التطور في العلاقات الأمريكية السعودية
د. يوسف نور عوض: تصريحات الأمير سعود الفيصل الأخيرة والتي انتقد فيها سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق جاءت مفاجئة للكثيرين، ولم يتوقف هؤلاء عند فحوي ما قاله الأمير بل ذهبوا مباشرة إلي أن أزمة تسود العلاقات بين البلدين خاصة عندما تبعتها تصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس التي قالت إن الولايات المتحدة تمهل السعودية ستة أشهر من اجل تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان والسماح لأصحاب المذاهب الأخرى بممارسة نشاطهم بحرية قبل أن تقرر فرض عقوبات عليها. ولا شك أن الموقف الأمريكي وبالتأكيد رد فعل علي مواقف السعودية ولكنه رد فعل يستهدف لفت النظر فقط حتي لا تخرج السعودية عن الخط المألوف للسياسة بين البلدين. وذلك ما يجعلنا نتوقف عند طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية خاصة بعد هذه التطورات المهمة التي لحقت السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
وفي البداية نؤكد علي أن السياسة السعودية في هذه المنطقة لم تقرأ قراءة صحيحة في أي مرحلة من مراحلها، ذلك أن معظم الذين تصدوا لهذه السياسة اندفعوا إما من مواقف ايديولوجية أو قومية وإما من فكر يستسهل تقسيم العالم إلى قوى تحرر وقوى تخلف دون أن يكونوا قادرين على تحليل الأمور في واقعها العملي.
وإذا نظرنا في ضوء هذا الواقع إلي المملكة العربية السعودية وجدنا أن هذا البلد ظل دائما بعيدا عن تيارات السياسة التي أثرت علي كثير من بلاد العالم، ولولا القيمة الدينية الكبرى للأراضي السعودية لظلت الجزيرة العربية فترة طويلة خارج التاريخ المؤثر في منطقة الشرق الأوسط. وقد فرض هذا الواقع علي شعب المملكة أن يعيش حياة ترتبط إلي حد كبير بالتقاليد البدوية الموروثة والقيم الدينية المحافظة، ولكن التحول الحقيقي في العصر الحديث حدث بعد اكتشاف النفط ويجب هنا أن نعترف بأن النفط كان شراكة حقيقية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقد لعبت شركة أرامكو التي أسست في عام 1944 دورا مهما في تدعيم هذه الشراكة وكان لقاء الرئيس فرانكلين روزفلت في عام 45 مع الملك عبد العزيز بداية علاقات متينة بين البلدين، وهي علاقات كان كلا الطرفين يدرك أهميتها وإبعادها ولكن بكل تأكيد فإن السعوديين لم يكونوا يعتبرونها علاقة عمالة للولايات المتحدة لأنهم يعرفون أن الذي يربط بينهم وبين الولايات المتحدة هو النفط، الذي ينتجونه والذي تعتبر الولايات المتحدة أكبر زبون له في العالم. وبالتالي فلم يكن هناك مجال لتفسير هذه العلاقة بأكثر من ذلك. ولكن تحولات مهمة حدثت في منطقة الشرق الأوسط بعد قيام دولة إسرائيل وظهور حركة المد القومي في المنطقة خاصة بعد ثورة يوليو عام اثنين وخمسين في مصر، وصادفت هذه المرحلة فترة الحرب الباردة والصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وهو صراع دخل المثقفون العرب وبعض الحكومات العربية طرفا فيه عندما تبنوا الفكر اليساري واعتبروه المنقذ للشعوب العربية من الاستعمار والتخلف وكانت هذه المرحلة هي مرحلة تصنيف الدول إلي تقدمية ورجعية. ولم يكن من حظ المملكة العربية السعودية أن تكون من ضمن الدول التي تصنف تقدمية لكونها تتبع واقعا محافظا ورثته عبر تاريخها الطويل ومن خلال علاقتها مع الولايات المتحدة.
وفي الواقع لم تتبع المملكة العربية السعودية خلال هذه المرحلة أي موقف يمكن أن يؤخذ عليها سواء كان ذلك في اتجاه القضية العربية أم في اتجاه القضية الفلسطينية بل هناك عدة مواقف تحسب لصالح المملكة العربية السعودية، ومنها موقف سمعته من رئيس وزراء السودان السابق محمد أحمد محجوب، إذ قال قبل انعقاد الجلسة الأولي لمؤتمر القمة في الخرطوم بعد أحداث حرب عام سبعة وستين إن الملك فيصل طلب قبل انعقاد القمة بصورة رسمية الكلام وأضاف أن جوا متوترا كان يسود أروقة المؤتمر بسبب العلاقات بين مصر والسعودية بشأن مشكلة اليمن، ولكن الملك فيصل تجاوز ذلك وأعلن أن المملكة ستقدم العون المالي لدول المواجهة ومنها مصر والأردن، وذلك ما اعتبره محجوب نجاحا للمؤتمر قبل بدئه، وكان للملك فيصل موقف آخر عندما قطع النفط عن العالم الغربي في عام ثلاثة وسبعين، وهو ما يؤخذ علي الولايات المتحدة حتي الآن بأنها لم تتصرف إزاء هذا الموقف.
ويعني ما ذهبت إليه أن النقد يمكن أن يوجه للمملكة العربية من منظورات أخري ولكن بكل تأكيد فإنه لا يمكن أن يقدم لها نقد يتعلق بمواقفها من السياسات العربية وحقوق الشعب الفلسطيني لأن هناك أكثر من دليل علي أن المملكة العربية السعودية تتخذ كثيرا من السياسات التي تغضب الولايات المتحدة والتي لم تتخذ حيالها مواقف قوية بسبب العلاقات التاريخية التي تربط البلدين لأمور لا علاقة لها بالسياسة.
ولا شك أن الموقف بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) قد تغير كثيرا ليس لان الولايات المتحدة قد غيرت سياساتها بل لأنها ظلت تعلن أهدافا كبيرة يري كثير من المسؤولين في العالم الغربي أنها ضرب من النفاق السياسي، وهؤلاء يركزون بصفة خاصة علي مواقف الولايات المتحدة من المملكة العربية السعودية، وليس الهدف من مواقفهم تحقيق الإصلاح بل رغبتهم في اخضاع المملكة العربية السعودية علي نفس النحو الذي ظلت تخضع به الولايات المتحدة بعض الدول العربية الأخرى التي كانت تدعي خلال مرحلة الحرب الباردة أنها دول تقدمية، وفي مقدم هذه الدول مصر وليبيا. ودعني أتوقف قليلا عند بعض النقد الذي يوجه إلي الولايات المتحدة وسأعتمد في البداية علي مقالة دانيل بايب حول العلاقات الأمريكية السعودية.
أشار بايب في هذه المقالة إلي رحلة قام بها الرئيس بوش وزوجته إلي منطقة الخليج العربي في عام تسعين لزيارة القوات الأمريكية المتمركزة هناك وأداء صلاة الشكر معها ولكن السعودية لم تسمح له بذلك واضطر إلي أن يقوم بهذه المناسبة علي ظهر السفينة درم .
وأشار الكاتب إلي أن السعودية فرضت علي المجندات في القوات الأمريكية لبس العباءة وصمتت الإدارة الأمريكية ولم تغير هذا الوضع داخل القواعد الأمريكية إلا بعد أن رفعت الطيارة مارثا ما كسالي قضية ضد وزارة الدفاع، وتحدث بايب عن أن الولايات المتحدة لزمت الصمت في كثير من المواقف الأخرى ومنها حالات زعمت أن آباء سعوديين اختطفوا أبناءهم من زوجات أمريكيات بالإضافة إلي رفض السعودية للمسيحيين بإقامة شعائرهم علنا ورفضها لليهود دخول البلاد . وقال الكاتب إن الولايات المتحدة سكتت عن المقاطعة النفطية في عام ثلاثة وسبعين ولم تسمح للمحققين الأمريكيين باستجواب قتلة خمسة أمريكيين وتظاهرت الولايات المتحدة بأن خطة الأمير عبدالله لحل النزاع العربي الإسرائيلي ناجعة وسكتت عندما قال الملك فيصل لوزير الخارجية السابق هنري كيسنجر إن اليهود والشيوعيين في مركب واحد ضد الحضارة الإنسانية، وسكت الرئيس بوش عن خطاب الأمير عبدالله الذي قال فيه إن البلدين يقفان علي مفترق طرق وإن علي كل منهما أن يبحث عن مصالحه. وقال إن السعودية رفضت التعاون مع المخابرات الأمريكية في شأن الذين قاموا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإن الولايات المتحدة سكتت عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في المملكة.
وأما ديفيد والش فقال في مقالة له إن السعودية هي التي تدعم العناصر المتطرفة وحاول أن يتبني مصالح الشعب السعودي عندما قال إن سياسة الولايات المتحدة تجاه السعودية لها نتائج كارثية علي شعبها وعلي شعوب المنطقة وقال إن الحياة في السعودية تقوم علي السرية وإن وصف ريغان لعلاقة الولايات المتحدة مع السعودية بأنها سياسة المحافظة علي الجوهرة هو وصف غير صحيح وهو لم يقل ذلك في نظره إلا لأن السعوديين مولوا الحرب ضد الشيوعيين في أمريكا اللاتينية.
وإذا توقفنا نسأل هل هؤلاء الأمريكيون يتخذون مثل هذه المواقف حقا من أجل مصلحة الشعب السعودي أم لأنهم يرون أن استمرار السعودية في وضعها القديم لا يخدم مصالحهم.
نحن لا نشك أن انتقاد الوزير سعود الفيصل للسياسة الأمريكية في العراق أملاه تهميش السنة في ذلك البلد وهو ما تعتبره السعودية تهديدا لأمنها، علي الرغم من أن الولايات المتحدة ساندتها بطرد العراقيين من الكويت، ولكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن نزعم أنه بالإمكان الدفاع عن السياسة الأمريكية في العراق. ولكن ذلك ليس موضوعنا علي أي حال، وما نهدف إليه هو أن الولايات المتحدة تقف الآن علي مفترق طرق حقيقي كما قال الأمير عبدالله في ذلك الوقت وعليها أن تختار بين مصالحها ومصالح الآخرين، والمقصود هنا هو بالطبع القوي التي تضغط علي الإدارة الأمريكية من اجل تغيير خريطة الشرق الأوسط ليس من أجل الديمقراطية أو الحرية وحقوق الإنسان وإنما من أجل أن تطلق يد إسرائيل في المنطقة، ولا شك أن دخول تركيا إلي الاتحاد الأوروبي سيكون دعما حقيقيا لإسرائيل، كما أن دعم الأنظمة العربية التي تتظاهر بتبني حقوق الإنسان والتوجه نحو النظام الديمقراطي هو أيضا دعم لإسرائيل ويبقي الموقف في بلاد مثل المملكة العربية السعودية محكوما بقيم تاريخية ودينية وثقافية ولا يجرؤ علي التحول الراديكالي وذلك ما يثير القلق في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدول الأخرى.
القدس العربي 6/10/2005