واشنطن تسابق إلى «النووي السعودي»: صفقة «متساهلة» ترضي تل أبيب
تستعد الولايات المتحدة لعرض صفقة على السعودية، بشأن تطلعات الأخيرة إلى بناء مفاعلات نووية على أراضيها. صفقةٌ تسعى واشنطن في جعلها على مستوى منخفض من «المعايير الصارمة» منعاً لتوجه الرياض نحو موسكو أو بكين. لكن دون ذلك عقبات عدة تبدأ من الشروط التي تفترضها القوانين الأميركية، ولا تنتهي بالاعتراض الديمقراطي في مجلس النواب الأميركي على التوسع في نشر التكنولوجيا النووية في منطقة الشرق الأوسط
محمد دلبح
واشنطن | تعود خطط الحكومة السعودية لبناء مفاعلَين نوويَّين على أراضي المملكة إلى الواجهة مجدداً، مع اشتداد المنافسة بين القوى الدولية على الاستئثار بالحصة الأكبر من الاستثمار في هذا المجال. فمنذ أن التقى وزير الطاقة الأميركي، ريك بيري، مندوبين سعوديين في اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، دخلت على خط التنافس كوريا الجنوبية وفرنسا، اللتان تُعدّان حليفتين للولايات المتحدة، كما دخلت أيضاً على الخط نفسه كل من الصين وروسيا، المصنّفتين كـ«تهديد رئيس للأمن القومي الأميركي» وفق الاستراتيجية الدفاعية التي أعلنها «البنتاغون» لعام 2018.
وكان بيري قد أبلغ الوفد السعودي بضرورة أن تكون للولايات المتحدة الأولوية في الصفقة المنتظرة؛ كونها «الشريك الاستراتيجي الرئيس للسعودية في المجالات النفطية والعسكرية»، في إشارة إلى ضرورة أن تتجاوز المملكة علاقاتها مع روسيا والصين في هذا المجال، على الرغم مما تمثله الدولتان من أهمية بالنسبة للرياض التي تسعى إلى الحصول على الخبرة التقنية لتجاوز الاعتماد على النفط، والتنافس مع إيران. ذلك أن الصين تُعدّ من أفضل زبائنها على الإطلاق، فيما تمثل روسيا شريكاً أساسياً لها في ضبط الإنتاج العالمي من النفط.
ومن المقرر أن يزور، قريباً، وفد أميركي يضم دبلوماسيين ومسؤولين في الاستخبارات، السعودية، لإجراء مفاوضات بهذا الشأن، ومحاولة التوصل إلى حل وسط ما بين الشروط التي تفرضها قوانين تصدير التكنولوجيا النووية الأميركية، وبين إصرار السعودية على تجاوز تلك القوانين، الأمر الذي قد يدفع الرياض إلى اختيار دول أخرى مثل روسيا والصين لبناء المفاعلات النووية.
وترى إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تحظى بمكانة «غير عادية» لدى السعودية، أن إحياء صناعة نووية محظورة يُعدّ بمثابة فرصة لا ينبغي تفويتها، لكن مراقبين يتساءلون عما إذا كان ذلك يستحق تحمّل المخاطر التي سيستجلبها انتشار تكنولوجيا تنطوي على تداخل مع تطوير الأسلحة النووية في المنطقة الأكثر تقلباً في العالم.
«المعيار الذهبي»
غير أن توسع انتشار التكنولوجيا النووية في المنطقة قد بدأ بالتحقق فعلاً؛ إذ إن دولة الإمارات بدأت عملياً بناء أول مفاعل نووي من المقرر تشغيله هذا العام، فيما وقعت شركة «روزاتوم» الروسية الحكومية صفقة بقيمة 21.3 مليار دولار لبناء مفاعل نووي في مصر، بالإضافة إلى أن الأردن وقع في عام 2015 اتفاقاً مع الروس بقيمة 10 مليارات دولار لبناء مفاعل نووي. وكذلك فعلت تركيا، في حين تخطط السعودية لبناء 16 مفاعلاً نووياً بكلفة تبلغ نحو 80 مليار دولار.
هذه الأخيرة لن يكون لها، بحسب مجلة «إيكونوميست»، أي معنى اقتصادي، في بلد يحرق يومياً 465 ألف برميل نفط في إنتاج الكهرباء، ولديه 11 مليار دولار من موارد النفط. وتشير المجلة، في تقرير نُشر مطلع الشهر الجاري، إلى أن المفاعلات السعودية لن تكون قادرة على توليد أكثر من سدس الطاقة المطلوبة في ساعات الذروة، وهي 120 غيغا بايت، معتبرة أنه في بلد تتسع فيه المساحات الصحراوية فمن الأفضل الاستثمار في الطاقة الشمسية، «حيث لا تقوم السعودية بتوليد أي طاقة من هذا النوع»، محذرة من أن «بناء مفاعل نووي للأغراض السلمية سيؤدي إلى سباق تسلح في أكثر مناطق العالم اضطراباً».
وعلى الرغم من أن الطاقة النووية للاستخدامات السلمية بعيدة عن الأسلحة النووية، إلا أن الوقود المستنفد تمكن إعادة معالجته وتحويله إلى البلوتونيوم الذي يدخل في صناعة القنابل النووية. كما أن اليورانيوم المخصب اللازم للعملية يحمل جاذبية خاصة للجماعات الإرهابية. ولمنع الانتشار العالمي، تضع الولايات المتحدة معايير صارمة بشأن التكنولوجيا التي يمكن بيعها في الخارج، وما يمكن للمشترين القيام به. إذ يتعين عليهم التوقيع على ما يسمى «البند 23» في قوانين تصدير التكنولوجيا الأميركية، والذي يُطلق عليه «المعيار الذهبي».
وكانت دولة الإمارات، في سعيها إلى بناء المفاعل النووي، قد مهدت لذلك بأن وقعت مع الولايات المتحدة، عام 2009، اتفاقاً تلتزم بموجبه بما ينص عليه «البند 123»، إذ تعهدت بعدم تخصيب اليورانيوم أو استخدام الوقود وتحويله إلى بلوتونيوم. لكن السعودية رفضت، منذ فترة طويلة، الموافقة على «المعيار الذهبي»، بالنظر إلى أن لديها كميات من اليورانيوم الخاص تحت الأرض، وتريد أن تكون مكتفية ذاتياً في إعداد الوقود النووي على المدى الطويل، لذا فهي تريد التخصيب بنفسها. بتعبير آخر، تريد السعودية الحصول على ما حصلت عليه إيران بموجب الاتفاق النووي الذي تم توقيعه عام 2015، والذي سمح للإيرانيين بالتخصيب بأنفسهم، مقابل موافقتهم على تدمير معظم أجهزة الطرد المركزي المستخدمة للتخصيب، والقيام بعمليات أقل من تلك التي يحتاجها تصنيع القنابل النووية. وكان آخر المسؤولين السعوديين المعبرين عن تلك الرغبة وزير الخارجية، عادل الجبير، الذي قال لشبكة «سي إن بي سي»، يوم الأحد الماضي، «(إننا) نريد أن نحظى بنفس الحقوق التي تتمتع بها الدول الأخرى».
وتستعد الولايات المتحدة، على حرج، لأن تَعرِض على السعودية صفقة لا ترقى إلى مستوى «المعيار الذهبي»، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين يقولون إنها ستظل أكثر صرامة من الشروط التي يفرضها أي بانٍ محتمل آخر. لكن مجموعة الشركات المدعومة من الحكومة الأميركية، والتي يفترض أن تشارك في المشروع، لن يكون بإمكانها ذلك من دون الالتزام بـ«البند 123». كما أن تنفيذ أي اتفاق بهذا الشأن يتطلب مصادقة الكونغرس في غضون 90 يوماً من التوقيع عليه، علماً أن أعضاء في مجلس الشيوخ يحذرون من أن أي تخفيف لـ«المعيار الذهبي» سيكون «كارثياً».
ويرى محللون أن إسرائيل تبقى أكثر الأطراف تأثيراً في تمرير هكذا اتفاق، معتبرين أن الاندفاع السعودي، أخيراً، نحو تعزيز العلاقات مع تل أبيب يصب في هذا الاتجاه. ونقلت «بلومبيرغ» عن يوئيل غوزانسكي، المسؤول الإسرائيلي السابق في مجال عدم انتشار الأسلحة النووية، قوله إن «لدينا مصلحة في أن تدخل الولايات المتحدة وليس الصين أو روسيا السوق النووية السعودية». كما نقلت عنه أنه «إذا كانت واشنطن داخل المشروع، فإنها ستكون في وضع أفضل لمراقبة البرنامج، والضغط على السعوديين في أي مواجهة في المستقبل». وفي المقابل، فإن الاتفاق النووي السعودي - الأميركي المحتمل قد يسهّل جهود كوشنر لإبرام اتفاق سلام إسرائيلي - فلسطيني، يتطلب بالتأكيد مساعدة سعودية، ما يعني أن الشروط النووية «المتساهلة» مع الرياض ستدفع الأخيرة إلى بذل جهد أكبر في عملية تمرير التسوية.