مع كلّ فنجان قهوة.. "تطبيع جديد"
ثمة شيء مهم وغير مطمئن يحضّر للمنطقة، فالأخبار التطبيعية اليوميّة التي نسمعها مع كل ارتشافة للقهوة الصباحيّة ليست عبثاً.
صفقة القرن التي يحضّر لها ترامب بالتعاون ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تخرج عن المسار الطبيعي لواقع العلاقات العربيّة مع الكيان الإسرائيلي منذ العام 1967 حتى ما قبل صفقة ترامب- بن سلمان.
وبما أنّ تطبيع الأنظمة غير كاف، لا بدّ في إيجاد حاضنة شعبية تدعم هذا المسار الجديد أو لا تعترض عليه على أقلّ تقدير، ومنا هنا بدأت مقدّمات الصفقة الكبرى عبر أسلوب يهدف للتأثير على الرأي العربي العام عبر أخبار تطبيعية يوميّة تسعى للقضاء على الفكر العروبي الذي تربيّنا عليه منذ نعومة أظافرنا، أو بعبارة أخرى تدجين الرأي العام العربي بما يتناسب مع مخطط استكمال صفقة بيع فلسطين
حكاية التطبيع التي بدأت سريّاً منذ زمن ليس بقريب، إلاّ أنّه مجهول، انتقلت إلى العلن منذ قترة ليست ببعيدة، لتشهد الآونة الأخيرة طفرة تطبيعية غير مسبوقة بدءاً من مقابلة إيلاف مع رئيس الأركان الإسرائيلي غادي إيزنكوت، وقبلها مشاركة رؤساء الجيوش العربيّة في مؤتمر عسكري في واشنطن بحضور قيادة الجيش الإسرائيلي، مروراً بزيارة "بين تزيون" المدون المشهور في إسرائيل العامل في صحيفة "Times of Israel" إلى الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة وكذلك توقع المحلل الاقتصادي السعودي حمزة السالم أن تصبح إسرائيل الوجهة الأولى لمواطنيه، في حال أقيمت علاقة رسمية بين الحكومتين، وصولاً إلى الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى وزير العدل السعودي السابق ورئيس رابطة العالم الإسلامي، التي تتخذ من مدينة مكة مركزاً لها، الذي أظهر وده وشراكته مع إسرائيل عبر صحيفة "معاريف" العبريّة.
وتيرة التطبيع، أو تدجين الرأي العام، تصاعديّة ولم تشهدها الساحة العربيّة منذ العام 1948، ولعل معدّل الخطوات الطبيعية، سواءً مقابلة كان الأمر أم تصريح علني أو مسرّب، زادت عن معدّل مرّة واحدة في اليوم، أي أن الامر يتّجه إلى خبر تطبيعي مع القهوة الصباحيّة، وآخر عند الغداء، وربّماً ثالث ما قبل النوم ليصل الأمر بنا أن نمرّ مرور الكرام على هذه الأخبار دون أي ردّ فعل يذكر.
المرحلة الحاليّة هي مرحلة استهداف الوعي واللاوعي العربي بما يؤسس لواقع جديد من العلاقة بين العالم العربي والكيان الإسرائيلي، علاقة يحرص النظام السعودي على حقنها يومياً في الدماء العربية بغية إيصالها إلى مرحلة الإدمان.
وثمّة تفاصيل كثيرة تستدعي التوقّف عندها في ملف التطبيع السعودي-الإسرائيلي، مع ما يتضمنّه ذلك من تعقيدات في مواجهة الرأي العام العربي الذي لن يرضى باستكمال صفقة بيع فلسطين، يمكن اختصارها بجملة من النقاط:
أوّلاً: إنّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد أخذه مخياله إلى التصوّر بإمكانية خروجه من أزمته في الوصول إلى سدّ العرش بحملة من الخطوات الداخليّة والخارجيّة، أبرزها التطبيع مع الكيان الإسرائيلي في الشّق الخارجي، إلا أن الرأي العام العربي هو من يمتلك قرار الصدّ والردع.
ثانياً: رغم التمهيد السعودي الواضح للمواجهة، إلا أنّه من المستبعد أن تكون الرياض أولى الدول المطّبعة، فقد وضع البحرين في رأس الحربة، تماماً كما تفعل معها في العلاقة مع ايران. قد تعبّر هذه السياسة عن ذكاء من خلال الاستعاضة عن التطبيع المباشر بالنظام البحريني الذي يحقّق الهدف ذاته. لكنه ذكاء مكشوف، ينمّ عن انتهاك سافر على القضيّة الفلسطينية.
ثالثاً: محاولة التصفية الداخليّة للقضية الفلسطينية عبر عرقلة المصالحة والضغط على المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن وصمها بالإرهاب والتبعية لإيران، تماماً كما يحصل مع حزب الله. يردّ العيسى في مقابلته مع معارف على سؤال غدعون كوتس إذا ما كانت عمليات الفلسطينيين ضد "إسرائيل"، تدخل ضمن الإرهاب، بالقول: "أي عمل عنف أو إرهاب يتستّر باسم الإسلام، غير مشروع في أي مكان، حتى في إسرائيل".
رابعاً: استخدام سياسية "ايران فوبيا" بما يرسم في ذهن المواطن العربي صراع حول وجهة بوصة العداء الحقيقية إسرائيل أم إيران، وهذا بالفعل ما ظهر على لسان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي وصف قائد الثورة الإسلاميّة آية علي خامنئي بأنه "هتلر الشرق الأوسط الجديد"، في مقابلة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز.
المرحلة في غاية الخطورة، ولعل ما يطلبه بن سلمان اليوم هي السكوت العربي، وعدم تحرّك الشعوب تجاه ما يحصل في فلسطين. النتيجة إما تتمثّل بنجاح مشروع بن سلمان في إسقاط القضيّة الفلسطينية، او فشلها ما يعني تلقائياَ سقوط النظام السعودي المتزلزل أساساً.