تحديات تنمية الإيرادات غير النفطية

  • طباعة
  • PDF
  • مشاركة عبر الفيسبوك
  • مشاركة عبر تويتر
  • مشاركة عبر G+
  • مشاركة عبر انستقرام
  • مشاركة عبر تلغرام
  • مشاركة عبر الوتساب
  • عدد الزوار 2673
  • عدد التعلیقات 0
  • -
    +

د.إحسان علي بوحليقة
كيف نواجه النفط؟ بألا نواجه النفط! سأشرح. لنتذكر أننا حاولنا مواجهته على مدى نصف قرن ولم ننجح، ما يدلل على أن مواجهة "إغراءات" النفط صعبة ومعقدة، فهي تتطلب صرامة ومبادرات متتابعة، ليست بينها فواصل زمنية ترمي الجهود في أتون التراخي. انظر إلى الإيرادات غير النفطية للحكومة؛ اقتصاد قوامه 2.581 تريليون ريال، بالأسعار الثابتة يحقق إيرادات للخزانة تقل عن 200 مليار ريال، 199 مليار ريال (لعام 2016) على وجه التحديد. وهذه الإيرادات غير النفطية، جُمعت "حبة حبة": 21 مليارا جمارك، 62 مليارا عوائد استثمارات من مؤسسة النقد، 14 مليارا مبيعات، و15.5 مليار رسوم نفطية، و15 مليارا عوائد صندوق الاستثمارات العامة (ملكية الحكومة في شركات)، 14.5 مليار ضريبة دخل، 7.5 مليار غرامات، ثمانية مليارات تأشيرات، 4.8 مليار اتصالات، 4.8 مليار تبغ، 14 مليارا زكاة. كيف ستصبح هذه الإيرادات تريليوناً؛ أي ألف مليار؛ أي كيف ستتضاعف الإيرادات غير النفطية خمسة أضعاف خلال 15 سنة؟
لنتمعن قليلاً في الأرقام، تحقق الخزانة 14.5 من ضريبة الدخل والأرباح والمكاسب الرأسماية، وأهم مصدر لها الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يقدر قوامه بنحو 1.1 تريليون ريال؛ أي نحو عُشر من واحد في المائة. فكم من الاستثمارات الأجنبية علينا أن نستقطب حتى نصل بهذا البند من الإيرادات غير النفطية إلى 100 مليار ريال عام 2030؟! وأمر آخر الزكاة، التي يقول عديد منا إن جمعها بفاعلية سيكون كفيلاً بألا يبقى محتاج في وطننا، فهل هذا محض تهيؤ، أم أننا لا نجمع الزكاة بفاعلية؟
ومن جانب آخر، لنأخذ الرسوم، ما قيمة الرسوم التي جمعتها الحكومة عام 2016؟ أقل من 30 مليار ريال! وليس بالإمكان زيادة هذه الرسوم زيادات كبيرة، كما أن استقطابنا للاستثمار الأجنبي، لا يحقق –حالياً- نمواً متواتراً، ولا سيما أننا لم نتخذ خطوات ملموسة لتحسين مناخ الاستثمار الأجنبي، سواء في القطاعات الإنتاجية أو في سوق المال، ولنتذكر أن أكبر حافز لاستقطاب الاستثمار الأجنبي كان تدني قيمة اللقيم للصناعات البتروكيماوية وكثيفة استخدام الطاقة، وهذا حافز في طريقه للتلاشي من قرار خفض الدعم وتوجيهه لمن يستحقه من الأُسر السعودية. ما الحل؟
الحل يكمن في برنامج التحول الوطني. كيف؟ برنامج التحول الوطني في حقيقته برنامج للخصخصة، وهو المَخرَج القادم للقطاع الخاص؛ بمعنى أن علاقة القطاع الخاص بالحكومة لا بد أن تتحول من علاقة "مقاولات وتزويد" إلى علاقة "شراكات عامة خاصة" (Public Private Prtinerships). ماذا يعني هذا؟ يعني تبادل الأدوار؛ يأخذ من الحكومة الأنشطة الاقتصادية الحكومية القائمة والخدمات الحكومية التي يمكن أن تولد "تدفقاً نقدياً"، ويدفع للخزانة العامة إيرادات في المقابل، وبذلك يصبح القطاع الخاص مصدر دخل للخزانة الحكومية (لنقل مركز ربح profit center) عوضاً عن الوضع القائم حالياً وهو تلقي الدعم، فالقطاع الخاص حالياً مصدر تكلفة للخزانة العامة (لنقل مركز تكلفة cost center) وفقاً لمصطلحات محاسبة الشركات! الشراكات التي ستقوم بين الحكومة والقطاع الخاص ينبغي أن تجلب للخزانة العامة دخلاً متنامياً، بحيث يمثل البند الأثقل وزناً ضمن بنود الإيرادات غير النفطية، وهو البند الغائب حالياً، وبتعبير أدق هو البند "الأحمر". وبالتأكيد فلا أحد يسعى إلى أن يخسر القطاع الخاص، ولكن قواعد اللعبة لا بد أن تتغير تغيراً جذرياً لتصبح "خذ وهات"؛ عوضاً عن القواعد السائدة والعقود "هات وهات"! ولا بد من القول إنه لا فرق بين أن تكون الشراكات مع منشآت القطاع الخاص السعودية أو غير السعودية باعتبار جنسية الشركة، بل الفرق هو فيما ستقدمه الشركة من وظائف لأبنائنا، وما ستضخه من استثمارات للبلد، وما ستنتجه من سلع وخدمات، وما ستضيفه من قيمة، وما ستعنيه لتنافسية الاقتصاد المحلي.
على مدى 46 عاماً لم يتحقق هدف "كسر هيمنة النفط على الخزانة العامة وعلى الاقتصاد المحلي"، فهذا ما وثقته الخطة الخمسية الأولى، ولم نحققه حتى الآن، ولن يتحقق بمجابهة مباشرة. لماذا؟ لأننا أردنا أن يُخلصنا النفطُ من النفطِ! وهذا ما لن يفعله النفط أبداً. إذن لا بد من دخول "مواجهة" مع النفط، وهي مواجهة لن تكون دون تضحيات منا جميعاً، ولا أستثني أحداً. والمبرر لتقديم التضحيات من كل منا – أشخاص طبيعيين واعتباريين- هو تحقيق ما كنا نفتقده دائماً، وهو تذبذب أدائنا الاقتصادي نتيجة لتأرجح إيرادات الخزانة العامة، المشبعة بنكهة النفط. ومما يدل على ذلك أنه على مدى الفترة 1970-2015 حقق الاقتصاد السعودي معدل نمو متوسطه 5 في المائة سنوياً، لكنه يتأرجح صعوداً وهبوطاً بنزقٍ واضح. كيف ستكون المواجهة؟
القصة التي نعاني تبعاتها: تراجعت أسعار النفط ونحن في مزاج إنفاق عال، وكان علينا التعامل مع ذلك؛ إذ كانت هيكلة الإنفاق العام جلها إنفاقا جاريا، حيث قفز الإنفاق الجاري من 68 في المائة عام 2013 إلى 80 في المائة عام 2016. وقد أوقعنا هذا في ضرورة خفض الإنفاق، ولكن كيف؟! ونحن أمام إيرادات نفطية (329 مليارا) أقل من أن تغطي بند رواتب موظفي الحكومة وما في حكمها (513 مليارا). نظرة الحكومة بينتها بإسهاب في الرؤية السعودية 2030، بأن الخزانة ستتحرر من اعتمادها على الإيرادات النفطية، إذ تستهدف الرؤية وصول الإيرادات غير النفطية إلى تريليون ريال. لكن كيف؟!
تقوم الفكرة على إطلاق مجموعة من البرامج التي تطلق مكامن قوة الاقتصاد السعودي. فما مكامن القوة تلك؟ تحديداً: "أرامكو" السعودية، السوق المالية السعودية، استثمار الأموال العامة داخلياً وخارجياً، الخصخصة، التحول اللوجستي، التعدين، الشراكات الاستراتيجية (مع عشر دول، وهي دول مجلس التعاون ومصر وأمريكا والصين واليابان وجنوب إفريقيا والهند وبريطانيا وألمانيا)، وبرنامج للتحول الرقمي عبر إنشاء شركة للتحول الرقمي مع شركة عالمية رئيسة لتشمل تحويل 20 قطاعاً، وهذا سيدخل اقتصادنا في "إنترنت الأشياء" ضمن أمورٍ أخرى. إذن فالفكرة المحورية هي تحقيق الاستقرار المالي للخزانة بنهاية عام 2030، عندما لا يكون إيراد النفط أساسياً، وبتحقق ذلك نتحرر من "العروض غير الشيقة لبهلوانيات النفط" عندما تتلاطم أسعاره هبوطاً وصعوداً في وَقعٍ مؤلم، وكأنه مخاض ليس له نهاية أو قرار!
تعرض الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2017 بصورة مختلفة شكلاً وموضوعاً، فهي أقرب ما تكون إلى ميزانية برامج، على الرغم من أن سحنتها ما زالت تقوم على البنود، كما أن أفق الميزانية لا ينحصر في عام 2017 فقط، بل يمتد سنوات قادمة، فإطلالتها لعام 2020 تستوعب التغييرات التي من المؤمل أن يحدثها برنامج التحول الوطني، ولتحقق تلك المنظومة من برامج الرؤية السعودية 2030. واختلاف الميزانية هذا العام عن سابقاتها يشمل مرتكزات اجتماعية-اقتصادية، وليست مالية بحتة. بمعنى جعل المعطيات الاجتماعية-الاقتصادية تقود هيكلة الميزانية، وليس العكس. فالميزانية العامة الآن أداة لتحقيق "الرؤية السعودية 2030". والرؤية، كما ندرك جميعاً، تشمل تحقيق عشرات الأهداف (96 هدفاً) بما يعزز وضع المواطن والوطن. وفي هذا السياق، فتحقيق الاستقرار المالي مطلب أساسي، لكنه ليس مطلوبا لذاته فقط، بل لتحقيق مطالب عدة، ليس أقلها إعادة هيكلة شبكة الأمان الاجتماعي حتى لا يُضار منخفضي الدخل نتيجة للبرامج المتعددة التي ترمي إلى رفع كفاءة استغلال الموارد وترشيد الإنفاق، وما مبادرة "حساب المواطن" إلا جهد في هذا السياق.
ومرتكز آخر لتحقيق الاستقرار المالي، أننا إن أردنا تحقيقه فلا بد أن نتخلى عن "ثقافة الريع"، وإصلاح الأسواق لتصبح كفؤة، والحديث هنا يشمل السوق المالية وسوق السلع والخدمات وسوق العمل، وهي جميعاً تعج بالتشوهات. ولا يبدو أننا في عجلةٍ من أمرنا للرفع من كفاءة تلك الأسواق، فأهم دعائمها المنافسة بمنع الاحتكار، وبسهولة الدخول في السوق والخروج منها، كما أنه من الضروري ألا نتدخل في التسعير، بل نجعل السوق هي التي تسَعر! ومن لا يستطيع شراء السلع الضرورية، فمسؤولية الخزانة العامة أن توفر له احتياجاته من تلك الضروريات، سواء أكانت مأكلا أم مشربا أم مسكنا أم رعاية صحية أم تعليما أم طاقة. كما أن الاستقرار المالي سيعني أن يدفع الجميع مقابل ما يحصل عليه من خدمات، وإلا فكيف سنتخلى عن "ثقافة الريع"؟!
هنا علينا أن نفرق بين الرسم، وهو ضريبة، وبين "ثمن" لخدمةٍ تُقَدم بمقابل. ولا مجال لتناول نظرية "الثمن" بأي تفصيل، لكن تكفي الإشارة إلى أن للسلع "تكلفة" و"قيمة" و"سعراً أو ثمناً"، وبالنسبة للسلع التي تُسَعر من قبل الجهات الرسمية، فهي تحدد ثمنها؛ هل تُقدم السلع بسعر دون التكلفة أم لا، لاعتبارات اجتماعية-اقتصادية. منذ بداية عام 2016، قررت الحكومة، وفقاً لما ورد في بيان الميزانية العامة للعام المالي الحالي (2016)، وضمن الجزء الذي تناول الإصلاحات الاقتصادية والمالية والهيكلية، إعادة النظر في أثمان السلع المُعانة، حيث ورد نصاً: "مراجعة وتقييم الدعم الحكومي، ويشمل ذلك تعديل منظومة دعم المنتجات البترولية والمياه والكهرباء وإعادة تسعيرها، يراعى فيه التدرج في التنفيذ خلال الخمسة أعوام القادمة، لتحقيق الكفاءة في استخدام الطاقة، والمحافظة على الموارد الطبيعية، ووقف الهدر والاستخدام غير الرشيد، والتقليل من الآثار السلبية على المواطنين متوسطي ومحدودي الدخل، وتنافسية قطاع الأعمال".