تعدد القواعد العسكرية في جيبوتي.. هل يهدد الأمن القومي المصري؟

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 3041
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

لم يخطر ببال الكثيرين أن دولة بحجم جيبوتي لا تتعدى مساحتها الـ23 ألف كيلومتر مربع، ويقدر عدد سكانها بنحو 864 ألف نسمة، خمسهم تقريبًا تحت مستوى خط الفقر العالمي، ستصبح يومًا ما  قبلة للدول العظمى شرقًا وغربًا، ومطمعًا للعديد من التوجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية، الإقليمية منها والدولية.

وساهم الموقع الإستراتيجي لهذه الدولة الواقعة على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب، والمطلة شرقًا على البحر الأحمر وخليج عدن، أن تكون موطنًا للعديد من القواعد العسكرية لبعض الدول، في مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة، ومؤخرًا السعودية والصين، ما يضع العديد من التساؤلات حول تهديد هذه القواعد للأمن القومي المصري، وآليات تعامل القاهرة مع هذه القضية الأمنية الخطيرة.

لماذا جيبوتي؟

تتمتع جيبوتي الدولة العضو بجامعة الدول العربية، بموقع مميز، أضفى عليه أهمية إستراتيجية دولية هائلة، وضعها تحت ميكروسكوب اهتمام الدول الكبرى في الشرق والغرب على حد سواء.

تقع جيبوتي على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب، وتحدها من الشمال إريتريا، ومن الغرب والجنوب إثيوبيا، والصومال من الجنوب الشرقي، فيما تطل شرقًا على البحر الأحمر وخليج عدن، وعلى الجانب المقابل لها عبر البحر الأحمر في شبه الجزيرة العربية اليمن التي تبعد سواحلها نحو 20 كيلومترًا.

العديد من العوامل الجغرافية صنعت مكانة جيبوتي الإستراتيجية، منها إطلالها على مضيق المندب أحد الممرات الأكثر اكتظاظًا بحركة الملاحة في العالم، حيث يستخدم الميناء كنقطة انطلاق الأساطيل الأجنبية المتواجدة في المنطقة بهدف مراقبة خليج عدن وحماية الممر المائي من عمليات القرصنة، إضافة إلى ما ألقاه الصراع في اليمن خلال السنوات الأخيرة من ثقل وأهمية أكبر لهذا الممر، وهو ما دفع دولة مثل الصين للدخول على خط التنافس الأمريكي الأوروبي لتثبيت أقدامها من خلال الاستثمار وإنشاء قواعد عسكرية على أراضيها، كما سيأتي ذكره لاحقا.

ساعد قربها من المناطق الملتهبة في إفريقيا وأسيا والشرق الأوسط في إضفاء المزيد من الأهمية الإستراتيجية لجيبوتي، ما أهلها لأن تكون أهم دولة في مجال تأمين طرق التجارة وكنقطة انطلاق لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي.

ورغم مساحتها الصغيرة إلا أن لها أهمية محورية في منطقة القرن الأفريقي، حيث يدخل خليج “توجورة” عمق البر الجيبوتي لمسافة 61 كم لتمثل منطقة آمنة للإبحار تجاه البحر الأحمر، تعبر فيها أهم الصادرات والواردات العالمية، ما زاد من أهميتها كونها من المحاور الرئيسية للتجارة العالمية، فأكثر من 80 % من السلع التي تستوردها جارتها إثيوبيا، يتم إفراغها في ميناء “دوراليه”، أحد أكبر موانئ المياه العميقة في شرق أفريقيا.

كما ساعد قربها من المناطق الملتهبة في إفريقيا وأسيا والشرق الأوسط في إضفاء المزيد من الأهمية الإستراتيجية لهذا الكيان الصغير، ما أهلها لأن تكون أهم دولة في مجال تأمين طرق التجارة وكنقطة انطلاق لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي.

كل هذه العوامل أهلت جيبوتي لأن تكون ساحة لتسابق العديد من الدول على إنشاء قواعد عسكرية بها، وهو ما ساهم في التقليل من الآثار السلبية الناجمة عن افتقارها للموارد الطبيعية والاقتصادية، وبات هذا الموقع المميز من أهم مصادر الدخل لهذا البلد العربي، الذي يحصل سنويًا على قرابة 160 مليون دولار مقابل تأجير هذه القواعد.

 

الموقع المميز أضفى على جيبوتي أهمية إستراتيجية

فرنسا.. القاعدة الأقدم

الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي، هو الأقدم من بين جميع الدول المستعمرة، حيث سيطر الفرنسيون على جيبوتي عام 1850، التي ظلت تحت الهيمنة الفرنسية قرابة المائة عام،  إلى أن أعلنت استقلالها لكن بصورة غير مكتملة، حيث أبت فرنسا أن تتركها إلا أن تضمن بقاء بعض قواتها بها ضمانا لمصالحها داخل القارة الإفريقية،  لذا أبرمت فرنسا وجيبوتي اتفاقية عسكرية تسمح بتواجد ما بين 3800 و4500 جندي فرنسي على الأراضي الجيبوتية، تم تقلص العدد إلى أكثر من 1500 جندي كجزء من قوات حفظ الأمن.

وتعد القاعد العسكرية الفرنسية في جيبوتي، أهم قاعدة للفرنسيين في القارة السمراء، مهمتها كما هو معلن  حماية حركة التجارة عبر مضيق باب المندب، فضلا عن الاشتراك في حماية جيبوتي من أي اعتداء خارجي أو داخلي، وهو ما حدث في مساعدتها في القضاء على التمرد عام 2001.

الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي ساهم أيضا في دعم المنظومة الاقتصادية والمعيشية للشعب الجيبوتي، حيث أفادت بعض التقارير الرسمية أن المساهمة الاقتصادية لعناصر هذه القوات وأفراد عائلاتهم في هذا جيبوتي تمثل قرابة 130 مليون يورو، أي حوالي 25% من إجمالي الناتج الداخلي وما يساوي 65% من موازنته.

 

 

القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي.. أقدم قاعدة أوروبية في إفريقيا

أمريكا.. معسكر ليمونيير

تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة عسكرية وحيدة في إفريقيا، تقع جنوبي مطار "أمبولي" الدولي بجيبوتي، وهي قاعدة ليمونيير، وبها ما يزيد عن 3000 جندي أمريكي، أنشئت في 2002، لمراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا، واليمن، وتمويل وتدريب جنود جيبوتي.

 وفي مايو الماضي أمدت وزارة الدفاع الأمريكية إيجار القاعدة لعشر سنوات قادمة، وتصل تكلفة الإيجار في العقد الجديد إلى حوالي 60 مليون دولار سنويا، بدلا من 30 مليون دولار التي كانت تدفعها واشنطن قبل ذلك.

ومن هذه القاعدة، تنطلق عمليات "مكافحة الإرهاب" التي تنفذها الجيش الأمريكي في الصومال، حيث "حركة شباب المجاهدين" المسلحة، وفي اليمن، ضد تنظيم القاعدة، إضافة إلى الحفاظ على المصالح الأمريكية في القارة، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية.

يذكر أنه في عام 2007 أسست وزارة الدفاع الأمريكية ما أسمته ( القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا – أفريكوم) (USAFRICOM) هي وحدة مكونه من قوات مقاتلة موحدة تحت إدارة وزارة الدفاع الأمريكية، هي مسئولة عن العمليات العسكرية الأمريكية وعن العلاقات العسكرية مع 53 دولة أفريقية في أفريقيا عدا مصر، حيث تقع في نطاق القيادة المركزية الأمريكية.

 

 

القاعدة العسكرية الأمريكية الوحيدة في إفريقيا ومقرها جيبوتي

الاتحاد الأوروبي.. قوات مكافحة القرصنة

لم يغب الإتحاد الأوروبي عن سباق التنافس نحو الفوز بتواجد عسكري له في جيبوتي، حيث شكلت بعض دول الإتحاد قوة مشتركة أطلق عليها اسم (العملية الأوروبية لمكافحة القرصنة) (أتلانتا)، مهمتها تتركز في العمل على تطويق جرائم القرصنة في مضيق باب المندب، ومراقبة حركة التجارة بها.

الإتحاد الأوروبي سمح بوجود مئات الجنود من ثمان دول أوروبية هي: ألمانيا، بلجيكا، أسبانيا، فرنسا، اليونان، هولندا، بريطانيا والسويد، وقد لاقى الوجود الأوروبي ترحيبا واسعا من قبل القيادة الجيبوتية.

 

قوات أوروبية لمكافحة القرصنة بجيبوتي

اليابان.. قاعدة بحرية وتعاون متبادل

بالرغم من غيابها المعتاد عن ساحات السباق العسكري المسلح، نظرا لما تنتهجه من سياسات سلمية خارجية، إلا أن اليابان كان لها هي الأخرى نصيب من مضمار القواعد العسكرية في جيبوتي.

تعود العلاقات بين جيبوتي واليابان إلى السابع والعشرين من شهر يونيو عام 1977، حيث اعترفت اليابان بسيادة جمهورية جيبوتي، لتبدأ أولى علاقات التعاون الثنائي بين البلدين بنهاية عام 1980، والتي شملت العديد من المجالات التجارية والاقتصادية والتكنولوجية.

 وفي عام 2009 أنشأت البحرية اليابانية قاعدة عسكرية في جيبوتي، تمكنها من المشاركة في التصدي للقراصنة الصوماليين، بما في ذلك ميناء دائم ومطار لإقلاع وهبوط لطائرات الاستطلاع اليابانية، لتضع طوكيو من خلال هذه القاعدة أول أقدامها داخل القارة السمراء

  

 

أول قاعدة بحرية يابانية إفريقية

السعودية.. قاعدة لدعم شرعية اليمن

دفعت الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية التي فرضتها ثورات الربيع العربي، لاسيما الحرب الدائرة في اليمن، السعودية إلى البحث عن موطئ قدم لها في إفريقيا عبر بوابة جيبوتي، ومن هنا كان التفكير في إنشاء قاعدة عسكرية سعودية.

وبحسب تصريحات وزير خارجية جيبوتي، فإن بلاده أبدت موافقتها الكاملة على إنشاء هذه القاعدة السعودية، التي تسعى الرياض من خلالها إلى دعم تحالفها العربي العسكري في اليمن، الذي تم تكوينه في مارس 2015،  ويسعى إلى ترسيخ أقدام الحكومة اليمنية الشرعية، في مواجهة تحالف مسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثي) والرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح.

وبحسب الوزير الجيبوتي فإن مسئولين عسكريين من البلدين تبادلا عددا من الزيارات لوضع "مشروع مسودة اتفاق أمني وعسكري واستراتيجي"، على أن يتم التوقيع عليه في "القريب العاجل"، مشيرًا أن التعاون بينهما لن يقتصر على إنشاء قاعدة عسكرية وحسب، بل سيشمل التعاون في كل الجوانب العسكرية برياً وبحرياً وجوياً، حسبما جاء على لسان أعلن سفير جيبوتي في الرياض، ضياء الدين بامخرمة.

 

 

مساعي لإنشاء قاعدة عسكرية سعودية 

الصين.. أول قاعدة عسكرية في الخارج

تماشيًا مع إستراتيجيتها الجديدة نحو التأثير في المحيط الدولي، وإحياء الدور الغائب منذ عقود طويلة، هاهي الصين تدخل سباق التنافس هي الأخرى للبحث عن تواجد عسكري لها في جيبوتي، حيث أعلنت رسميا البدء في تشييد قاعدة لوجيستية في جيبوتي، كأول منشأة عسكرية للصين في الخارج، وذلك في 25فبراير 2016.

يذكر أنه في عام 2015، أجريت حكومتا الصين وجيبوتي العديد من اللقاءات تخللها بعض الزيارات المتبادلة، وذلك بهدف الاتفاق على بناء أول قاعدة عسكرية صينية في إفريقيا، على أن تدخل الخدمة بحلول 2017، حيث تعتزم بكين نشر قرابة 10 آلاف عسكري في هذه القاعدة، التي ستدفع أكثر من عشرين مليون دولار سنوياً مقابل استئجارها، على أن يستمر العقد بين البلدين لمدة عشر سنوات.

وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية، "وو تشيان"، إن الصين وجيبوتي اتفقتا على إنشاء القاعدة، لتصبح استراحة عسكرية وتساعد في إعادة تموين القوات التي تنفذ مهاما حربية أو إنسانية أو مهام لحفظ السلام.

 

 

أول قاعدة عسكرية للصين بالخارج في جيبوتي

تهديد الأمن القومي المصري

الموقع الإستراتيجي المميز لجيبوتي لم يضفي عليها أهمية ومكانة كونها موطنا للقواعد العسكرية الدولية فحسب، بل خلق لها ثقلا إقليميًا محوريًا، وهو ما تجسده أهميتها القصوى بالنسبة لمصر.

فجيبوتي تمثل للقاهرة قضية أمن قومي في المقام الأول، خاصة وأنها من أبرز محاور الأمن المائي والاقتصادي والأمني المصري، وقد تزايدت هذه الأهمية مع اتساع رقعة الخلافات بين مصر وإثيوبيا والسودان حول ملف حوض النيل، نتيجة إنشاء أديس أبابا سد النهضة، الذي يمثل تهديدا صريحا لمستقبل مصر المائي.

جاءت هذه الأهمية بالتزامن مع غياب الحضور المصري إفريقيا، وتركيز الاهتمام فقط بتعزيز العلاقات مع أمريكا والخليج وروسيا والصين، ما تسبب في ترك الساحة للعديد من القوى الإقليمية الأخرى، لتسحب البساط من تحت الأقدام المصرية، وتعزز من تواجدها إفريقيا، خاصة وأن بعض هذه القوى على علاقة غير جيدة بالقاهرة،  ما يضع الأخيرة في موقف لا تحسد عليه.

غياب القاهرة عن القارة السمراء طيلة السنوات الماضية، لاسيما منطقة القرن الإفريقي، تدفع فاتورته اليوم بصورة مقلقة، فهاهي الدول التي حلت مكانها تعزز من تواجدها بقواعد عسكرية، وآلاف الجنود، وترسانة من الأسلحة، بما يهدد عمق مصر الجنوبي أمنيًا وسياسيًا من جانب، ومائيًا من جانب أخر، ما يتطلب إعادة النظر في توجهاتها الخارجية صوب القارة عموما ودول القرن بصفة خاصة، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهل تعيد القاهرة حساباتها الإفريقية من جديد قبل فوات الأوان؟