها المالي والاقتصادي".
ومضى يقول: "بل إنني حتى سمعت أن السعوديين يقولون إن السودان دولة واعدة بقدر أكبر للاستثمار فيها".
وأكد السفير البريطاني "سأم السعوديين" من مشكلات مصر المزمنة المتعلقة بالميزانية وميزان المدفوعات، وأرجعه إلى "شعورهم بأنه لا جديد بشأن مستويات الأزمة الحالية"، في إشارة إلى أن النظام في مصر لا يتخذ التدابير الصحيحة اللازمة لمواجهة الأزمة.
وأضاف السفير سببا آخر لموقف السعودية، وهو "الشك في أن نظام السادات ربما يبالغ في تضخيم أزمة مصر الاقتصادية لاستدرار المزيد من الدعم"، مشيرا إلى "عدم الثقة على الإطلاق" في الإحصاءات المصرية.
وعرض السفير، في تقريره، أن "يُفهِم البريطانيون السعوديين، وغيرهم (من دول الخليج النفطية)، أن مصر تتمتع بإمكانات هائلة للغاية للتنمية الاقتصادية لو استغلت مواردها البشرية التي أهملت في الماضي بسبب نقص التمويل".
وعبر عن اعتقاده بأن السعوديين والخليجيين عموما "قصار النظر للغاية إن طبقوا فقط المعايير الاقتصادية الضيقة على استثماراتهم في مصر.
وبدون المعونة السخية، لن يكون المصريون قادرين على ترتيب بيتهم المالي والاقتصادي، كما أن المصلحة المحققة للسعوديين والدول الخليجية من وراء بقاء ونجاح السادات هي تقريبا بنفس ضخامة مصلحة السادات نفسه، حسبما نقلت الوثائق عن السفير البريطاني.
وأضاف: "ينبغي علينا انتهاز أي فرصة تتيح لنا تشجيع السعوديين وغيرهم على ألا يتراخوا في دعمهم، خاصة إذا كان لا بد من عملية إنقاذ دولي ما".
واقترح السفير المنحى الذي تسلكه على حكومته عند إثارة المسألة المصرية مع الخليجيين، وهو ضرورة نُصحهم بأنه لو كان الاستثمار في السودان، مثلا، سوف يحقق مكاسب مالية، فإن توجيه هذا الاستثمار إلى مصر "سيكون عائده أكبر استراتيجيا".
وقال إنه "لأول مرة في التاريخ، تتوفر الموارد (الخليجية)، التي تحتاج إليها تنمية مصر الاقتصادية حاجة ماسة للغاية، ويوجد التقاء للمصلحة السياسية والاقتصادية تدعو بقوة لتوظيفها هنا"، في مصر.
أبدى السفير تشاؤما بشأن خروج مصر من أزمتها بسبب سوء الإدارة، وقال: "لا أرى أي مجال أمامنا لعمل أي شيء فعال للمساعدة في علاج نقص الإدارة الاقتصادية الماهرة الذي تعاني منه مصر معاناة هائلة".
غير أنه عرض التدخل المحسوب لدى مؤسسات الإقراض الدولية، وقال إنه "ربما تحفز بريطانيا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على بذل مزيد من الجهود، على أن هذا يجب أن يُفعل سرا وبحرص".
وفي كل المراجعات السنوية التي أجراها البريطانيون للأوضاع في مصر، تحتل صادرات الأسلحة إلى الجيش المصري أولوية.
وفي كل عام، تشيد التقارير البريطانية بنصيب بريطانيا من سوق بيع الأسلحة إلى مصر.
وكان هذا الملف أحد مشاغل البريطانيين الرئيسية في التعامل مع مصر في ظل أزمة نظام السادات. لذا نصح السفير بأنه "ينبغي علينا أن نواصل استعدادنا لتوريد الأسلحة إلى مصر".
غير أن هذا يظل مشروطا، وفق النهج البريطاني بالسداد. فقال سير بيمونت "لا بد أن يكون (توريد السلاح) مرهونا بالدفع، وإن كان المراد أن يكون السادات قادرا على تأمين كميات من المعدات ذات التكلفة الهائلة التي يحتاجها للحفاظ على استقلاله عن الروس، فربما علينا مرة أخرى العمل بجد لتحفيز سخاء هؤلاء الذين يجب أن يسددوا الفواتير".
وأشار إلى مصلحة أوروبا وبريطانيا، قائلا إنه "بالنسبة للأسلحة، نريد جميعا أن نساعد السادات بطرق مربحة لنا".
واستمرت أزمة مصر الاقتصادية حتى تفجر الوضع بعد قرار الحكومة رفع أسعار بعض السلع الأساسية في يوم 17 يناير/تشرين الثاني عام 1977.
وحينها، أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية عبدالمنعم القيسوني أمام مجلس الشعب، أن الخطوة ضرورية في إطار سياسة تقشفية لازمة للحصول على قرض من صندق النقد الدولي.
ودفعت الإجراءات الاقتصادية المصريين إلى الخروج إلى شوارع القاهرة ومدن أخرى في اليومين التاليين فيما عرف في تاريخ مصر الحديث باسم "انتفاضة الخبز" ووصمها أنصار النظام بأنها "انتفاضة حرامية".
وحينها استدعي الجيش للسيطرة على الوضع، ثم تراجع السادات عن قرارات رفع الأسعار.
المصدر | الخليج الجديد