زعامات الخليج تلتفّ حول نفسها: بقاؤنا أَولى
تتعامل دول الخليج مع ما يجري في قطاع غزة، بوصفه تحدّياً جديداً لأنظمتها، يمكن له أن يؤثّر خاصة على شعبية تلك الأنظمة، وبالتالي على شرعيتها بين مواطنيها، وفي الفضاء العربي الأوسع، الذي يؤثّر إلى حدّ كبير في تشكيل الرأي العام الخليجي، ولا سيما عندما يتعلّق الأمر بحرب مع إسرائيل. مشكلة حرب غزة بالنسبة إلى دول الخليج كلّها، من دون أيّ استثناء، أنها تعكّر إلى حدّ كبير علاقة «التراضي» القائمة بين الأنظمة والمواطنين، وتفتح المجال أمام تغييرات تمسّ المواقع التي حفرتها الأولى لنفسها في المنطقة والعالم، وتؤكد مرّة جديدة أنه لا يمكن لها أن تنأى بنفسها عمّا يجري في محيطها. وإذا كانت الأنظمة الخليجية تملك تجربةً طويلةً في تمرير سياساتها التي تقوم على بيع مواطنيها مواقف عن التضامن مع الفلسطينيين، فيما هي تقوم بتقديم مصالحها التي تتطلّب منها تسديد فواتير للولايات المتحدة، وحديثاً لإسرائيل، فإن ما يجري في غزة على الشاشات مباشرة وضَع حتى حلفاء العدو في الغرب في الزاوية، فكيف بأنظمة تتعاطف شعوبها مع فلسطين، وما زالت تعتبرها بهذا القدر أو ذاك قضيّتها الخاصة؟على أن مشكلة تلك الأنظمة هنا مزدوجة، وقد تكون المشاهد المحرجة لها الآتية من غزة، الجزء الأسهل من القصة، ذلك أن مشكلتها الكبرى تتمثّل في صمود حركة «حماس» والمقاومة الفلسطينية، وتمكّنها من منع إسرائيل من تحقيق أهدافها، وهو ما يبدو أن الأمور متّجهة إليه، بمعزل عن الخسائر البشرية الهائلة والدمار الواسع على الجانب الفلسطيني. إذ قد تؤدّي هذه النتيجة إلى زعزعة الترتيبات الأمنية والسياسية التي ترتبط بها الأنظمة منذ زمن طويل مع الولايات المتحدة والغرب، والتي امتدّت في السنوات القليلة الماضية إلى إسرائيل أيضاً. والشعبية الكاسحة التي صارت المقاومة الفلسطينية تتمتّع بها في الشارع العربي، ومن ضمنه الخليج، تأتي على حساب الأنظمة الخليجية بصورة مباشرة، ولا سيما بعد تطبيع العلاقات بين بعض دول الخليج والعدو، بشكل رسمي أو غير رسمي، ومحاولتها قسراً الحؤول دون مظاهر التعاطف الشعبي مع فلسطين، سواءً من خلال منع التعبير حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر تقديم صور بديلة، كما فعل تركي آل الشيخ، حين «أشعلها» فنياً في موسم الرياض، فيما المأساة الإنسانية التي لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها، تجري على مقربة من المملكة، أو كما يفعل الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، حين يتحدّى مشاعر الفلسطينيين والعرب وحتى شعبه، ويدعو الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ الأشدّ تطرّفاً من بنيامين نتنياهو، إلى زيارة دبي.
الأنظمة الخليجية كانت إلى ما قبل «طوفان الأقصى» تعتاش على التنافس في ما بينها، والذي يقوم على مَن يخدم بشكل أفضل الراعي والحامي الأميركي، ويقنعه بالتالي بأن يعطيه دوراً أكبر من دور غيره، وهنا أيضاً لا استثناء. لكنها تتصرّف الآن جميعها كمَن يواجه خطراً محدقاً، وذلك يستدعي منها تنحية الخلافات جانباً، وإن مؤقتاً. كما ثمّة ملاحظة يفيد إيرادها في هذا السياق، وهي أن الهجمات الإعلامية المتبادلة بين تلك الدول غائبة، كما أن تبادل الزيارات بين القادة صار أسهل وأسرع وتيرة بعد سنوات من شبه القطيعة على صعد ثنائية وجماعية. ولعلّ قمة «المناخ» في دبي، ظهّرت المشهد المشار إليه تماماً، فيما حضور الرئيس الإسرائيلي كان تعبيراً عن الوجهة التي يمكن أن يختارها حكّام الدول الخليجية، إذا ما حُشروا في الاختيار. فمؤسّسات الحكم بطبيعتها وتاريخها، تقوم على التراضي القبلي، أو التنافس القبلي، لا على القضايا السياسية التي يمكن أن تُقاس بها الشعبية، كما هي حال القضية الفلسطينية التي تملك المؤسسات المشار إليها حساسية خاصة وأيضاً تاريخية تجاهها، على اعتبار أنه في كلّ مرة تتصدّر فيها القضية المشهد، يحصل خلل بنيوي في أداء الأنظمة.
لو لم يكن الأمر كما تَقدّم، لما وجد أمير قطر، تميم بن حمد، نفسه يصافح هرتسوغ في دبي، وهو في الوقت نفسه يستضيف قيادة حركة «حماس»، وقناة «الجزيرة» المملوكة لبلاده تناصر القضية الفلسطينية وتنقل معاناة أهل غزة بأكثر الصور وضوحاً. هذه الازدواجية مفهومة، ولا حاجة إلى التبصّر كثيراً لمعرفة أن الدوحة ما كان يمكنها أن تلعب هذا الدور لولا موافقة واشنطن عليه، بل لولا دعمها إياه، بما في ذلك استضافة «حماس» وغيرها من التنظيمات المناهضة للأميركيين، علماً أن الدور المذكور يفترض بذاته إقامة نوع من العلاقة مع إسرائيل. لا يعني هذا أن دول الخليج فقدت الحيلة تماماً تجاه ما يحدث، لأنه، في هذه الحالة، تكون قد انتهت، فهي بالتكوين تملك غريزة البقاء، وكلّ ما تفعله، تفعله انطلاقاً منها. ومن هنا، ستكون لحرب غزة، بعد نهايتها، آثار على منطقة الخليج كما غيرها: فإذا خرجت المقاومة من الحرب، بالشعبية الحالية أو أكثر، ستجد تلك الأنظمة نفسها أمام مشكلة توجب معالجةً من نوع ما، ولا سيما أنها ترى في المقاومة خصماً خطراً بالمعنى العقائدي، لأنها تنتمي إلى البيئة نفسها التي تأتي منها وتحكم باسمها.
لكن هذه الأنظمة لا تنتظر النهايات، بل هي تتصرّف استباقياً وتوظّف ما تملكه من إمكانات مادية وخبرات كبيرة لغرض تحقيق استقرارها. ولذا، إنها منذ الآن تفكّر كيف ستستثمر، إذا كان ممكناً، أو تردّ الضرر عنها، في حال لم يكن ممكناً ذلك. ولعلّ أحد مجالات التوظيف هو المساعدات الإنسانية، التي تمثّل أحد الثوابت في سياسة تلك الدول أو إعادة الإعمار لاحقاً، إذا حصلت. لكنّ ثمة نواحي أخرى، منها التأثير السياسي المباشر الذي تملكه على الأرض، عبر وكلاء، بالقطعة أو بالتلزيم، أو عبر العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي حالة قطر، عبر العلاقة مع حركة «حماس». هنا، يختلف أداء الأنظمة وأدوارها، واستتباعاً تأثّرها بما يجري، فقطر على سبيل المثال تتقدّم بأشواط على باقي أنظمة الخليج، وهي تملك رصيداً كبيراً جمعته على مدى 25 عاماً جعَلها قادرةً على القيام بوساطة في صراع يتوقّف عليه الكثير، ليس في المنطقة وحدها، وإنما في العالم أيضاً. ومن الطبيعي أن تكون الأقدر على التأثير بعد أن تنتهي الحرب. لذا، نجد الأنظمة الخليجية الأخرى تتحلّق حولها، وتشيد بدور الوساطة الذي تقوم به. وهذا، ربّما، ما يفسّر انعقاد القمة الدورية لـ«مجلس التعاون الخليجي»، أمس، في الدوحة، حيث مثّلت غزة بنداً رئيسياً على جدول أعمالها، بعد خمس سنوات متتالية من الانعقاد في السعودية.