"خاشقجي".. فصل جديد بصراع السعودية وتركيا على الزعامة السنية
لاحظ الجميع أن اختطاف -وربما قتل- الصحفي السعودي البارز "جمال خاشقجي" في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول، أسقط القناع عن الاستبداد القبيح الذي يختبئ خلف الصورة الإصلاحية لولي عهد المملكة "محمد بن سلمان".
ووفقا لمجلة "فورين بوليسي"، فإن هناك أمرا كان ملحوظا بشكل أقل، وهو ما كشفته هذه الفضيحة، أيضا، عن التنافس القديم بين تركيا والسعودية حول زعامة الإسلام السنّي.
ويكمن أساس هذا الصدع في تباين نماذج الإسلام السني لدى البلدين، وهي نماذج تطورت في مسارات تاريخية مختلفة جدا وولدت رؤى متباينة حول الشرق الأوسط المعاصر.
وإذا كانت الأزمة الحالية تجبر العالم غير المسلم على اختيار جانب بين هذه النماذج الدينية؛ فإن القرار يجب أن يكون سهلا، ورغم أن كلا النموذجين تكتنفهما العيوب، فإنه بناءً على أعمالهما في الماضي وأفكارهما في المستقبل، يسهل القول إن واحدا يستحق الدعم الدولي، وفق المجلة الأمريكية.
الصراع العثماني الوهابي
تعود جذور هذا الصراع إلى القرن الثامن عشر حين كان الكثير مما نطلق عليه "الشرق الأوسط" اليوم، بما في ذلك الجزء الأكثر قابلية للحياة في شبه الجزيرة العربية، جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، التي تم حُكمها من إسطنبول -والتي كانت تُسمى آنذاك القسطنطينية- من قبل نخبة عالمية من المسلمين الأتراك والبلقان بشكل أساسي، إضافة إلى البوسنيين والألبان، وكان الحجاز يحظى بالتبجيل لأسباب دينية، لكنه كان منعزلا دون أي أهمية سياسية أو ثقافية.
في الأربعينيات من القرن الثامن عشر، ظهر في المنطقة الوسطى الأكثر انعزالا في شبه الجزيرة العربية المسماة "نجد"، عالم دين يدعى "محمد بن عبد الوهاب" بدعوة متّقدة لاستعادة "الإسلام الحقيقي"، داعيا لإعادة إحياء الممارسات الأكثر تشددا في التراث السني، بما في ذلك تكفير الشيعة وحتى الصوفيين من العثمانيين.
وسرعان ما تحالف "ابن عبد الوهاب" مع زعيم قبلي يدعى "الإمام محمد بن سعود"، لتأسيس الدولة السعودية الأولى، التي نمت من حيث الحجم والطموح، لكن العثمانيين سحقوا الثورة الوهابية في عام 1812 من خلال القوات الداعمة لهم في مصر، وتراجعت الوهابية إلى الصحراء.
حدث اضطراب آخر في الحجاز عام 1856 عندما حظر العثمانيون تجارة الرقيق التي كانت -آنذاك- تجارة مربحة بين الساحل الأفريقي ومدينة جدة، وبناءً على طلب من تجار العبيد الغاضبين، أعلن أمير مكة "الشريف عبد المطلب" أن الأتراك أصبحوا كفارا ودماؤهم مشروعة، لكونهم يرتكبون خطايا من قبيل السماح للنساء بالكشف عن أجسادهن، والبقاء منفصلين عن آبائهن أو أزواجهن، والحصول على الحق في الطلاق، وفق ما رصده رجل الدولة العثماني والمؤرخ الشهير "أحمد جودت باشا".
وسمحت التغييرات التي حدثت خلال حركة الإصلاح العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، والتي استوردت بها الإمبراطورية العديد من المؤسسات والمعايير الغربية، للإمبراطورية العثمانية بأن تصبح في نهاية المطاف ملكية دستورية مع برلمان منتخب، وهو أمر ما زال لا يمكن تخيله في النظام الملكي المطلق للسعودية.
كما سمحت ببروز الجمهورية التركية الحديثة؛ حيث أصبح القانون العلماني هو القاعدة، وحصلت النساء على حقوق متساوية مع الرجال، وبدأت الديمقراطية في النمو.
ورغم أن الديمقراطية التركية تنزلق اليوم نحو نزعة استبدادية -حسب مجلة "فورين بوليسي"- فقد كان "النموذج التركي" الذي مثله حزب "رجب طيب أردوغان"، منذ بداية هذا القرن، مصدر إلهام للعديد من المسلمين، كمزيج للإسلام مع الديموقراطية الليبرالية.
خلاف في الانحيازات الحديثة
ومع ذلك، فإن "أردوغان" ورفاقه الإسلاميين لا يزالون هم إسلاميو تركيا، الذين يعملون في إطار أكثر حداثة يعكس تفسيرات أكثر اعتدالا للإسلام السني، مقارنة بنخبة السعودية، وهذا يلقي الضوء على اثنين من الخلافات السياسية الكبرى التي نشأت بين أنقرة والرياض، كما ترصد مجلة "فورين بوليسي".
أول هذه الخلافات يتعلق بإيران؛ حيث يؤيد السعوديون إنشاء جبهة سنية موحدة ضد إيران، وهو نهج لا يخلو من كراهية دينية تعد جزءا لا يتجزأ من الوهابية.
ورغم أن هذا التشدد قد يبدو محبذا بالنسبة للصقور في واشنطن و(إسرائيل)، إلا أنه لا يؤدي إلا إلى تصعيد الطائفية السامة في المنطقة، التي يتجسد مثالها الرئيسي في الحرب الأهلية الكارثية في اليمن.
أما تركيا في المقابل، فعلى الرغم من خلافها مع إيران طوال سنوات حول الحرب الأهلية السورية، فإنها لم تُدِن إيران كعدو، ناهيك عن تأجيج أي وجهة نظر معادية للشيعة.
وقال "أردوغان" مراراً: "ديني ليس سنة وشيعة، ديني هو الإسلام".
هذا هو النهج الصحيح في منطقة لا تحتاج إلى المزيد من الطائفية؛ حيث يعتقد "أردوغان" أن أفضل طريقة لترويض النفوذ الإيراني المزعزع للاستقرار هي من خلال الدبلوماسية بدلا من التهديد والعدوانية.
أما الخلاف الثاني بين أنقرة والرياض –وفق المجلة الأمريكية- فيدور حول جماعة الإخوان المسلمين، الحزب السياسي الإسلامي الرئيسي في مصر، الذي يملك فروعا كثيرة في جميع أنحاء المنطقة؛ حيث تصنف الرياض الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية ودعمت الانقلاب العسكري الوحشي في مصر ضدها في 2013.
أما أنقرة، فقد أدانت الانقلاب وارتبطت مع الإخوان؛ مما جعل إسطنبول العاصمة الجديدة للمعارضين العرب، لا سيما أولئك الذين تحالفوا مع الإخوان.
ورغم أن الإخوان المسلمين هم جماعة سياسية هدفها النهائي هو تطبيق الشريعة، ويمكن أن تكون مصدر قلق للعرب العلمانيين، فإن السعودية في المقابل تطبق بالفعل أكثر تفسيرات الشريعة صرامة، كما أنها تعزز الحركات السلفية في المنطقة، وتتبنى رؤى أكثر رجعية من الإخوان المسلمين فيما يتعلق بقضايا مثل حقوق المرأة.
لكن الخلاف الحقيقي بين المملكة والجماعة هو خلاف سياسي يتعلق بعدم اعتراف الحركة الإسلامية بالسلطة المطلقة للحكام، وهو سبب يكفي لقمعها من وجهة نظرهم.
ومع ذلك، يُظهر التاريخ أن قمع الطغاة العرب للإخوان أفرز جماعات أكثر تشددا، وكما يقول خبراء مثل "شادي حميد"، فإن "تطبيع الأحزاب الإسلامية" هو في الواقع السبيل الوحيد لبناء ديمقراطيات عربية.
وبناءً على ذلك، ترى "فورين بوليسي" أنه يجب على ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان"، الذي حاول على ما يبدو سحر الغرب بإصلاحاته الشعبية مثل السماح للنساء بقيادة السيارات، أن يفهم أن التحديث لا يتعلق بالتغييرات الاجتماعية التجميلية فحسب، بل أيضا ببعض المعايير للحرية السياسية، وهذا لا يتضمن قتل المنتقدين بلا خجل، وفقا لتعبير المجلة.