أمن الخليج بعد خاشقجي

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 3956
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

عبد الوهاب الأفندي

 مفارقةٌ أن تستمر الإدارة الأميركية، في وقت يناقش فيها إعلام العالم كله تفاصيل تواطؤ ثلاث دول عربية على الأقل في إخفاء الصحافي السعودي المغدور جمال خاشقجي وتغييبه، رد الله غربته، في ترويج حلف جديد تمثل هذه الدول أهم أركانه.

فها هنا جريمة إرهاب دولي محتملة، جاء فيها الجناة من بلدين عربيين، وهم يحملون جنسية ثالثة، نفذت الجريمة في قنصليةٍ، قبل فرار الجناة ولواذهم بحمى دولٍ رعت هذا الإرهاب وآوت الجناة.

فكيف تكون هذه الدول بعد ذلك عضواً في حلفٍ من أول أهدافه المعلنة محاربة الإرهاب؟

وكانت وزارة الخارجية الأميركية عبرت، الأسبوع الماضي، عن تفاؤلها بقرب اتخاذ خطواتٍ ملموسةٍ لإنشاء الحلف الموعود، الذي سمّي مبدئياً "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" (أو الناتو العربي كما سمّاه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بين يدي زيارته للرياض في مايو/ أيار 2017.).

جاء هذا بعد أيام من اجتماع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، مع وزراء خارجية ثماني دول، هي دول مجلس التعاون الخليجي الست زائد مصر والأردن.

وكانت هذه من المرّات النادرة التي ضم فيها اجتماع رسمي مسؤولي دول الحصار وقطر. وبحسب الخارجية، فإن مفاوضاتٍ مكثفةً تجري لعقد قمة لزعماء هذه الدول في منتجع كامب ديفيد في يناير/ كانون الثاني المقبل.

هناك أصلاً إشكالات كبرى تواجه هذه الفكرة، حتى قبل تصدّع مجلس التعاون الخليجي مع حصار قطر، ثم الآن حادثة خاشقجي وما قد يترتب عليها من عقوباتٍ أميركية محتملة على السعودية.

ذلك أن الحلف المنتظر يقوم على فرضياتٍ خاطئة، والتوقعات المتضاربة، فالدول المتحمسة للمشروع ترى فيه مناورةً لإرضاء أميركا وإسرائيل، مع توّهم أن الولايات المتحدة ستتولى مواجهة المخاطر الكبرى على هذه الدول، فتكفيها شر إيران وتهديدات الحوثيين.

وقبل ذلك كله، تساعد على تثبيت الأنظمة التي تخشى شعوبها، وهو الهم الأكبر لدول رباعي حصار قطر. وفي المقابل، تأمل الولايات المتحدة، وخلفها إسرائيل، بالعكس، أن تتولى هذه الدول مواجهة الأخطار نيابة عن الحليفين، وتقدّم مساهماتٍ عسكريةً وماليةً توفر على أميركا وإسرائيل مواجهة الخطر الإيراني، وتحارب نيابةً عنهما "داعش" وحزب الله، وتتولى كذلك مواجهة الفلسطينيين وتدجينهم.

وقد ظهرت نتائج سوء التفاهم هذا جلياً في قضيتين، خلال التمهيد له:

- الأولى قضية سورية التي كانت السعودية تستخدم فيها لهجة حاسمة، تشترط إسقاط الأسد، من دون أن تكون لها أي أدوات، ولا حتى جندي واحد في الميدان، أو على الحدود لفرض هذا الأمر. فقد كانت تتوهم أن الولايات المتحدة والدول الغربية وتركيا ستحقق هذه الأمنية.

أخطر من ذلك ما حدث في لبنان، حين احتجزت المملكة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، ومحاولة افتعال أزمة سياسية في لبنان، متوهمّة أن هذا سيعطي إسرائيل فرصةً تتمناها لشن حرب على لبنان، وتحجيم حزب الله سياسياً.

لكن عندما رفضت إسرائيل لعب هذا الدور، اضطرت السعودية إلى تراجعٍ مهين، مكتشفة أن آليات تدخلها الفاعل في لبنان معدومة، وأن آمالها في أن تصبح إسرائيل "أداةً" في يدها من خطل الرأي.

هناك وهم أكبر وقعت فيه السعودية، عندما شنت حربها في اليمن، بافتراض مسارعة الدول العربية والإسلامية، لخوض حربها تلك نيابة عنها. وكان أملها الأكبر أن تسارع دول، مثل مصر، ومعها كل دول الخليج، إلى إرسال الجنود والعتاد، خصوصا أن النظام المصري كان صنيعة السعودية إلى حد كبير.

توهمت كذلك أن دولاً، مثل تركيا وباكستان، ستضع إمكاناتها العسكرية الهائلة تحت تصرّف المملكة. وكانت هناك خيبة أمل كبيرة، عندما لم تقدم مصر حتى التأييد الكلامي للحرب.

بل إن المؤسّسات العسكرية القوية في تركيا وباكستان رفضت فكرة زجّها في هذه الحرب غير المدروسة، وغير ذات الأهمية لبلدانها. ولكن يبدو أن السعودية لم تتعلم شيئاً من ذلك الدرس بعد.

الإشكالية الأكبر أن رباعي دول الحصار في حالة حرب طاحنة مع شعوب دوله، فكل منها يرى الشعب هو الخطر الأكبر. ولهذا توجّه كل مواردها المالية والعسكرية إلى القمع وإسكات الأصوات المعارضة، وقد كانت حادثة خاشقجي أبرز دليلٍ على هذا الهوس بإسكات الأصوات بأي ثمن.

وما الصدام مع قطر إلا لأنها لم تقبل التواطؤ مع هذه الدول في هذا الجهد العبثي لتحويل المنطقة إلى مزرعة حيواناتٍ كبيرة، "الرعية" فيها تأكل وتتمتع كما تأكل الأنعام، وتدع الحديث فقط للحكّام ومستشاريهم من المهرّجين.

ومن الواضح أن الدول التي توجه كل مواردها لقمع شعوبها لا يكون لديها فائض لمواجهة المهدّدات الخارجية، فضلاً أن تتولى نيابة عن أميركا وإسرائيل محاربة أعدائهما.

ويظهر هذا جلياً في رفض مصر المشاركة في حرب اليمن، لأن جيشها مشغولٌ بمحاربة المصريين وقمعهم، ونهب أموالهم.

وقد كشفت حادثة خاشقجي أن هذه الدول تشكل خطراً على نفسها وحلفائها، ما يجعل التحالف معها عبئاً أكثر منه سنداً، فالولايات المتحدة مجبرة مع حلفائها الآن على توقيع عقوباتٍ على السعودية، وربما دول أخرى متورّطة بسبب هذه الجريمة الغبية والمتهوّرة، ما سيصعب التعاون العسكري معها.

كذلك فإن سعي هذه الدول إلى افتعال صدامٍ غير مدروس مع إيران، يهدّد كل دول الحلف، في مقدمتها دول مثل قطر والكويت وعُمان، ستصبح في الواجهة في حال أي هجوم استفزازي على إيران.

وعليه، يصبح هذا الحلف خطراً بالنسبة لهذه الدول أكثر منه وسيلةً لزيادة الأمن في المنطقة. ولعل افتعال حصار قطر كان نعمةً كبيرة عليها، لأنه خلصها من أي التزام أخلاقي بالتورّط في المغامرات الطائشة التي أصبحت تتكاثر بدون حسابٍ للعواقب.

هناك جانب آخر في أزمة خاشقجي التي يبدو أنها قد تكون قاصمة الظهر لطموحات بن سلمان، مثلما كان مقتل المعارض أكينو بالنسبة لماركوس في الفيليبين، وحادثة خالد سعيد لحسني مبارك، ومأساة بوعزيزي لبن علي، وغزو الكويت بالنسبة لصدام.

ذلك أن حاشية بن سلمان يعتقدون، وهو اعتقاد له ما يبرّره، بأن خاشقجي كان صوت الجناح العاقل والمتّزن في العائلة المالكة السعودية، وهو جناح يبدو أنه يعيد النظر في السكوت على المخاطر التي يشكلها بن سلمان لمستقبل الأسرة، كما ظهر أخيراً من اختيار أهم أعضاء الأسرة الحاكمة، الأمير أحمد بن عبد العزيز، المنفى الاختياري في لندن.

وعليه، كان الإجهاز عليه محاولة استباقية لإسكات صوت ذلك الجناح، وإرسال رسالة تهديد بأن بن سلمان لن يتورّع عن شيء. ولكن هذه الرسالة تحديداً ما قد يدفع ذلك الجناح، وهو يمثل الغالبية، إلى تحرّك سريع، والخروج إلى العلن، ونزع الشرعية عن سلمان وابنه، حمايةً للأسرة والبلاد من مصير كارثي.

* د. عبد الوهاب الأفندي أكاديمي سوداني أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

المصدر | العربي الجديد